Sunday, February 10, 2008

كن سعيد بن زيد، إن لم تكن عمر بن الخطاب

د. معتز بالله عبد الفتاح

قرأت مقالا مؤثرا للأستاذ عاطف حزين في جريدة الوفد يلخص عنوانه فكرته الأساسية: "دعونا نكتب، دعونا ننفخ في قربة مقطوعة."
وقد استحضرت تعليقا للمستشار طارق البشري يستحثني فيه على الاستمرار في الكتابة وعدم اليأس وحجته في ذلك أن مساحة غير المتوقع وغير المقصود أكبر كثيرا من مساحة المتوقع والمقصود عند من يحاولون تغيير العقول وتوعية الآخرين. وضرب مثلا بنفسه أنه شخصيا تأثر بما تعلمه وقرأه من الكثير من أعمدة القانون في مصر، لكنه لم يكن في دائرة معرفتهم به أو وعيهم بوجوده.
والحقيقة أن في كلام المستشار الفاضل الكثير ما يدفع للأمل. فبحق نحن لا نعرف في من نؤثر ونحن نكتب. قد لا يكون الكاتب عمر بن الخطاب ولكن قد يكون أحدنا سعيد بن زيد زوج أخته والذي كان سببا مباشرا في إسلامه.
وهو ما يجعلني أحيانا أستحضر الآية الكريمة: "فليقاتل في سبيل الله الذين يشرون الحياة الدنيا بالآخرة، ومن يقاتل في سبيل الله فيقتل أو يغلب فسوف نؤتيه أجرا عظيما. وأنا أقول فليكتب كذلك في سبيل الله الذين يشرون الحياة الدنيا بالآخرة، ومن يكتب في سبيل الله فيؤثر أو لا يؤثر فسوف يؤتيه الله أجرا عظيما، شأنه في هذا شأن من يعلم ويبني ويزرع في سبيل الله. إن مسؤوليتنا الأمل والعمل، ولكن ليس علينا العائد والناتج لأننا لن نستطيع أن نتدخل في قدر الله وتوفيقه.
وبمعنى أقل تجريدا، نحن نتمثل نموذج الإمام محمد عبده والذي لم يحقق الكثير من النجاح في حياته، لكن كتاباته وتلاميذه أحدثوا ثورات في الاقتصاد (طلعت حرب)، وفي السياسة (سعد زغلول)، وفي العمل الشعبي (حسن البنا)، وفي الإصلاح الديني (الشيخ المراغي). ويوم أن أخفق نجيب فاضل في السياسة فتحول عنها إلى الفكر ثم الشعر والتصوف ما كان يدري أنه سيخلف فكرا ومنهجا في العمل يؤثر في الفتى رجب طيب أردوجان الذي أخذ المنهج وأنزله منزل الفعل والتنفيذ بحكم تكوينه وبحكم تعلمه من خبرات وأخطاء السابقين عليه.
بل إن تأثير "عودة الروح" لتوفيق الحكيم على الطالب جمال عبد الناصر حسين مسألة صرح بها الرئيس عبد الناصر نفسه، بغض النظر عن تقييمنا لنوع التأثير واتجاهه. بل إنني أنا شخصيا أتذكر متابعتي لما كان يكتبه الأستاذ عاطف حزين نفسه ومعه الأستاذ خير رمضان في "الأهرام العربي" وكنت أحتفي بما كانا يكتبان احتفاء شديدا، و لا زلت.
ومع ذلك لا بد أن نكون واعيين بأننا نبيع بضاعة غير رائجة في مجتمع ينقسم أفراده إلى فئات أربع على الأقل:
1- هناك أشباه الموتى بيننا وهم فئة من الناس فقدوا القدرة على الإبصار لأنهم فقدوا أجهزة الإبصار نفسها وهؤلاء ما جعل الله لنا إليهم أو عليهم سبيلا لأنهم اختاروا الاستقالة من الحياة العامة.
2- وهناك ثانيا أهل الغفلة، وهم فئة من الناس لديهم جهاز الإبصار سليم، ولكنهم أغمضوا أعينهم عن الواقع الذي يعيشون فيه، لأن خبرة الحياة علمتهم أنهم "مسيرون" بلا اختيار، ولا يعرفون حجم الطاقة الموجودة داخلهم، كي يساعدوا أنفسهم والآخرين.
3- هناك ثالثا الحيارى، وهم فئة من الناس فتحوا عيونهم لكنهم لم يروا نورا فتساووا مع من ليست لهم قدرة على الإبصار لأن البيئة الخارجية لم تمدهم بالنور الذي يحتاجونه، وهؤلاء هم الذين يحتاجون كتابات المثقفين ومشاركتهم الحية في نقاشات المجتمع على أمل أن نوقظ فيهم الأمل والوعي.
4- وهناك رابعا من امتلك القدرة على الإبصار ورأى النور بالفعل، وهؤلاء هم أهل الفكر والرأي الذين يعطون مجتمعاتهم كفاء ما تتوقع منهم من جهد ودراية. وهؤلاء هم الذين عليهم أن ينبهوا الغافلين وأن يهدوا الحائرين. بيد أن هذه الفئة نفسها تنقسم في مدى نشاطها إلى ثلاثة أنواع: بعضهم يقف موقف المثقف الراهب الذي يعرف ويقرأ ويطلع ولكنه ليس على استعداد للمشاركة في التغيير إما يأسا أو انشغالا، ومنهم من يتصف بخاصية المثقف (بفتح القاف) المثقف (بكسر القاف)، والتعبير لأستاذي الدكتور مصطفى كامل السيد، وهم أولئك الذين وجدوا أن عليهم بالإضافة لدورهم في تحري المعرفة والأفكار، أن ينشروها ما استطاعوا إلى ذلك سبيلا، وهؤلاء كثيرون عددا قليلون جودة في مجتمعنا العربي بصفة عامة. لكن هناك صنف ثالث أطلق عليه الفيلسوف الماركسي الشهير جرامشي "المثقف العضوي" الذي ينخرط في واقعه بالدراسة ثم بالتغيير من خلال الالتحام المباشر مع قطاع واسع من المواطنين الذين يعتبرونه قائدهم. إن هؤلاء هم الذين يتصفون عادة بخاصيتي: القدرة على الخيال Power of Imagination والشعور بالواقع Sense of Reality كما أشار إليهم الدكتور طارق حجي في إحدى مقالاته.

