إبراهيم عيسي
أكثر ما تحتاجه مصر الآن هو التطرف.. ليس التطرف الديني الأحمق الذي يعبر عن تعصب جهول وعن جهل متعصب.
لكن مصر تحتاج بشكل عاجل وعميق لبعض التطرف، نعم تطرف أولادها من المثقفين والسياسيين أصحاب الضمائر، تطرفهم في التمرد علي الأفكار البالية، علي التمسح في السلطة، علي الرضوخ لقمع الحكم وقهر السلطة سواء هذا القمع الخشن أو الناعم، القهر الصاخب أو الهادئ الذي يتغلغل في وجدان المصريين فيجعل بعضهم مخبرين ومرشدين عند الحكام أو أذرعًا لهم تبطش وتطيش أو عونا لهم علي إخوانهم، أو مسالمين مستسلمين معاكم معاكم، عليكم عليكم، ولذلك عندما تتأمل المحيط المصري من مجتمع ينسي كرامته وكبرياءه تحت دعوي رغبته في أكل العيش وتربية العيال فينتهي به الأمر لا عارف ياكل عيش ولا العيال اتربت، تجد بيئة مشجعة علي النفاق الرخيص والمبتذل تذللا لطلب الرزق وتمسحا بالسلطة بحثا عن الرضا والصعود الوظيفي أو الطبقي، ثم تجد مجموعا هائلا من الناس ينحرف علي طريقته سواءً بالرشوة والفساد الصغير أو بالسرقة العلنية الفجة والفاجرة أو بالغش بالنصب وبإطعام الناس لحم الحمير أو تسريب أسئلة امتحانات الثانوية مثلا، ثم تجدنا جميعًا الرافض والمعارض والموافق والمتوافق كلنا متورطون في قبول الأمر الواقع، صامتون ومتعايشون مع القبح والمرض والفساد والاستبداد، ونقنع أنفسنا بأن الكل كده ،وح تعمل إيه يعني ،وما يقدر علي القدرة إلا ربنا، مصر في هذه الفترة جامدة جدا كأنها في ثلاجة مستسلمة للثبات والركود ماشية جنب الحيط ترتجف من المستقبل، حائرة بليدة لا هي تواجه ضعفها ولا هي تحاول تغيير وضعها ولا هي تتصادم مع حكامها، مصر تحترف التنكيت الخفي علي السلطة الذي هو مظهر من مظاهر التنفيس والجبن معا، يلسن ويلقح ويتشكي من رموز الفساد لكن ساعة الجد يلف ويدور ويتراجع ويتمحلس ويفوت ويتمسكن ويقبل ويتقبل ويسالم ويستسلم، هذا من أكبر معارض حتي أصغر مواطن تسمع منهم غضبا متفاوت القوة وانزعاجا من الوضع متباين الدرجة ونقمة وقرفا من الفساد والناس اللي واكلة البلد وناهبة خيرها، لكن هؤلاء جميعا بمجرد ما يناديه وزير أو يسعي له مسئول أو يكلمه ضابط في التليفون يتحول ويتلون ويهدئ من لهجته ويخفف من حدته حتي إننا لا نكاد نري بأعيننا سوي حربائيين في واقعنا قادرين علي الصمت لحظة وجوب الكلام وعلي المهادنة ساعة حتمية المصادمة ومن هنا لا يفلح أي شيء في حياتنا وتخبو جذوة المطالبة بالتغيير وتتفتت كل حركة مطالبة بالحقوق وتنفض صفوف المظاهرات وتتآكل المواثيق والعرائض، ولكن هذا التراجع المخجل يصنع لنفسه مبررا عقيما وهو الاعتدال
يعني إيه اعتدال؟
الحاكم في مصر يمتدح الاعتدال جدا، لا غرابة إذن في أن تكون السلطة والحكم والنظام في مصر دائماً وأبدا هي أكبر دعاة الاعتدال المصري المزعوم وأشد المهللين المحبذين المزينين له ومحترفي التغني المخادع الماكر به، ذلك لأن هذا الاعتدال المرضي كما يشرح دكتور جمال حمدان في كتابه «شخصية مصر» ليس فقط ضمان البقاء المطلق لهم. ولكن أيضاً ضمان التسلط والسيطرة المطلقة، فمجتمع هذا النوع من الاعتدال العاجز مجتمع بلا صراع، ومجتمع بلا صراع مجتمع من العبيد أو قطيع من الأقنان.. ويضيف حمدان: وإذا كان النظام الحاكم يباهي دائماً بما يسميه «الاستقرار» في المجتمع المصري، لاسيما في مقابل عدم الاستقرار الذي يميز معظم الدول العربية الشقيقة، فإن الحقيقة والواقع أن ذلك إنما هو استقرار الجسد الميت والجثة الهامدة، وإذا كان صحيحاً أن بعض الدول العربية وغير العربية في المنطقة تعاني فعلاً من عدم الاستقرار، فإن ما تعاني منه مصر حقيقة إنما هو فرط الاستقرار.
وها هو نظام الحكم يتغني بالمعارضين المعتدلين ويصف من يرضي عنهم من معارضين حلوين وطيبين بالاعتدال بما يملكونه من ملفوف الكلام وتمرير النفاق للرئيس مقابل ادعاء المعارضة لمن تحت يد الرئيس والتوسل للرئيس بالتدخل كالمنقذ الإلهي من فساد من حوله، يتغني النظام بمعارضي تحت السيطرة أو بالمعارضين الموتي، بوصف المعارض الجيد المعتدل هو المعارض الميت، والغريب أن النظام يعتقد أنه يجب أن يرضي عن معارضيه بل ويحدد لهم كيفية معارضته كأنها المعارضة بالاستئذان وبالأختام فمن يحصل علي إذن الحاكم وختم الحكومة فهو معارض طيب مسموح له بالمعارضة مننا وعلينا، أما الذي يمارس المعارضة كمعارض فهو هدام وغير موضوعي وغير معتدل ومتطرف يجب أن يتبرأ منه المعارضون الطيبون حتي يحصلوا علي تمام الرضا والسير في صف الاعتدال!
والمعتدلون طبعا يدعون أنهم القادرون علي الحوار مع الطغاة وانتزاع الحقوق بالملاينة والمحايلة من رموز الحكم، فالاعتدال حجة المنافقين حين يمتدحون وحجة الصحف حين تتمايع وحجة المثقف حين يتنازل وحجة المعارضة حين تتحاور وحجة الإخوان المسلمين حين ينكمشون في تنظيمهم وحجة الشعب المصري المسروق المنهوب المقموع المضروب علي دماغه فيقول إنه شعب معتدل غير دموي لديه روح السماحة والوسطية!
وهذا كله محض ادعاء وكذب طويل الأمد، عميق الحضور في الجينات المصرية، نعم يري كثيرون أن هذه البلادة التي يعيشها المجتمع المصري إنما هي روح الاعتدال عند الشعب والتي تميزه طيلة عمره التاريخي وتجعل منه شعبا صانعا للحضارة.. والحقيقة كما أتصورها أن هذا الاعتدال الوهمي هو سبب أن مصر تغرق في الذل دون أن تثور لكرامتها وتنحدر في الضعف دون أن تأباه علي كبريائها، حتي بات اعتدال المصريين هو باب التنازل عن الحقوق والتخلي عن الواجبات، وربما تجد تفسير هذا كله في النظرية التي تحدث عنها دكتور جمال حمدان في كتابه المؤسس «شخصية مصر» وهو يجيب عن سؤال كيف كان الاعتدال آفة الشخصية المصرية في الصميم وعلي وجه التعميم؟ «فذلك أن المصري فعلاً صبور ولكنه قنوع أكثر مما ينبغي، دءوب مثابر إلا أنه إيجابي أقل مما يجب، واقعي جداً بدرجة تجعله مثالياً أقل من اللازم جداً، مستقر إلي حد بعيد لكنه غير حركي بما فيه الكفاية، محافظ بالتأكيد إلا أنه غير ثوري علي الإطلاق، طيب سمح الأخلاق حقا ودمث فعلاً غير أنه بسيط غير طليعي محدود الأفق نوعاً، صلب إلي حد معلوم ولكنه غير طموح، جريء مغامر بما فيه الكفاية، بعيد بالفعل عن التعصب بيد أنه ليس قريباً بالقدر الصحيح من العصبية وقوة الشكيمة التي هي أساس الصلابة الوطنية، وفي النتيجة النهائية أميل إلي الكم منه إلي الكيف، يفضل الحياة علي الحرية، والبقاء علي القيادة، باختصار شخصية غير مقتحمة غير متحدية أو متوثبة متفجرة وإن كانت معتدلة، شخصية متوسطة ولكنها غير طليعية غير قيادية» .
إذن الاعتدال خصوصا في مصر هو القيمة سيئة السمعة لتبرير التعايش مع الظلم والرضا بالواقع الاكتئابي والسكوت عن المواجهة، وهذا الاعتدال الممتدح في مصر حكومة وشعبا إنما هو التحريض علي التواطؤ ضد الحلول الحقيقية وضد المطالبة بالتغيير الجذري والحقيقي والعميق، تغيير يصل إلي جذور شجرة الفساد والاستبداد ولا يكتفي باعتدال وتشذيب فروع وغصون، تطرف في الحلم لأن تكون مصر بلدا في صدارة الدنيا وعلي قمة الحضارة وليس اعتدال الاكتفاء بالأكل والشرب والرشوة والنهب، يصف دكتور جمال حمدان الشعب المصري « طيب لا بأس به أصلاً كخامة، إلا أنه طيب أكثر من اللازم، طيب بدرجة ساذج أحياناً، وساذج بدرجة عاجز نوعاً، وعاجز بدرجة مسالم نسبياً، ومسالم بدرجة خاضع إلي حد ما.من ثم، وعلي الجملة، نجد دور مصر في الحضارة أكبر بالقطع من دورها في القوة والإمبراطورية، ومن هنا، وليس من هناك، كانت أول حضارة، ولكن للأسف كانت أيضاً أطول مستعمرة، ومصر بهذا ما عاشت ولا بقيت آلاف السنين إلا لأنها قبلت بالحلول الوسطي مع السادة الغزاة مؤثرة البقاء علي الصدام ولكن بثمن الخضوع ولا نقول العبودية.» هنا بالضبط خطورة ما نحياه ونعيش فيه «إذا كنا نعيش فعلا» من اعتدال وهمي ومن قبول لحلول مؤقتة خايبة فنحن في حاجة ماسة إلي قوة خيال متطرف في اتخاذ المواقف، في طرح الأفكار، في وضع المشروعات، في رسم الخطط، في تغيير الواقع، في رفض الحال الراهن، في البحث عن حلول جذرية، في الإيمان بإمكانية إزاحة القديم لجديد متجدد لأن الاعتدال المصري هو أساساً «تطرف في الاعتدال»، كما تذهب نظرية جمال حمدان، وهو من ثم مرض خبيث، بل ومن أخبث أمراض مصر، وربما مقتلها البطيء المزمن علي مر الزمن، فإذا كان التطرف في التطرف تدميراً وهدماً وعدمية، فإن التطرف في الاعتدال إفراط في السلبية، ومن هنا فإن بعض التطرف خير من بعض الاعتدال، فقد يكون الاعتدال فضيلة، ولكنه قد يكون أحياناً الفضيلة التي هي عجز، والمطلوب لمصر الآن -لاحظ أنه مطلوب جمال حمدان قبل ما نطلبه بـ 26 عاماً- هو «الاعتدال في الاعتدال»، ولا علاج لها سوي جرعة محسوسة ولكنها محسوبة من التطرف المعتدل كمصل مضاد لاعتدالها المتطرف.ما ينقص مصر إذن بالتحديد في هذه النظرية قدر معتدل من العنف وأكثر منه من العنفوان، قدر من القوة وإرادة القوة
حقيقة لم نسمع أبدا عن معتدلين غيّروا التاريخ، لم نشهد أبدا أفكارا معتدلة صنعت تغييراً للناس وللمواطنين وللشعوب، كل الأفكار والآراء والشخصيات التي غيّرت مجري التاريخ بل وصنعت التاريخ هي المتطرفة التي رفضت الاعتدال المستسلم والمحافظة الرجعية والسكوت الساكن، الذي يحرك الأمم ويقيم الحضارة هم المتطرفون في خيالهم فيكتشفون ويخترعون، هم فاتحو البلاد وغزاة المجهول والقارات، هم واضعو النظريات ومؤسسو الأمم، هم مفجرو الثورات العلمية والسياسية والصناعية، حتي الأنبياء وحتي الأديان كلها بدأت بدعوة من شخص اتهم بالتطرف بل وبالجنون كذلك وتأسست بالثورة، ثورة الدعوات الجديدة ضد القديم البالي وضد عبادة أصنام العقائد والأفكار، لكن أن يتحول المواطن المصري ثم الوطن المصري إلي هذا الاعتدال المزيف لتمديد عمر الطغاة فهذا هو مرض البلد العضال وهو ما يصف حمدان المواطن المعتدل بأنه «يفرط الاعتدال حتي يتحول إلي مواطن سلس ذلول، بل رعية ومطية لينة، لا يحسن إلا الرضوخ للحكم والحاكم ولا يجيد سوي نفاق السلطة والعبودية للقوة وما أسهل حينئذ أن يتحول من مواطن ذلول إلي عيل ذليل...... بعبارة أخري، مأساة مصر في هذه النظرية هي الاعتدال، فلا هي تنهار قط ولا هي تثور أبداً، ولا هي تموت أبداً، ولا هي تعيش تماماً ».
هذه هي مصر إذن، في حين تحتاج تطرفاً في الحب والخيال والسياسة لا تجد سوي مجتمع «معتدل مارش»!
Saturday, July 5, 2008
Subscribe to:
Post Comments (Atom)
No comments:
Post a Comment