Saturday, January 26, 2008

رفقاً بنا

د. طارق الغزالي حرب

طوال الأسبوع الماضي وأنا أفكر جدياً في إنهاء اشتراكي بقناة «أوربت» والتي ربطني بها بصفة أساسية برنامج «القاهرة اليوم» الذي يقدمه الإعلامي خفيف الدم وصاحب الأسلوب المميز عمرو أديب. وحيث إنني من مدمني مشاهدة هذا البرنامج فقد قررت أولاً وقبل أن أنهي اشتراكي بالقناة أن أكتب إليه هذه المناشدة العلنية، لعله يرفق بنا نحن المهمومين بقضايا هذا البلد وما آلت إليه أحواله بفعل منظومة الفساد والإفساد، التي بدأت إرهاصاتها في سبعينيات القرن الماضي.
ففي غضون أقل من أسبوع أفسح عمرو أديب برنامجه المتميز لمسؤولين سابقين، سواء كانوا من أصحاب السوابق وخريجي السجون أو من الهاربين أو المتقاعدين، وفي معرض دفاع كل واحد عن نفسه وإبراء ذمته أمام الناس وادعاء الشرف والرجولة والتضحية فإنه كان يضطر إلي الخوض في وقائع وحكايات تمس الآخرين.
وحيث إنهم جميعاً كانوا في يوم من الأيام يشار إليهم بالبنان، وكانوا قريبين من مراكز السلطة ومحاسيب السلطان، فإن ما تبادلوه من اتهامات وحكايات تمس ذمم المال وشرف الرجال بل تطعنها في الصميم، جعلني أشعر وكثيرين غيري بأننا نعيش في مستنقع من الفساد، ليست له حدود أو قرار، وأن ما يظهر في وسائل الإعلام ما هو إلا طفح يسير منه!!
يومان يتبادل فيهما الاتهامات مستشار سابق احتل أرفع المناصب وظل سنوات وسنوات محافظاً، مع مسؤول كبير سابق كان من المقربين، والسكرتير الخاص لوزير يضرب به المثل في طول توليه المنصب.. يتحدثون عن ملايين راحت وجاءت كما لو كانوا يتحدثون عن قروش قليلة.. ويتحدثون عن الهدايا والرشاوي كأنها حق وحقيقة، ويكشفون بلا مواراة أو خجل عن فضائح مالية وشخصية يندي لها الجبين.. وتحدث مداخلات أثناء حديثهما تزيد النفس ألماً وقرفاً وحسرة علي ما آلت إليه أخلاق مجتمع باشوات وبكوات هذا الزمن الأغبر..
فنسمع محامياً خرج لتوه من السجن ويتباهي دوماً بصلاته بكبار المسؤولين في الدولة، ويعرض نفسه عليهم بطريقة فجة لتقديم خدماته حتي لمن أذلوه وأهانوه، تسمعه يدخل في شجار وسباب بأعلي الأصوات مع سكرتير الوزير السابق بطريقة وكلمات لا يمكن أن يفهم معانيها إلا من عايش فتوات و«ردحات» حواري بولاق في زمن مضي، ويعرف بالضبط ماذا يعني تعبير «فرش الملاءة» الشهير في الأحياء الشعبية!!
ولا نكاد نلتقط أنفاسنا حتي يفاجئنا عمرو أديب بمسؤول كبير سابق في جهاز رقابي مهم، وكان ملء السمع والبصر طوال سنوات قريبة ماضية، وجدناه يحكي عن وقائع رشوة وفساد وتربح يتهم فيها رئيسا سابقا للجهاز نفسه.. يؤكدها اتصال تليفوني من هارب كبير من أصحاب شركات توظيف الأموال في السبعينيات والثمانينيات، له من الحكايات والوقائع مع مسؤولين كبار في النظام آنذاك ما تشيب له الولدان، والرجل يقول بمنتهي الوضوح والصراحة: نعم أنا كنت فاسداً، ولكني لم أكن مفسداً.. وحاسبوا من دفعني إلي الفساد قبل أن تحاسبوني.
فالرجل الذي كان علي قمة الجهاز الذي يمكن أن يجهز عليه بإشارة منه، طلب منه شراء مزرعة لا نعرف من خصصها وزرعها وهيأها له وهو في عنفوان السلطة، فيعطيه هذا الذي جمع أموال الناس بالخداع والتضليل، يعطيه شيكاً علي بياض ويقول له اكتب أنت الثمن الذي تريدني أن أشتري به المزرعة ـ تجنباً لبطشه!! حكايات واعترافات وبذاءات لا أول لها ولا آخر تذاع علي القناة الفضائية التي يراها كل الناطقين بالعربية في أنحاء الأرض.. جعلت عمرو أديب يكاد يشد شعر رأسه ذهولاً وألماً لولا ظروفه الخاصة التي تمنعه من ذلك، فاختار أن يخرج توتره وانفعاله في عمل طائرات وزوارق من ورق وهو يسمع هولاً ونشازاً وإجراماً!! لقد قال عمرو أديب ـ وهو محق في ذلك ـ إن وسائل الإعلام هي السلطة الرابعة التي من واجبها أن تكشف المستور وتظهر الحقائق للنور، ولكن أقول للعزيز عمرو..
إن هذا صحيح في حال وجود السلطات الثلاث الأخري وجوداً حقيقياً وليس مظهرياً.. وفي مجتمع اختلط فيه الحابل بالنابل واختصرت فيه السلطات الثلاث في سلطة واحدة تفعل ما تريد، فإن ما تقوم به تلك السلطة الرابعة ـ وأعني الإعلام القوي الهادف ـ يصبح عبئاً نفسياً علينا.. سوف يصيبنا بجميع الأمراض العضوية والنفسية ـ فرفقاً بنا.

No comments: