Friday, February 1, 2008

إنها عملية تستيف أوراق‏!‏

بقلم: مفيد فوزي

بكل أدب جم ولسان عف يعرف حدوده ولا يبحر في غير المياه الإقليمية‏,‏ يروق لي أن أتطرق لنقطة حيوية في حياتنا العملية وعلي الأخص ونحن نناقش مشكلاتنا وأوجاعنا الاجتماعية‏,‏ إذ إن نقطة البداية ـ فيما أتصور ـ هي معرفة الداء بوضوح شمس استوائية‏,‏ مهما تكن المرارة وطعم العلقم‏,‏ الدول الناضجة‏-‏ وأقصد العالم الأول‏-‏ تذهب الي ما تعاني منه مباشرة ولا تتلكأ في السير مثلنا‏!‏
الطبيب الأمريكي يقول لمريضته المصابة بالسرطان سيدتي‏,‏ أنت في المرحلة الثالثة وما عاد العلاج الكيميائي مفيدا‏!.‏الطبيب المصري يقول لنفس المريضة أنت زي الفل وكل ما في المسألة شوية بواسير أمرها سهل زي شكة الدبوس‏!‏ أقول هذا الكلام عن تجربة عشتها وليس اجتهادات أو حوار سينمائي لفيلم في كوميديا سوداء‏,‏ الطبيب الأمريكي صادق برغم المواجهة القاسية والطبيب المصري مجامل‏,‏ قد يعرف الحقيقة ولكنه يكتمها مهما تكن فداحة إخفائها‏,‏ الطبيب الأمريكي‏..‏ صادم بالحقيقة‏..‏ والطبيب المصري يستف الأوراق ليجمل الصورة‏.
‏المستشار الملط صادم يواجهنا بحقائق الأداء المالي في حياتنا الحكومية‏,‏ وهناك من يستف الأوراق ليجمل الصورة أمام الرأي العام‏,‏ وتنفلت الأعصاب‏,‏ لأن الأمر صراع بين صدق الأرقام التي لا تكذب وتستيف الأوراق التي تجيد فن لوي الحقيقة وتجميل الصورة ووضعها في برواز مذهب‏!‏ نحن أمام خيارين‏,‏ أيهما أهم‏:(‏ الصورة‏)‏ أم‏(‏ البرواز‏)‏؟ ولحسن حظ هذه البلد فإن قيادتها السياسية لا تهتم بالبرواز مهما يكن مذهبا وتهمها الصورة ولو كانت مجرد ظلال قاتمة‏.‏كوارث القطارات نبهتنا إلي بشاعة‏(‏ الصورة‏)‏ لأن البرواز كان مطليا بالفضة وكانت هناك دائما عملية تستيف أوراق‏.‏كوارث العمارات الآيلة للسقوط برغم قرارات الإزالة الصادرة‏(‏ نبهتنا‏)‏ الي صورة الأحياء المحلية وقدرتها علي تستيف أوراقها‏,‏ فكانت النتيجة سقوطها فوق سكانها‏,‏ تسأل مسئولا عن عدد مرضي الإيدز فيقول لك وهو يبتسم بيقولوا ان العدد الرسمي كذا ولكن أنا اعتقد أن الرقم الحقيقي غير كده بالمرة‏,‏ فإذا قلت‏:‏ أقول الكلام ده في التليفزيون؟ انفعل وقال ماتقولش علي لساني‏,‏ أرجوك‏,‏ لماذا؟ لأنه يستف أوراق حقيقة يعرفها ولا يود الافصاح عنها بلسانه‏:‏ فاذا قلت‏(‏ العالم يعرف الرقم الحقيقي ونحن نكذب‏)‏ قال‏(‏ ماسودش الصورة‏).‏تحكمنا الثقافة الورقية ونجيد تستيف الأوراق مستعينين بالشئون القانونية المزروعة في الأجهزة والمؤسسات والدواوين‏,‏ تعرف الثغرات وتسدها بديباجات يرتديها الباطل فيزهو في خيلاء الحق‏!‏ أحيانا نرصع الأوراق بأرقام مزورة‏(‏ تبعث علي التفاؤل الكاذب‏),‏ وأحيانا أخري نستف الأوراق وهي تتجمل برغم القبح‏,‏ وكم من المآسي عاناها منها الوطن لأن الأوراق الحكومية مستفة‏.‏إن أجهزة الدولة الرسمية المهتمة بالاحصاءات ومركز دعم القرار بمعلومات‏,‏ هي بعبع تستيف الأوراق ولكن‏(‏ النشال دائما أذكي من فريسته‏),‏ تنقصنا ثقافة الاعتراف بالواقع‏,‏ كل ملفات الدولة تشير عبر عملية تستيف الأوراق أنه ليس في الإمكان أبدع مما هو الآن‏!
‏ لكن قضايا عديدة لا ينفع معها أي تستيف للأوراق‏,‏ القطن المصري‏,‏ الرغيف‏,‏ المرور‏,‏ التعليم‏,‏ مستوي خريجي الجامعات‏,‏ جرائم المتعلمين‏,‏ وغيرها‏.‏ إن المسئول الذي يصارح الناس بحقيقة أمر ما‏,‏ أو عجز ما‏,‏ أو انعدام كفاءة ما‏,‏ أو تعثر ما‏,‏ هو ذلك المسئول الذي يستحق الجلوس علي الكرسي‏,‏ أما المسئول الذي يحتفظ في مكتبه بمئات‏(‏ الشماعات‏)‏ فهو لا يخدم الناس‏,‏ إنما يخدم نفسه وشريحة معينة من الناس‏,‏ اننا نحتاج أيضا في حياتنا السياسية الي شجاعة الاعتراف بالتقصير‏,‏ إن التقصير في أداء المسئول وارد‏,‏ والاستقالة لا الإقالة‏,‏ تعطي انطباعا عند الناس باحترام المسئول الذي يستقيل ويتحمل مسئولية التقصير‏,‏ أما‏(‏ التمادي‏)‏ في التقصير دون بارقة أمل في الاصلاح‏,‏ فهذا هو السقوط الشعبي بعينه‏.
‏إن بعض قضايا هذا المجتمع التي اندلعت مثل حيتان الأسمنت واحتكار الحديد ونشوء شركات توظيف الأموال من جديد والمياه المعدنية المغشوشة‏,‏ لم تندلع فجأة‏,‏ إنما كان لها ملفات مغلقة وأوراق متستفة‏,‏ والصحف أحيانا كثيرة تلمح لهذا الشأن الداخلي‏,‏ ولكن المسئول يقول‏(‏ أوراقي زي الفل‏,‏ ومتستفة‏)!‏
ماذا أردت من هذه السطور؟ أردت‏:1‏ ـ المتابعة المستمرة للأداء بطريقة القوات المسلحة‏2‏ ـ تغيير قيادة أي موقع عندما تفوح رائحة كريهة‏,3‏ ـ انتزاع ألغام الاحباط من أمام الناس‏,‏ عندما يسود شعار‏(‏ شيلني واشيلك‏),4‏ ـ تقليل تحويل بلاغات الي النيابة بشأن اهدار المال العام‏(‏ السايب‏)‏ أحيانا و‏..‏ الالتفات الجاد لأمور محورية ومصيرية في حياتنا بدلا من إهدار طاقات في الجري واللهث والملاحقة للفساد‏,‏ والا هذه‏(‏ اللخمة‏)‏ مطلوبة وموظفة و‏..‏ متستفة؟‏!!‏

No comments: