بقلم خالد صلاح
هل قرأت مانشيت «الأهرام» أمس الأحد؟
أحسبك تتفق معي، علي أنه لا شيء أكثر مرارة من المجاهرة بالخطيئة إلي الحد، الذي يعتبر فيه المسؤولون عن الغذاء في مصر، أن استيراد القمح «بطولة تاريخية»، وأن تنويع مصادر الاستيراد «عمل بارع»، تستحق عليه الحكومة قصائد المدح من شعراء البلاط، ففي متن الخبر الذي يتصدر النصف الأعلي للصفحة الأولي،
يشرح المهندس سعيد الحنفي، نائب رئيس الهيئة العامة للسلع التموينية، في كبرياء وطني منقطع النظير، كيف نجحت الحكومة في تأمين المخزون الاستراتيجي لمصر من القمح لفترة تصل إلي ستة أشهر، ويقول باستطالة المنتصرين إن هيئة السلع التموينية «نحجت في ١٧ يناير الماضي في عقد صفقة تعد الأكبر في تاريخ المناقصات لاستيراد نصف مليون طن من القمح من أربع دول دفعة واحدة»،
ويضيف في زهو، مستعرضًا مسيرة النجاج الخارق والعبقرية المذهلة لحراس الغذاء في مصر، أن الهيئة استوردت أيضًا ٢ مليون طن من القمح الأمريكي الأحمر والأبيض، ونحو ٢،٢ مليون طن من القمح الروسي، ونحو ٤١٠ آلاف من قمح كازاخستان، و٦٠ ألف طن من القمح الكندي خلال العام المالي ٢٠٠٧ - ٢٠٠٨.
ما كل هذه العبقرية! يا له من إبداع رائع، «إيه الشطارة دي!»، الآن نستطيع أن نطمئن علي خبزنا وملحنا، الآن ننام ملء الأعين فرحين بما أوتينا من نعيم الأرض، من أمريكا وروسيا وكازاخستان وكندا، هؤلاء الذين سخرهم الله لنا لنشتري منهم القمح بملايين الدولارات، واليوم نستطيع أن نرفع الرؤوس عاليا بأعظم صفقة استيراد في تاريخ القمح، لنهلل مع السيد المهندس سعيد الحنفي بخبرته غير المسبوقة في الشراء بالعملة الصعبة، وبقدرته الفذة علي عقد الصفقات الأكبر في تاريخ استيراد القمح.
أهكذا عيشنا؟!
نفاخر الأرض بما نستورد، ونطلق الألعاب النارية ابتهاجًا بما دفعناه من تعبنا، لنشتري الخبز من مزارعي الولايات المتحدة وروسيا، ننتظر القوارب، محملة بالقمح من أراضي غيرنا، ثم نترك أرضنا تزرع بالبرسيم للبهائم.
أهكذا عيشنا؟!
فخرنا بما نشتري لا بما نزرع، مجدنا في قدرتنا علي عقد صفقات الاستيراد، أمننا الوطني يحكمه المزارعون في بلاد غريبة، عزتنا التي تتصدر مانشيتات الصحف تسكن حاويات عملاقة تتخبط بين الأمواج علي متن قوارب الطعام في المحيط الأطلسي.
لو أنني مسؤول مثل سعيد الحنفي لاستحييت من توضيح قوائم الاستيراد، ولأخفيت وجهي عن أعين الكاميرات، وما استخدمت أبدًا تعبيرات «كبري وهائلة وتاريخية» لوصف صفقات لشراء الخبز، تكشف ضعفنا وقلة حيلتنا وهواننا علي الناس.
ولو أنني مسؤول في الحزب الوطني أو في دوائر السلطة العليا في الدولة لفكرت كثيرًا في جدوي كل المشروعات الاستراتيجية التي نعلنها علي الناس صباحًا ومساء، لكنها لا تسمن ولا تغني من جوع.
الجوع يحل علينا إن لم تصل القوارب في موعدها.
الجوع يحل علينا إن أضرب مزارعو القمح في أمريكا.
الجوع يحل علينا إن غضبت روسيا أو تدللت كازاخستان.
.. وفي بلد يتمدد في أرضه البرسيم دون القمح، لا يوجد مستقبل.
Monday, February 4, 2008
Subscribe to:
Post Comments (Atom)
No comments:
Post a Comment