Saturday, January 26, 2008

بين النمو.. والعدالة

لميس الحديدي

"النمو وحده لا يكفي.. فغني الأمم ونجاحها في مكافحة الفقر وتحقيق التقدم مرهونان بإرساء العدالة بين الناس".. توقفت كثيرا أمام تلك العبارة التي تضمنها مقال نعيد نشره اليوم للدكتور محمود محيي الدين تحت عنوان "النمو وحده لا يكفي" والذي يقدم فيها عرضا لأحد الكتب الاقتصادية، لكنه يخلص إلي أن العدالة هي مفتاح السر لشعور الناس بمعدلات النمو الاقتصادي التي هي في ذاتها ليست أكسيرا ناجعا - كما يقول ..
والحقيقة أن إحساس الناس بغياب العدالة في مصر.. هو شعور عارم يجتاح جميع الطبقات من أفقرها إلي أغناها.. وهو الشعور الذي يضعف من سطوة دولة القانون، كما يوهن من إحساس المرء بانتمائه وبحقه وواجبه.. فيؤثر سلبا علي قيم العمل والجهد والكفاءة، في مناخ يتراجع فيه تقييم تلك المعايير لحساب الوساطة والمحسوبية والعلاقات الفاسدة. فالمواطن المصري يعرف أنه لن ينال حقه المشروع بالطرق الطبيعية سواء كان ذلك الحق فرصة عمل، علاجا، تعليما أو حتي رحلة حج أو عمرة.
وأقوي دليل علي ذلك تلك الأكوام من المشاكل التي تصلني يوميا وتصل زملائي في برامج تلفزيونية جماهيرية في انتظار أن نجد لها حلا أو مسئولا يستمع إليها أو فاعل خير ينالها بعطفه.. فما الذي يجعل سيدة مسنة تقف في عز برد الشتاء القارص علي باب ماسبيرو أو مدينة الإنتاج الإعلامي، في انتظار أن يستمع إلي شكواها أي منا.. علي أمل أن تحل مشكلتها، تلك السيدة وغيرها كثيرون يؤمنون بلا مواربة أن خلاصهم في أيدينا وليس في النظام أو القانون أو القنوات الشرعية الطبيعية أيا كان ذلك الخلاص.
ولا أظن أن تراكم تلك المشاكل علي أبوابنا أو علي بريد الصحافة دليل علي نجاحنا.. بقدر ما هو دليل علي انسداد القنوات وشعور هؤلاء - وغيرهم كثيرون - بانعدام تكافؤ الفرص وغياب العدالة في هذا الوطن. الواقع يقول إن هذا الشعور لا يجتاح الفقراء فحسب من الذين يبحثون دائما عن وساطة لتلبية احتياجاتهم الأساسية.. لكنه شعور بل قناعة لدي طبقات اجتماعية واقتصادية أعلي تستخدم وساطة أرفع شأنا وعلاقات أكثر تعقيدا للحصول علي مناقصة أو عقد كبير، أو أرض بأسعار مخفضة أو معرفة معلومات داخلية غير متوافرة لدي باقي المنافسين في نفس الوقت وبنفس القدر.. وفي ذلك تستخدم العلاقات كما قد يستخدم المال، بدءا من الاكراميات الصغيرة لموظف جمارك وانتهاء بالرشاوي الضخمة لمسئولين أكبر شأنا.
وعلي الرغم من أن كثيرا من هذه الظواهر قد تراجع - ونحن نقر بذلك في بعض المجالات وليست جميعها - فإن ذلك الشعور قد يمتد إلي المستثمر القادم إلي مصر.. والذي يصل إليه أيضا تراكم خبرات السابقين أن هناك طرقا ما للقيام بالأعمال في مصر وتحاشي البيروقراطية وتعقيد الأمور.. وهو الأمر الذي يرفع من "تكلفة أداء الأعمال في مصر" كما يطلق عليها.
فإذا كانت تلك هي العدالة ـ أو غيابها ـ في الشأن الاقتصادي.. فإن العدالة في الشأن السياسي لا تقل أهمية.. وفي كنفها يشعر المواطن بحقوقه الإنسانية الكاملة، وحقه كدافع ضرائب، وحقه المتساوي في الترشح للانتخابات أيا كان مستواها، وتكافؤ الفرص في ترقيته ووصوله إلي أعلي المناصب دون وساطة، وإلي التطلع والطموح إلي الدرجات العلي.. والأهم سيادة دولة القانون الذي لن يظلمه إذا عارض ولن يحبسه إذا اعترض ولن يعتقله إذا انتقد. إن العدل والعدالة سواء كان في أداء الخدمة أو الحصول علي فرصة عمل أو المنافسة أو تطبيق القانون، أو دخول السوق أو الحصول علي الموارد أو الترشح للانتخابات أو حتي المنافسة علي منصب رئيس الجمهورية، جميعا تقع تحت مسمي واحد.
ولن يشعر المواطن بمعدلات النمو - مهما ارتفعت - وجدوي الديمقراطية - مهما تغني البعض بها - إلا إذا شعر أن فرصته هي نفس فرصة جاره في الحياة الكريمة.
إن الطفلة التي ذكرها محيي الدين وغيرها من البنات.. لن ينتظرن تساقط ثمار النمو من أهل الغني - كما قال - هن فقط يحتجن إلي تكافؤ الفرص.. تماما كما تحتاجه السيدة المسنة التي تقف كل ليلة علي باب مبني التلفزيون.. ويحتاجه كل من يتمسكون بأن لهم حقا في هذا الوطن.

No comments: