جمال فهمي
كنت أغالب الملل والزهق بالصمت والسرحان وأحاول أن أتسلى بالعبث فى أظافر أصابعى تارة وفى المحمول تارة أخرى، وبنصف أذن أو أقل كنت بالكاد أسمع نتفاً من الثرثرات وقهقهات النفاق المفتعلة التى تفرقع حولى، لكنى فجأة، وجدت الرجل الفخم المطلع على ما يجرى فى دهاليز مغارة الأستاذ على بابا حيث يسكن حكامنا الحاليون، وقد اصطفانى أنا بالذات من بين الحضور جميعاً وصوب لى مباشرة كلماته التالية:
يا اخوانا ده أنتم، ما شاء الله، ناس مثقفين وفاهمين.. معقولة مصدقين فعلاً أن أحمد عز يملك وحده كل هذه القوة الأسطورية التى تجعله يلطش ويبرطع على راحته شمال ويمين.. ياخد مصانع مجاناً تقريباً، ويحتكر زى ما هو عايز ويشرع لنفسه بنفسه ويعمل قوانين على مقاسه وينزح مليارات ما لهاش عدد.. ليه هى الدنيا سابت كده خالص ومبقاش فيه كبير فى البلد؟!.. يا اخوانا أرجوكم صدقونى لا يوجد شيء اسمه أحمد عز.. ما تضيعوش وقتكم!!
نجح الرجل الفخم فى استفزازى وانتشلنى بمهارة من مستنقع الملل والصمت، وبما أنه كان مايزال يطلق نظراته على فقد وجدت أنه من المناسب أن انطق وأرد عليه فقلت له.. إزاى مفيش حاجة اسمها أحمد عز.. صحيح الراجل قصير وضئيل، وربما هذا ما ساعده فى القفز بخفة علينا من المجهول إلى "سياسات" مبارك الابن رأساً، لكن الموضوع مش بالحجم ولا بالكيلو وإنما بالشطارة والنباهة التى تبدو أماراتها واضحة أشد الوضوح على سحنة الأخ "حماده" بدليل نجمه الذى صعد وتلألأ بسرعة فى سماوات عصركم المظلم. شعرت بلذة بهيمية إذ وجدت الفخم مستثاراً حتى أنه اضطر للتخلى عن وقاره وهتف بنفاد صبر.
ـ بقولك مرة تانية مفيش حاجة اسمها أحمد عز.. عايز تفهم إفهم.. مش عايز أنت حر. ـ يعنى حضرتك تقصد أن الأخ عز مجرد حماده مصروف لنا يشاغلنا ويلعب قدامنا كده ع المسرح وخلاص؟.. طيب إذا كان مفيش حاجة اسمها أحمد عز ياريت سيادتك تعمل فينا معروف وتقولنا اسم الحاجة اللى وراه. هز الرجل المطلع رأسه مستنكراً وترك ابتسامة ذات مغذى تلون ملامحه وهو يقول: ـ بقى بالذمة ده كلام.. يا ناس ده أنتم كلكم ناس كبار وفاهمين. ـ أيوه.. وكلنا تقريباً متجوزين وعارفين.. انفجر شلال ضحك صادق وانتهى المشهد الذى استعدته بينما أنا احتشد لكتابة هذه السطور وفى نيتى التعليق على آخر نوادر ومعجزات الأخ حماده فى البرلمان، إذ ساق الأسبوع الماضى قطيع أغلبية حزب الحكومة للتصويت ضد نفسه (نفس القطيع) مرتين اثنتين، أولاهما حين وافق هؤلاء على اقتراح نواب المعارضة بإعفاء السكن الخاص من الضريبة العقارية، فلما زجر فيهم حماده وصرخ غاضباً "إيه ده.. إيه ده" أعاد الدكتور أحمد فتحى التصويت من جديد ليمكنهم من التراجع فتراجعوا.
وأما الثانية فكانت بمناسبة عملية الإجهاض والإخصاء التى أجراها على مشروع تعديلات قانون الاحتكار، وقد رأينا جميعا كيف استعان جنابه بالقطيع الذى أصبح طوع إشارة من بنانه لدرجة عصيان الحكومة نفسها التى ترعاه وتسمنه (تسمنه ولا تسممه لأن هذا النوع من النواب يستعصى حتى على السم الهارى شخصيا). أقول قولى هذا ولا يفوتنى أن أذكّر حضرتك بأنه يبقى دائماً ـ وفى ظل أوسخ الظروف ـ
متسع لرحمة ربنا، آية ذلك يا عزيزى، أنك لابد لاحظت حفنة قليلة من الأخبار الجيدة تطل وتظهر وسط فيض أخبار السوء والخراب التى راحت تترى وتتكدس على أم رأس المصريين فى الأسابيع الأخيرة. مثلاً.. بشرتنى السيدة حرمنا المصون وكانت أول من هنأنى بعد ظهر الخميس الماضى بقرار الرئيس حسنى مبارك فض دورة الأعمال السوداء لمجلس شارع قصر العينى الموقر، (مؤقتاً للأسف)، ولشدة فرحتى بالخبر صعدت إلى قمة النشوة والانفعال فتعطلت لغة الكلام، وفوجئت زوجتى المسكينة بأن نطقى يتعثر وأن ما يخرج منى هو محض لعثمات وأصوات ملخبطة لا يمكن أن يفهم منها أحد ما كنت أريد أن أقوله ساعتها وهو: الحمد لله على رحمته التى هبطت على عباده فى الوقت المناسب، فالشعب المصرى لم يكن ليحتمل أن تطول دورة الأعمال السودا البرلمانية ولا ساعة زيادة، وإلا كان خرج كله عن بكرة أبيه قاصداً نعمة الموت غرقاً أمام السواحل الليبية بالذات!
أبقى مع الأخبار الجيدة، وألفت نظر سيادتك إلى واحد منها أبرزته صحيفة "الأهرام" يوم الأربعاء الماضى فى عنوانها الرئيسى مؤكدة ما لا يحتاج إلى تأكيد وهو أن "مبارك أكثر زعيم يثق به شعبه فى العالم"!! طبعاً غنى عن البيان أن علامتى التعجب السابقتين من عند العبد لله ولا علاقة للأهرام (الصحيفة) بهما، لكننى أرجوك أن تصبر ولا تفهمنى خطأ فأنا لا أقصد العجب من مضمون الخبر ولا أشكك بالمرة فى حقيقة أن الرئيس هو فعلاًَ أكثر زعيم "فى العالم" وفى الدنيا كلها يحظى بثقة شعبه، بل بالعكس فإن دهشتى تعود إلى كون الخبر المذكور لا يضيف جديداً سوى الإشارة إلى حقيقة بديهية يعرفها القاصى والدانى والشارد والوارد، ما يزيل عنه أهم شروط الخبر الذى يصلح للنشر فى الصحف، وهو أن يكشف معلومة صحيحة لا يعرفها الناس، فإذا كانت هذه المعلومة "معلومة بالضرورة" مثل أن "الشمس تشرق من الشرق" فهى ليست خبراً ولا يحزنون.
وما دمنا نتحدث فى مهنة الصحافة فلا ضير من الإشارة إلى ذلك المثال الشائع المبتذل الذى يسوقه بعضهم لتوضيح نوع الأخبار الجديرة باهتمام الصحفى، فيقول هؤلاء إنه لا شيء يغرى ولا يثير فى خبر يزف إلى القراء أن رجلاً عضه كلب، لكن إذا كان الرجل هو الذى عض الكلب فنحن فى هذه الحالة أمام خبر من شأنه أن يكسر الدنيا!! إذن.. كفاية كده وكل عام وأنتم بخير!!
Sunday, June 29, 2008
Subscribe to:
Post Comments (Atom)
No comments:
Post a Comment