Sunday, January 6, 2008

اكّلم ورحرح!

بقلم د.محمود خليل

صرخ الدكتور أحمد نظيف في بيانه أمام نواب الشعب خلال الأسبوع الماضي قائلاً إن عدد خطوط المحمول المتداولة في أيدي المصريين وصل إلي ٣٠ مليون خط، وقد أراد كبير المسؤولين بهذه العبارة التعريض بذلك الشعب الذي يدعي الفقر علي حكومته «الغلبانة» كي يبتز أموالها!، في الوقت الذي يرفل فيه أبناؤه في الثراء،
وليست تلك هي المرة الأولي التي يستخدم فيها رئيس الوزراء هذا النوع من الخطاب في مواجهة أي مساءلة عن معاناة الناس نتيجة ارتفاع الأسعار وضعف الدخول، فقد سبق أن تحدث - في أحد البرامج التليفزيونية - عن تزاحم المصريين علي السوبر ماركتات وخروجهم منها محملين بالأطايب من الطعام والشراب وخلافه، رغم ما يدعونه من فقر ومن حاجة إلي الدعم!.
ويذكرني هذا الأسلوب في تحليل معاناة الملايين من فقراء المصريين بالطريقة التي يتحدث بها بعض الموسرين عن المتسولين.
فما أكثر ما تسمع هؤلاء يقولون في معرض حديثهم عن متسول معين إنه يدعي الفقر رغم أنه يجمع ألوف الجنيهات التي ينفقها علي بناء العمارات واقتناء السيارات وشراء خطوط المحمول، ويبدو أن حكومة الدكتور نظيف تنظر إلي الكثير من رعاياها علي أنهم من هذا النوع أو الصنف!.
وتكشف هذه الطريقة في التفكير عن عدم اقتناع الحكومة بوجود مشاكل معيشية حقيقية تواجه المصريين ونظرتها إلي الناس علي أنهم مجموعة من البشر الذين يحاولون ابتزار الحكومة حتي آخر جنيه في جيبها، رغم ألوف الجنيهات التي ترتع في جيوبهم!،
وعلي الرغم من عدم وجود مشكلات حقيقية تؤرق عليهم ليلهم وتنغص عليهم نهارهم فإنهم لا يملون من الصراخ والشكوي للحكومة من ارتفاع أسعار السلع والخدمات بصورة تفوق طاقتهم وتزيد علي احتمالهم. فالدكتور نظيف يريد أن يؤكد لنا أن المشكلة ليست في الحكومة التي تتاجر علي الشعب، بل في الشعب الذي يتاجر علي الحكومة حتي آخر جنيه في جيبها المفلس لكي يأخذه ويضعه في جيبه العامر.

ومن يرد أن يتأكد من ذلك عليه أن يتذكر هذا الرقم المذهل لعدد خطوط المحمول في مصر والذي استوقف الدكتور مهندس أحمد نظيف وجعله ينظر إلي المصريين علي أنهم شعب غني يمتلك أفراده ٣٠ مليون خط محمول!.
وأتصور أن الرجل نسي أن يستدعي من ذاكرته أو أن يكلف مستشاريه بجمع أرقام أخري عن ظواهر مختلفة تبرهن بنفس الطريقة علي ثراء المصريين مثل عدد أجهزة التليفزيون والثلاجات والغسالات التي تنتشر في بيوت المصريين بالملايين، وقد يتفوق عددها - وأيضاً سعرها - علي مجموع وقيمة ما يمتلكه المصريون من خطوط وأجهزة المحمول.
تلك الأرقام كان من الممكن أن تسعف ذاكرة الدكتور نظيف في ظل عدم اتساعها لتخزين أرقام أخري من عينة حصيلة الضرائب التي تجمعها الحكومة والتي بلغت خلال ثلاثة أشهر فقط (من يوليو حتي سبتمبر ٢٠٠٧) ١٧.٨ مليار جنيه كما جاء علي لسان الدكتور يوسف بطرس غالي وزير المالية، وغيرها من الأرقام التي حصلتها الدولة من بيع ما كان يطلق عليه أملاك الشعب من مشروعات القطاع العام، وبيع الأراضي في سيناء والقاهرة الجديدة وغيرها من المدن الأخري لمستثمرين عرب وأجانب، هذه الأراضي التي لم ترثها الحكومة عن أمها وأبيها وإنما هي شرك بين المصريين جميعاً، كل هذه الأرقام وغيرها لم يتذكرها الدكتور نظيف، لكنه تكلم «ورحرح» - أقصد براحته - وهو يشير إلي خطوط المحمول التي تتجول في أيدي المصريين بالملايين.
والأمر الذي يجب أن يفهمه الناس أن بيزنس الموبايلات في مصر يعد فخاً نصبته الحكومة للمواطن بالتعاون مع بعض أحبائها من رجال الأعمال حتي تستنزف آخر نصف جنيه في جيب المواطن. فالدكتور نظيف يعلم أن السلعة الوحيدة التي انخفض سعرها في مصر خلال السنوات الأخيرة هي خطوط المحمول، ويكفي أن نشير إلي أن سعر الخط الشعبي انخفض من ١٢٥٠ جنيهاً عند بداية ظهوره إلي ما لا يزيد علي ثلاثين جنيهاً حالياً، بل من المتوقع أن ينخفض ثمنه أكثر وأكثر، وقد يصبح خلال فترة زمنية قصيرة بالمجان، أو يوزع للأطفال كجوائز داخل أكياس «الشيبسي».
والدكتور نظيف كخبير اتصالات يعلم أن وزارته قد خفضت مؤخراً سعر الخطوط التليفونية الثابتة (المنزلية) لأن القيمة لم تعد للخط، بل أصبحت للمكالمات التي تحصل الدولة وشركات المحمول علي جانب كبير من أموال المصريين من خلالها.
عبارة «اتكلم براحتك» التي تملأ شوارعنا لا تمثل مجرد شعار يرفعه أصحاب بيزنس الموبايلات بشرائحهم المختلفة بل هو شعار ترفعه الحكومة بأكملها، يكفي أن نراجع بيان الدكتور نظيف - الذي ذكر فيه عدد خطوط المحمول في مصر كدليل علي ثراء هذا الشعب - حيث تكلم الرجل براحته، في حين ترك نواب المعارضة يصرخون براحتهم، ونواب الحكومة يصفقون براحتهم، فكله يجب أن «يتكلم براحته»، لأن الكلام أصبح هو المجال الأكبر والمساحة الأكثر اتساعاً للاستثمار وتحقيق الأرباح في مصر، وهو يعكس - كما يذهب الدكتور نظيف وغيره ممن يفكرون بنفس الطريقة - حالة الشعب المصري الغني الذي يريد «الاستنطاع» علي الحكومة.
إنني أتصور أن المسكوت عنه في عبارة الدكتور نظيف حول الثلاثين مليون خط محمول يحمل نوعاً من الإهانة للناس، وسيكون السكوت عليها مهانة أكبر، وأقترح الرد عليها بالسكوت لمدة يوم عن استخدام التليفون، فلو أن الناس امتنعت عن الكلام في التليفونات لمدة يوم واحد لعلمت هذه الحكومة الأدب وأعطت كبيرها درساً في أصول اللياقة عند الحديث عن شعبه.

No comments: