Saturday, July 5, 2008

نشاطركم الثروات!

إبراهيم عيسي
أحترم مثل غيري لحظات الموت والعزاء، وأعرف مثل غيري قيمة الوقوف في ساعات الحزن هشًا ومهزومًا أمام الموت نتشبث بالأكف المتضامنة ضد عتمة الفقد الجاثمة، لكن هذا لا يمنع من التنبه إلي الخطورة السياسية والاجتماعية فيما يجري من نشر إعلانات التعازي والمواساة ومشاطرة الأحزان التي تتتابع منذ أيام في صفحات الوفيات تنعي والدة أحد المسئولين الكبار، وحماة مسئول كبير آخر، لقد أحصيت مبدئيا ما تم نشره علي مدي أيام بطول وعرض صفحات، وقدرت أن قيمة ثمن هذه التعازي طبقًا لأسعار السنتيمتر في صفحات الوفيات قد وصلت إلي أكثر من عشرة ملايين جنيه!
نعم هذه الملايين لتعزية مسئولين ورجلي أعمال في وفاة قريبة لهما، ومازلت أؤكد كل احتراماتي لذكري العزيزة الفاضلة تغمدها الله برحمته وأدخلها فسيح جناته، لكن ليس بعشرة ملايين جنيه يشعر الأهل بالتسرية وبالطمأنينة، كما أنه لا يدخل المرء الجنة لأن عزاءه تكلف عشرة ملايين جنيه!أفهم حجم وأهمية المجاملات في حياتنا القائمة علي النفاق المتبادل ومسح الجوخ وادعاءات المحبة، لكن عندما تصل المجاملات إلي حد هذا البذخ الهائل في الإنفاق علي مجرد سطور تعزية وعندما تكون موجهة لمسئولين في الدولة لها مواقعها ونفوذها ومن شخصيات وشركات وهيئات تحتفظ بعلاقات عمل ومصلحة وتعامل مع هذين المسئولين ومناصبهما المهمة والحساسة (فلم يعد أحد حساسًا علي الإطلاق، ولم تعد هناك حساسية من أي شيء) عمومًا فيضان التعازي المكلف والفج أمر يثير التساؤل، ولا أقول حاشا لله يثير الريبة، لكن كان واجبًا علي هذين المسئولين أن يطلبا وقف هذا السيل من التعازي حيث يختلط فيها من يحب شخص المسئول بمن يحب مقعد المسئول، ومن يسعي لمشاطرة الأحزان، ومن يسعي لمشاركة الأعمال. هذا مظهر من مظاهر النفاق كما قد يفسره البعض،
ومن ملامح الترف ومن علامات الجنوح الشديد للعلاقة بين الثروة والسلطة في مصر، وأحسب أن هذا هو الوجه الآخر للترف المبذر في الإنفاق علي الأفراح، وحفلات الزواج التي تكلف الملايين من الجنيهات (وربما الدولارات...) لليلة فرح واحدة، وتعكس هوس الثروة في البلد حين تنفق أسرة لأجل ليلة عرس إنفاقًا عبثيا سواء علي كوشة بالزمرد والماس أو إلقاء عشرات الألوف من الجنيهات علي شكل جنيهات ذهب وهدايا عينية علي رؤوس المدعوين، فضلاً عن حجم ونوعية البوفيه المحتشد بأصناف من الطعام لم تكن موجودة يومًا علي مائدة هارون الرشيد شخصيا، ولا أظن أن ملكة انجلترا تعرف تلك الأصناف من الطعام التي توضع أمام مدعوين ومعازيم حضروا بالطائرات الخاصة لقاعة الأفراح وغير ذلك من تفاصيل خيالية تجعلنا نتساءل عن المسئولية الأخلاقية لهؤلاء المليونيرات ،سواء في لحظات الفرح أو ساعات الحزن تجاه مجتمع مش لاقي ياكل!
وبمناسبة ساعات الحزن والفرح، فقد دخلت ذات مرة أحد المحال في مول تجاري شهير وقد بدت في واجهته ساعات جميلة وأنيقة، وقد قررت أن أشتري ساعة لزوجتي في عيد ميلادها، رحب بي موظفو المحل، وقدموا لي عدة ساعات لأختار من بينها، أعجبت بساعة لطيفة، وقدرت أن سعرها سيكون في المتناول، فقد بدأت أرتاب من موظفي المحل الذين يشبهون مدراء البنوك، وقلت وأنا عامل فيها غير مهتم: ودي سعرها كام.فقال الرجل رقمًا لم أتبينه، ولعلي لم أصدقه، فتجاهلته طبلة أذني الوسطي، وأعدت السؤال: بكام، فرد بحروف أوضح: خمسين الف جنيه!حاولت أن أتماسك حفاظًا علي منظري، وأخذت أداري أستيك ساعتي المقطوع، وأشرت لأخري: طيب ودي، فأجاب بقوة: ربع مليون.رددت: ربع مليون إيه.فقال: يا أستاذ إبراهيم إيه اللي جابك هنا.. أنت راجل زينا، عايز أقولك يا بيه إن امبارح فقط بعنا عشرين ساعة يد حريمي، كل واحدة فيها بستين ألف جنيه، يعني احسب بقي.. وعارف ليه، عشان هدايا تترمي في فرح بنت فلان.
وقال اسمًا فأجبته: تعرف أنا نفسي في أي ساعة، رد: إيه، قلت: ساعة الصفر!!

No comments: