خليل العناني
لم تعد أزمتنا في مصر ترتبط بوجود نظام سياسي "متحلل" يقف ضد نواميس الكون، أو في سيطرة نخبة كومبرادورية (فاسدة) تمتص قوت الشعب كي تنفخ به كروشها وجيوبها، وإنما هي في مجتمع بات يأكل نفسه ويعيد إنتاج أزماته كما لو كان فيروساً يتحوّر كلما اشتدت مقاومته.
فعندما يصبح الاقتصاد الوطني حكراً علي مجموعة من "المرتزقة" يفعلون به كما يشاءون تحت ادعاءات اقتصاد السوق والحرية الاقتصادية، فهذا مجتمع يأكل نفسه!! وعندما يحظي فيلم يحض علي الرذيلة ويشوه ثقافتنا ويدمر قيمنا تحت دعوي التحريض الثوري، ويحقق أعلي الإيرادات (حين مسخرة) .. فهذا مجتمع يأكل نفسه!!
وعندما يصبح ممثل أبله وأخر "عبيط" وثالث "هايف" هم سادة القوم ومصدر فخره .. فهذا مجتمع يأكل نفسه!! وعندما يقوم كاتب "ناشئ" بالتهكم علي تيار سياسي بأكمله (اليسار) ويصمه بالفشل والحماقة ومحاولة محوه من التاريخ بجرة قلم .. فهذا مجتمع يأكل نفسه!!وعندما يصبح الفن مصدراً للتنويم "المغناطيسي" الشعبي ومفعوله أشبه بمفعول "الأفيون" في عقول الشباب .. فهذا مجتمع يأكل نفسه!!
وعندما يتحول عاطل وفاشل كي يصبح مليونيراً بين ليلة وضحاها بسبب بلاهة و"جشع" البعض منا (مليونيرات ساقية مكي وقليوب وأبو زعبل) .. فهذا مجتمع يأكل نفسه!! وعندما تصبح حياة المواطن مجالاً للتفاوض والتسعير والمزايدة (حادثة الفتاة السعودية) .. فهذا مجتمع يأكل نفسه!! وعندما يصل عدد المباني المفترض تنكيسها إلي أكثر من مائة ألف عمارة تحوي بداخلها قرابة ثلاثة ملايين نفس بشرية تنتظر قيام ساعتها دون أن يتحرك أحد.. فهذا مجتمع يأكل نفسه!!وعندما يصبح انتقال "لاعب" من ناد إلي ناد مدعاة لإشعال حرب أهلية (حسني عبد ربه وسيد معوض نموذجاً) .. فهذا مجتمع يأكل نفسه!!
وعندما يحتكر مواطن واحد اسمه (أحمد عز) 63 بالمائة من سوق الحديد باعتراف الحكومة و(تشجيعها) ولا يقوي أحد علي ردعه .. فهذا مجتمع يأكل نفسه!!وعندما تستباح أراضي الدولة ويتم توزيعها علي بعض الفاسدين دون رقيب أو حسيب (أراضي وزارتي الزراعة والإسكان) .. فهذا مجتمع يأكل نفسه!! وعندما يصبح رفات شهداءنا أدني كرامة من رفات الصهاينة ولا ينتفض لذلك مسؤول أو يشعر بالخزي والعار .. فهذا مجتمع يأكل نفسه!!
وعندما تقوم بعض صحفنا "المستقلة" بالارتزاق ورفع أرقام توزيعها علي حساب السلام الاجتماعي وعقدنا الوطني.. فهذا مجتمع يأكل نفسه!! وحين تنقسم النخبة، أو ما يفترض أنها كذلك، حول مبادرة جريئة لوقف العنف وحفظ الدماء لمجرد رغبة البعض في الظهور.. فهذا مجتمع يأكل نفسه!!وعندما تتحول قصاصات صحفية مصدراً لنثر بذور الفتنة الدينية (حادثتي إسنا والأقصر) دون أدني مراعاة للتوازنات الطائفية والعلاقات الاجتماعية في بلدنا .. فهذا مجتمع يأكل نفسه!! وعندما يتطاول البعض علي تاريخنا ويسعي للزعامة علي حساب نسيجنا الوطني ورباطنا الأخوي فيصدر بيانات تحريضية ويعقد ندوات ولقاءات ابتزازية .. فهذا مجتمع يأكل نفسه!!
وعندما تستجدي النخبة والمثقفين عطفاً من هذا المسؤول أو ذاك من أجل "تخليص مصالحها" .. فهذا مجتمع يأكل نفسه!! وعندما يتدني بعض مثقفينا وصحفيينا في مطالبهم من أجل الحصول علي معونة من الحكومة أو كي يصبحوا ضيوفاً علي موائد المسؤولين ورجال الأعمال .. فهذا مجتمع يأكل نفسه!!
وعندما تفتقد جماعة كبيرة ومنظمة (الإخوان) إلي عقل سياسي وتصبح مجرد ترس في ملحمة الفوضي والعبث الاجتماعي دون القدرة علي تغييره .. فهذا مجتمع يأكل نفسه!!وعندما تصبح أحزابنا أوكاراً للعاطلين والمرتزقة والطامحين في امتطاء جواد السلطة تحت أي مسمي .. فهذا مجتمع يأكل نفسه!! وعندما تتحول "حقوق الإنسان" إلي "سبوبة" يتاجر بها البعض من أجل حفنة دولارات .. فهذا مجتمع يأكل نفسه!!
وعندما تفتقد 90 بالمائة من مشروعات الدولة إلي دراسات الجدوي والمتابعة دون رقيب أو حسيب (باعتراف رئيس الجهاز المركزي للمحاسبات في أهرام الجمعة 11 يناير 2008) .. فهذا مجتمع يأكل نفسه!!
إذا المشكلة في بلادنا لم تعد تتعلق بقهر السلطة للشعب، فهذا ناموس السياسة وقانونها، بيد أن الأخطر هو أن يتحول القهر كي يصبح صناعة شعبية محضة تمارسها فئات المجتمع وطبقاته تجاه بعضها البعض كما هي الحال الآن. ويبدو الأمر كما لو كان حقيقة تاريخية تكاد تكون ملازمة لتاريخنا الطويل، كما لو كانت أقرب لردة فعل تلقائية علي قهر السلطة، وأشبه بحال سيكولوجية، تزداد سخونة كلما شاخت السلطة، حينئذ يتحول المجتمع كله إلي قطيع من الذئاب، ينهش بعضه بعضاً من أجل الحصول علي ما تبقى من تركة السلطان، ونهب كل ما تقع أيديهم عليه.وهي ظاهرة يرصدها التاريخ منذ أيام الملك العجوز "بيبى" قبل خمسة آلاف عام، والذى شهد أول ثورة في التاريخ بسبب انتشار الجوع والفقر، وحتي سلاطين الدولة العثمانية وأمراء المماليك الذين ما فتئوا يتصارعون مع الأيوبيين علي فتات الباب العالى.وخلال العصر الحديث، شهدت مصر جميع أنواع القهر الاجتماعي، حتي يكاد التاريخ المصري طيلة المائتى عام الأخيرة يسطَّر من خلال تاريخ الفقراء والمقهورين.
أو ليس غريباً أن جميع الثورات التي شهدتها مصر لم تقم لأسباب سياسية ابتداءً؟ بل الأنكي أنها لم تكن موجهة للاحتلال الأجنبى، بقدر ما كانت ثورة علي القهر الاجتماعي والفساد الاقتصادى؟ فثورة عرابي "رغم محدوديتها"، كانت تستهدف إصلاح القصر الملكي "الخديو توفيق" احتجاجاً علي فساد العائلة المالكة وحاشيتها، ورهن البلاد في أيدى الصيارفة الأجانب. كما كانت ثورة 1919 تعبيراً عن تمرد اجتماعي واقتصادي علي الأوضاع الاحتكارية والإقطاعية التي انتشرت في البلاد آنذاك. وثورة يوليو 1952 وإن اقتلعت الفساد الملكي من جذوره وأعادت الملكية للشعب إلا أنها رسخت الفساد والاستبداد الفردي بكل معانيه.لينظر كل واحد منا إلي نفسه في المرآة، سيجد نفسه أمام نسخة متطابقة من ذلك "المصري" القديم الراكع تحت أقدام الملك -الإله، ينشد رضاه، ويطلب جوده وكرمه. وهى حال سيكولوجية تتكرر معنا كل يوم في الداخل والخارج، صورة العبد الذليل أمام رب عمله، وكأنما يهبه الرزق والحياة، وصورة الفرد الفقير الذى يستدر عطف الغنى، وصورة المرؤوس الذي ينشد رضا رئيسه، وإذا ما وضعت هذه الصور إلي جوار بعضها البعض، لوجدت نفسك أمام لوحة معمارية كبيرة تجسد جميع معاني القهر الاجتماعي في مصر.
إن معضلتنا ليست في وجود الديمقراطية من عدمها، فذاك ترف لم ندفع فاتورته بعد، وإنما في غياب قوة اجتماعية تتمتع بحس أخلاقي رفيع، ولديها منظومة قيمية منزّهة عن الهوي "الذاتي" يمكن أن تمثل مصدر إلهام لليائسين والمحبطين والهائمين علي وجوههم صباحاً ومساءاً لسد رمق العيش. بل بالأحري نحن في حاجة إلي مجتمع جديد واثب يمكنه إعادة بندول الأخلاق والقيم والعمل (إحياء الروح العامة) إلي مكانه الطبيعي، وهو ما لن يحدث دون القيام بجراحة عقلية تبدأ من المنازل والمساجد والكنائس وحجرات التدريس، وبدون ذلك سنظل وإلي الأبد مجتمعاً يأكل نفسه!!
Saturday, January 12, 2008
Subscribe to:
Post Comments (Atom)
No comments:
Post a Comment