Monday, October 20, 2008

ضبط عقارب الساعة

بقلم د. محمود عمارة

عبقرية المجتمعات المتقدمة والمتحضرة أنها «تقف مع نفسها» كلما استدعى الأمر لكى تضبط عقارب «ساعة الوطن» التى تهتز أو تختل أحيانا من الحركة السريعة، والنشيطة لأداء المجتمع، فتصبح إشارة عقاربها لا تطابق الواقع أو الحقيقة!!

فكلما طرأت «قضية»، أو ظهرت «مشكلة»، يحتاج حلها إلى تشريع جديد، أو تعديل قانون أو إلغاء قرار، أو حتى تغيير بند من بنود الدستور.. يبدأ «المفكرون» و«الكتاب» و«المثقفون» فى طرح «المشكلة»، وتشخيصها ليبدأ حوار موسع بكل وسائل الإعلام، ليصبح النقاش، والحوار مفتوحا لكل الآراء، قد يستغرق ساعات أو أياما أو حتى أسابيع ليصل فيها الرأى العام إلى قناعة بالمطلوب..

فإذا كان المطلوب هو تدخل السلطة التنفيذية أو حتى رئيس الدولة، فليس أمامه سوى التدخل احتراما للرأى العام، وإذا احتاج الأمر إلى قانون يتقدم نواب الشعب بـ«اقتراح» يناقشه المجلس التشريعى «ليقره» دون تأخير فليس عندهم «سيد قراره»، ولا «رئيس مجلس ينتظر تعليمات»، ولا «رئيس ديوان يضرب تليفون»، ولا «محتكر» يعشيهم فى فندق خمس نجوم لتستحى العين، وبإشارة من إصبعه تنحنى رؤوسهم، يمين - يمين.. شمال - شمال!!

انظر إلى ما حدث بالأمس فى أوروبا لمواجهة الأزمة المالية العالمية.. كانت «الشفافية» و«الإفصاح» وحرية «تداول المعلومات» هى التى كشفت حجم الأزمة بسرعة وبالأرقام المدققة خلال ساعات، وعلى الفور اجتمع «ساركوزي» كرئيس للاتحاد الأوروبى بالمتخصصين فى فرنسا أولا، ثم برؤساء الدول الأوروبية،

وظلت اجتماعاته فى الأيام الأولى حتى مطلع الفجر ليتعرف على الحجم الحقيقى للكارثة، ومثله فعلت باقى الدول المتحضرة من اليابان شرقا مرورا بالهند، وحتى دبى وإلى أستراليا.. الكل كان ومازال وسيظل مشغولا، بل مهموما حتى زوال الكارثة المقدر لها ١٢ شهرا من الآن!!

فى «أوروبا»، التى تكره شعوبها الرأسمالية الأمريكية المتوحشة، والتى أفرزت هذه الكارثة، واجهوا «الكارثة» التى كان يمكن أن «تشعل» حربا عالمية ثالثة بإجراءات سريعة وحاسمة وشجاعة كالتالى:

١- اتفقوا على ضخ فورى لـ٤٦٠ مليار يورو فى ألمانيا، و٣٨٠ مليارا بفرنسا، وهكذا فى كل دولة، وكل ذلك تم فى أيام معدودة دون تأخير أو مماطلة أو تردد.

٢- قررت الدولة أن تضمن بنفسها ودائع الناس بالبنوك بحد أدنى، حتى لا يحدث هلع يجهض الإجراء السابق.

٣- ضخت كل دولة عدة مليارات (فرنسا ٥٢ مليار يورو) لمساعدة المشروعات الصغيرة لدعم الشباب، وتشجيع المبتدئين لخلق فرص عمل، ولزيادة الإنتاج، وتجويد التصدير.

٤- إزالة أى قيود تعطل أو تؤخر ظهور مشروعات جديدة

٥- يجرى الآن «حوار» جاد حول النظرية الرأسمالية لإعادة النظر فى بعض الأسس، والمبادئ التى قامت عليها، أو تحكمها، وكيفية الرقابة الصارمة على آلياتها، ولم يعد الناس يتحدثون عن اقتصاد حر، وإنما عن السوق الحرة وإلى أى حد يجب أن يمتد دور الدولة، ودور المجتمع المدنى كرقيب فاعل وصاحب مصلحة.

صعبان على «ساركوزي» يا عينى خاسس النص، و«ّعجز» عشر سنين بسبب هذه «الكارثة» فهو لا ينام، يطلع من اجتماع إلى ندوة إلى لقاء رسمى إلى مؤتمر دولى.. ليل - نهار رايح جاى.. (مفيش حفلة كده، ولا سهرة حلوة، ولا استعراض غنائى)، ولهذا أقترح على السفير الفرنسى بالقاهرة أن يدعوه على حسابنا كجالية للترويح عنه والتخفيف عليه، والراجل كتر خيره، عمل اللى عليه ولم يتوان لحظة،

ولم يضيع دقيقة فى مواجهة الأزمة، ولهذا استحق أن نرفع له القبعة (على فكرة هذا ليس نفاقا لساركوزى، لأن النفاق هناك ليس له ثمن ولا معنى حتى لا يذهب البعض إلى بعيد..) ولكنى أردت أن أقول لكم كيف يواجهون الأزمات والمشاكل أولا بأول حتى لو كانت بسيطة!!

أتذكر من ٢٠ سنة حدثت مشكلة لإحدى «القطط» الضالة والتى تعرضت لـ«حريق» بإحدى ناطحات السحاب، التى لم يكتمل بناؤها بعد، وخرحت القطة إلى «البلكونة» تستنجد،

وتأخرت سيارات النجدة لإنقاذها، فماتت القطة المسكينة بعد أن أمسكت بها النيران وقفزت فى الهواء ليبكى عليها المشاهدون.. وترفع إحدى الجمعيات الأهلية قضية على وزارة الداخلية لمحاكمة المسؤولين وتعويض مالى ٢٠ مليون فرنك، وخسرت الجمعية القضية، بسبب قصور فى التشريع!!

وبعد أسبوعين من الحكم القضائى نظمت جمعيات الرفق بالحيوان، مع جمعيات حقوق الحيوان، مع جمعيات حماية البيئة، مع حزب الخضر، مظاهرات سدت الشانزليزيه، وجعلتها وسائل الإعلام قضية الساعة، وفى أقل من ٠٩ يوما كان هناك تشريع لتصبح القطط الضالة كالكلاب والحيوانات فى حماية الدولة، مثلها مثل الإنسان تماما!!

أسمعك تمصمص شفاهك، وبتتريق، وتقول: «يا عم دى ناس فاضية».. والحقيقة أنهم مشغولون أكثر منا ألف مرة، ولكن هناك من يسمع لهم ومن يجيب عليهم.. أما هنا فودن من طين وأخرى من عجين!!

«فلنا حق النباح.. ولهم حق الاستمتاع».

No comments: