ياسر الزيات
واصل مهاتير هجومه علي الثقافة الغربية، إلي حد وصفها في كتاب له صدر عام 1994 بالاشتراك مع شيناترو إيشيهارا، بـ «الانحطاط الحضاري» وقال إنه «علي الولايات المتحدة الاستفادة من دروس النجاح في شرق آسيا، وقبول القيم الآسيوية وليس الالتفاف عليها». وتكمن أهمية تجربة مهاتير محمد في أنه لم يكتف بوضع أفكار نظرية مجردة بل ترجمها فعليا في شكل سياسات قابلة للتنفيذ، وربما كان دخوله السياسة من بوابة الطب عاملا مهما في اعتماده التفكير العلمي منهجا للتنمية والحكم معا، وإيلائه اهتماما خاصا بتحويل ماليزيا من بلد زراعي يعيش علي زراعة المطاط وتصديره إلي نمر اقتصادي يعيش علي تصدير التكنولوجيا، ويجني منها عائد صادرات قيمته 59 مليار دولار سنويا ويحقق فائضا في ميزانه التجاري قيمته 25 مليار دولار سنويا، ويصل دخله القومي إلي 215 مليار دولار، ويقف ـ بذلك ـ ندا للدول الغربية التي طالما نظرت إلي بلاد مثل ماليزيا باعتبارها لن تتجاوز ـ يوما ـ كونها ترسا في عجلة العولمة.
وعندما انتخب مهاتير محمد رئيسا للوزراء لم يتفرغ لتوزيع الابتسامات علي الكاميرات، وإطلاق التصريحات الكاذبة حول قوة الاقتصاد الماليزي، ولم يتوجه إلي الصين أو أستراليا ليشحذ فرص عمل لمواطنيه العاطلين، أو ليتسول دعما لمشاريع وهمية، لكنه بدأ فورا في تطبيق أفكاره التي ناضل من أجلها، وبادر مهاتير في خطاباته إلي التمسك بالقيم الآسيوية وتوجيه انتقادات حادة إلي ما سماه «المعايير الغربية المزدوجة»، ونفذ مشاريع ضخمة حقيقية عمقت لدي مواطنيه ـ علي اختلاف أعراقهم ولغاتهم ودياناتهم ـ إحساسهم بالفخر والعزة الوطنية، وكان بين هذه المشاريع بناء مبني «بتروناس» الذي يعتبر ـ الآن ـ أطول مبني في العالم، وإنشاء الطريق السريع متعدد الوسائط وبناء العاصمة الذكية: بوتراجايا، بتكلفة 5.3 مليار دولار، علي أحدث نظم التخطيط العمراني، لتكون عاصمة إدارية جديدة لماليزيا، تخفف الضغط عن عاصمتها التاريخية كوالالمبور. وبوتراجايا هي نفسها، العاصمة التي شهدت انعقاد المؤتمر الإسلامي قبل أسبوعين من تقاعده، وألقي فيه مهاتير محمد كلمة قال فيها: «علي المسلمين أن يوازنوا بين دراستهم للدين ودراستهم للعلوم والرياضيات». وكان حريا بالزعماء الذين حضروا المؤتمر أن يحولوا كلمة مهاتير إلي برامج عمل لتطوير بلدانهم، بدلا من الاكتفاء بالتصفيق، ولكن هذا لم يحدث، وربما لن يحدث، مادامت الأولوية في هذه البلاد للبقاء في السلطة أطول فترة ممكنة.
قد يختلف المرء مع مهاتير محمد في الكثير من أفكاره، مثل التنمية علي حساب الديمقراطية في مراحل التحول الاقتصادي، لكنه لن يستطيع أن يمنع نفسه من احترامه والإعجاب به، وهو ما يفعله الغربيون أيضا
Tuesday, November 4, 2008
Subscribe to:
Post Comments (Atom)
No comments:
Post a Comment