بقلم د. معتز بالله عبدالفتاح
أكره اليأس كراهيتي للعجز، ولكنني أجد نفسي قريباً منهما حين أطالع أخبار مصر، وأتذكر خبرتي مع أهلها لمدة عامين قضيتهما فيها قبل أن أقرر الرحيل عنها مرة أخري. فقد كنت أجتهد في الدراسة والاطلاع أثناء وجودي بالخارج علي افتراض أن مصر قد أصابها فيروس التخلف وقد تحتاج لبعض أمثالي كي يساعدوها علي أن تبرأ مما أصابها. والتخلف هنا ليس وصفاً شائناً، وإنما هو مصطلح فني يشير إلي دولة، أي بنية سلطة ومؤسسات حكم، ومجتمع، أي أفراد تنتظمهم جماعات وتجمعات.
قد أخفقوا في أن يستفيدوا مما كان متاحاً لهم من فرص للنهضة والرقي مقارنة بأقرانهم. فتخلفهم ليس صفة أصيلة فيهم وإنما هو وصف لحالتهم حين نقارنهم بغيرهم ممن دخلوا معهم نفس الاختبار وحققوا نتائج أفضل منهم.
ولكن خبرة العامين اللذين قضيتهما في مصر أوضحا لي أن المسألة قد تخطت مشكلة التخلف والذي يعالج عادة بالعلم وإعادة النظر في البنية المؤسسية وفي القوانين الحاكمة لمؤسسات الدولة وتسييرها علي القواعد المتعارف عليها من الحكم الرشيد.
لكن المشكلة أصبحت معضلة، لأن المرض أصاب بنية القيم والأخلاق في الأفراد، فبدلاً من مشكلة تخلف الدولة ومؤسساتها أصبحنا أمام معضلة فساد المجتمع وأفراده. فالمصريون ليسوا متخلفين عن غيرهم فقط، ولكن قطاعاً واسعاً منهم فسد، لدرجة أنه من مصلحته الأصيلة استمرار هذا التخلف فاجتمع في مصر أكبر مرضين تصاب بهما الأمم: التخلف والفساد.
وقد قرأت خبراً ومقالاً أثارا عندي موضوع هذا المقال.
ولنبدأ بالخبر الذي نشرته صحيفة »البديل« في 23 يناير 2008 عن مجموعة من التصريحات المنسوبة إلي المستشار عدلي حسين، محافظ القليوبية، والذي له خبرة طويلة بدهاليز صنع القرار السياسي في مصر، والذي يعبر عن رؤية موجودة، وغالباً سائدة، عند أفراد جهاز الدولة من ساسة وبيروقراطيين. قال الخبر نقلاً عن السيد المحافظ: »الشعب المصري تضربه.. يقولك ضرب الحكومة شرف. وأرجع المحافظ صمت الشعب المصري علي الغلاء إلي أن الشعب دبر نفسه بعيداً عن الحكومة.. وسايبنا إحنا المسئولين نركب عربياتنا السودا ونشرب نسكافيه، والشعب لوحده معندوش مشكلة، شعب مش مزعج، نرفع نسبة الاختلاس تترفع نسبة الرشوة معندوش مشكلة«. وجزء آخر من الخبر يقول ما يلي: »وكشف المحافظ - بأريحية شديدة - تكتيك النظام في التعامل مع خصومه، حين قال: أيمن نور اتحاكم أمام محكمة جنائية، وبعدين ناس تسأل هو التزوير الوحيد في البلد؟ أنا بقول هو كده، اللي هيكعبل الحكومة هاطلع له.. الجرائم موجودة ومحفوظة عندنا في الدرج، منفعتش دي، حتكون دي، وكله موجود«.
هذه تعليقات كارثية، إن صحت وتحمل الكثير من الدلالات لكنني سأركز علي اثنتين منها: الأولي كأن هناك عقد غير مكتوب لكنه متفق عليه بموجبه تترك الحكومة، بحكم عجزها ومن ثم تخلفها، لأفراد الشعب مساحة من الفساد، بحكم قابليته للفساد واضطراره إليه. هذه المساحة من الفساد هي واحدة من أسباب استقرار الأوضاع في مصر، لأن المراكز المالية والحيثيات الاجتماعية والسلطة السياسية، استقرت علي وجود هذه المساحة التي تتركها الدولة للأفراد، طالما أنهم يمارسون هذا الفساد بعيداً عن تهديد بنية الحكم.