هذا الفريق الرابع هو الماء الذي يحي الصحراء القاحلة. "وتري الأرض هامدة فإذا أنزلنا عليها الماء اهتزت وربت وأنبتت من كل زوج بهيج." وهؤلاء يحتاجون إلى التضامن والتكاتف، كتفا بكتف، حتى لا يصيبهم الملل واليأس. وأختم بقصة تستحق التأمل عن مجموعة من الضفادع التي دخلت في سباق من أجل الوصول إلى قمة الجبل. وكان هناك مجموعة من المشاهدين الذين كانوا يغنون أنشودة اليأس باستحالة وصول أي من الضفادع إلى قمة الجبل، وبالفعل بدأت الضفادع المتسابقة تتساقط من الإعياء الواحدة تلو الأخرى، حتى نجح ضفدع في الوصول إلى خط النهاية بكل نشاط. وكانت المفاجأة أنه كان أصم، أي لم يسمع عبارات اليأس والتثبيط.
إن أصحاب الأقلام الشريفة بحاجة لأن يتواصوا بالأمل مع الحق، وإن لم يكن أي منهم عمر بن الخطاب، فهم يسيرون على نهج سعيد بن زيد. والأجر عند الله، ألم يجعلهما ربهما من العشر المبشرين بالجنة على تفاوت نصيب كل منهما في العطاء الدنيوي.

ربنا تقبل منا إنك أنت السميع العليم.