د.كمال مغيث
هل نسأل أنفسنا لماذا يذهب أبناؤنا للمدارس؟ وأعتقد أن السؤال علي بساطته مباغت ومستفز، غير أن إجابته الوحيدة الصحيحة أو النموذجية- إن شئنا استخدام مصطلحات التعليم- أكثر مباغتة واستفزازا. فلن يستطيع أحد أن يجيب بان أبناءنا يذهبون إلي المدارس لكي يتعلموا، فأي تعليم هذاعلي مناهج عفي عليها الزمان تكرس صناعة الحفظ والتلقين والذاكرة والامتحان...إلخ تلك المنظومة البائسة التي شاخت وتعفنت وأصبحت تضر أكثر مما تفيد .
ولعل نظرة واحدة إلي حال أبنائنا من خريجي المدارس والجامعات تؤكد ما نذهب إليه ، وانظر بنفسك إلي طبيعة تعامل أبنائنا مع الصحافة والكتب، وطبيعة تعاملهم مع قضايانا الحياتية والثقافية ومنهج تفكيرهم في تلك القضايا إذ أنك لن تجد في النهاية سوي التطرف، وفي أحسن الحالات لن تجد سوي السطحية والاغتراب، ويكفي ما نشاهده من التفاف الشباب وحفاوة وسائل الإعلام بما يقوله ويكتبه واحد مثل الشيخ زغلول النجار مثلا، وهو كلام لا يمت بصلة لا إلي العلم ولا إلي المنهج العلمي. ومن البديهي إن ليس هناك تعلم حقيقي يقوم علي فكرة حفظ المعلومات المفككة والمقطوعة الصلة بالواقع من ناحية وبمنهجيات التفكير العلمي من ناحية ثانية.
وإذا كان الأمر كذلك وأن من الصعب التسليم بأن أبناءنا يذهبون إلي المدارس من أجل العلم، تصبح الإجابة الوحيدة والصحيحة والنموذجية أنهم يذهبون إلي المدارس من أجل الحصول علي الشهادة، والحصول علي تلك الشهادة ليس له سوي باب وحيد أوحد هو الامتحان.
وهكذا أصبح الامتحان هو الغاية من الذهاب إلي المدارس وأصبح الامتحان ليس محورا للعملية التعليمية بل بديلا لها، وأصبح كل ما يساعد علي دخول الامتحان والنجاح فيه مقبولا، مهما كان غير مفيد وغير مشروع وغير أخلاقي وغير قانوني ولعلنا لم ننس تلك المعارك الضارية التي خاضها وزير التعليم الأسبق ضد من اسماهم مافيا الدروس الخصوصية ومن الحق ان نعترف بان تلك المعركة قد فشلت فشلا ذريعا في الحد من الدروس الخصوصية فضلا عن القضاء عليها ومن الحق أن نعترف أيضاً أن الوزير قد دخل تلك المعركة وحيدا فلم يكن معه الطلاب ولا المعلمون ولا أولياء الامور ومن الحق أيضاً أن نعترف أن الهزيمة كانت حتمية طالما ظل الامتحان يقيس كمية ما حفظه الطالب من معلومات وليس ما فهمه واختبره وتعامل معه وانفعل به وجربه، وحول الامتحان أيضاً ازدهرت الكتب الخارجية و مذكرات الدروس الخصوصية التي تبتذل المعلومات وتفككها وتمزقها حتي تصبح بلا معني ولا مضمون ومع ذلك فهي الوسيلة المضمونة للنجاح يشتريها الطلاب ويحفظونها عن ظهر قلبوأصبح من النادر أن تجد بيد طالب كتاب الوزارة المقرر، وأصبح الطلاب يتسلمون الكتب ويركنونها في منازلهم وربما لا يفتحونها مطلقا، وتلك الكتب في الحقيقة تنفق عليها الوزارة عدة مليارات من الجنيهات، ويقوم عليها مركز تطوير المناهج والمواد التعليمية ولا يعلم أحد أي تطوير هذا.ومع توحش ظاهرة الدروس الخصوصية - التي يسميها أستاذنا سعيد إسماعيل علي السوق الموازية للتعليم - أصبح الذهاب إلي المدرسة نفسها مضيعة للوقت.
وباختصار شديد فقد أصبح الامتحان هو كعب اخيل العملية التعليمية في مدارسنا بل وجامعاتنا.ولم يعد ذلك الامتحان هو محور التعليم فحسب بل محور حياة الطالب وأسرتهولن أتحدث هنا عن ظواهر الغش الجماعي والغش الفردي وتفشي ظاهرة البرشام وتفنن الطلاب فيه والتي أصبحت من الأخبار المثيرة والشهيرة في أيام الامتحانات. ولقد ارتبط بظاهرة عملقة الامتحان أن انصرف الطلاب عن الأنشطة والمقررات والمناهج التي لا يربطها بالامتحان صلة مباشرة، وتحت وطاة الظروف والأعباء المالية شايعت الوزارة الطلاب في هذا الانصراف، وهكذا اختفت من مناهجنا ومن مدارسنا كلها أنشطة الموسيقي والغناء والمسرح والتمثيل وأنشطة الفنون من الرسم والزخرفة والخزف وما يرتبط بكل هذا من معارض ومسابقات كما اختفت حصص التربية الزراعية واختفت الصوبة وحصص صناعة المربي وغيرها من المنتجات الزراعية.إنني هنا لا أتحدث عن أنشطة ترفيهية تكميلية تافهة، إن تلك الأنشطة هي ميدان التعليم الحقيقي ولعلي لا أبالغ أن قلت إن تلك الأنشطة هي التي عصمتنا ونحن طلاب من الانخراط في جماعات التطرف والإرهاب - ولهذا حديث آخر.إن الخطورة الحقيقية وراء تلك الحال السيئة التي وصل إليها التعليم في ظل هيمنة وتوحش الامتحان لا تعود إلي ماسبق الحديث عنه من ظواهر فحسب بل تعود إلي غياب الأسئلة الحقيقية والجوهرية حول التعليم حتي بين مثقفينا واكاديميينا وصناع السياسات والتشريعيين والتنفيذيين وغيرهم.
انظر مثلا إلي المقالات التي تهتم بالتعليم في صحفنا ودورياتنا فلن تجد سوي مناقشات فنية تجزيئية مثلا هل ندرس النحو منفصلا أم عبر دروس الأدب والنصوص؟هل ندرس التاريخ منفصلا أم مع الجغرافية في مادة واحدة تسمي الاجتماعيات؟هل التربية الدينية ينبغي أن تحسب درجاتها في الامتحان أم لا؟ثم حديث عن مستوي الامتحانات والأسئلة التي من خارج المقرر والتي من داخله.المهم أنه في ظل هذه المعمعة كما قلت غابت الأسئلة الجوهرية التي ينبغي أن ينشغل بها الناس بوجه عام والمثقفون والمفكرون بوجه خاص.ومن تلك الأسئلة علي سبيل المثال لا الحصر:ماهو المنهج العلمي وما هو العلم وكيف نفكر بطريقة علمية؟من نحن؟ ومن هم الآخرون؟ وهل نظل نحن علي حق دائما؟ ويظل الآخرون علي باطل دائما؟ماهي الحرية؟ وما هي حدودها؟ وما هي الديمقراطية؟ وما هي ملامحها؟ وما القانون؟ ولماذا القانون؟ وماهي السلطة؟ وكيف تتكون السلطة؟ ولمن تكون السلطة؟ ماهو الدستور؟تلك هي الأسئلة التي أغفلناها منذ نسينا أن نسأل أنفسنا ذلك السؤال البدهي لماذا يذهب أبناؤنا للمدارس؟
Friday, January 25, 2008
Subscribe to:
Post Comments (Atom)
No comments:
Post a Comment