وهو ما يبدو من الدلالة الثانية، حيث إن الحديث عن أيمن نور باعتباره »مزوراً« لم يكن المشكلة، فالمزورون كثيرون لكنه »كعبل الحكومة«، أي وقف في طريقها فكان الحال هو أن تخرج له الحكومة من الجرائم الموجودة والمحفوظة في الدرج، بما ينال منه ومن أي شخص ينجح في أن يكون لنفسه أو لفكره مكانة يجتمع حولها قطاع من الناس بما يهدد بنية الحكم والقائمين عليه. إن صحت هذه التصريحات أولاً، وإن عبرت عن توجهات قطاع واسع من رجال الحكم ثانياً، إذا فنحن بصدد حكومة تسيير أعمال المجتمع بما يحافظ علي مصالح أفرادها في الأساس، وعليه، فإنه لا مجال للحديث عن ديمقراطية حقيقية أو تداول سلمي للسلطة باعتبار هذه وتلك »كعبلة« للحزب الحاكم ورجاله الذين أدوا ما عليهم بأن تركوا مساحة واسعة من الفساد للمدرسين عن طريق الدروس الخصوصية، وللموظفين عن طريق »الشاي« والإكراميات، وهكذا. ويبدو أن هذه المساحة من الفساد لم تكن كافية لإطعام كل فم، وإخراس كل لسان، فبدأت تخرج بعض فئات المجتمع في اعتصامات وإضرابات لأنها لم تأخذ من فطيرة الفساد التي أعدتها الحكومة ما يكفيها للحياة المعقولة. وكأن المفهوم ضمناً من تصريحات سيادة المحافظ، أن النخبة الحاكمة في مصر ليست فقط عاجزة عن علاج مشاكل مصر، لكنها لن تسمح لغيرها أن يعالجها لأنها »هتكعبله« قبل ما يكعبلها وكله موجود في الدرج«.
وهكذا بادل المواطن الحكومة سوء خلق بسوء خلق، وهو ما جسدته مقالة الأستاذ أسامة هيكل عن »المواطن النعجة والمواطن الذئب« في »المصري اليوم« بتاريخ 24 يناير 2008. وهي مقالة موجعة بحق تبدأ بقول صاحبها: »تعرضت الأسبوع الماضي لامتحان حقيقي ولا أدري إذا كنت قد اجتزته بنجاح أم لا، إذ إنني ما عدت أدرك معايير النجاح.. كل ما أدركه أن هذا البلد لم يعد يصلح وطناً بالمرة«. والقصة لمن لم يقرأها أن كاتب المقال قد وقع فريسة لنصاب يتاجر في السيراميك انطبق عليه وعيد الحق سبحانه بالويل للمطففين الذين إذا كالوهم أو وزنوهم يخسرون. وما كان منه إلا أن لجأ لعميد شرطة صديق له كي يستشيره، فكان البديل المقترح هو الضغط علي النصاب بوسائل العقاب البدني، فما كان من الأستاذ أسامة هيكل، إلا أن تردد لأنه وجد نفسه في مأزق أخلاقي تجتمع فيه قيمه التي ترفض استخدام التعذيب ضد المواطنين ومصلحته ممزوجة بجرح أصاب كرامته. ويختم مقاله بتعليق يستحق التأمل كثيراً: »ما أظلم هذا الوطن الذي يضيق الخيارات أمام أبنائه ويجعل المرء ليس أمامه، إلا أن يكون نعجة أو يكون ذئباً مفترساً. أظن أن الهجرة قد تكون حلاً مناسباً لمن يرفض الخيارين السابقين ويصر علي أن يظل إنساناً«! والغريب أن هذه القصة بدت أمام ناظري كأنها حكاية كل يوم علي أرض مصر.
والسؤال: شعب هذه حكومته، وحكومة هذا شعبها: أين الخلاص؟
Tuesday, January 29, 2008
Subscribe to:
Post Comments (Atom)
No comments:
Post a Comment