لواجب أن تبادر إسرائيل بإرسال خطاب شكر للحكومة المصرية. فبعد أن كانت تل أبيب تتكبد عناء ملاحقة العلماء وأصحاب العقول المصريين واغتيالهم، لضمان تفوقها المطلق علي جميع دول المنطقة.. أصبحت الحكومة المصرية تقوم بهذا الجهد نيابة عنها وتغتال العلماء والباحثين المصريين من المنبع، وتنشر الجهل في المجتمع، وتقوم بتغييب العقل المصري.. والمفروض أن يرسل الكنيست الإسرائيلي خطابا مماثلا لمجلس الشعب المصري علي موافقته «العمياني» علي هذه السياسة الحكومية.
كانت ميزانية البحث العلمي في مصر ٠.٠٩% فقط.. وكنا نصرخ ونطالب الحكومة برفع هذا الرقم الهزيل ليتوازي ويتوازن مع مثيله في مختلف دول العالم، وحتي يتمكن علماء مصر وباحثوها من تنفيذ واجبهم في عملية التنمية، والتطوير والتحديث، وكان المطالبون بهذا المطلب الطبيعي - وأنا أحدهم - يرون أن البقاء والاحترام والقوة في هذا العالم لمن يملك العلم..
ففي خمسينيات القرن الماضي، كان هناك تقارب واضح بين مصر والهند ساعد فيه تشابه ظروف البلدين في عهدي جمال عبدالناصر ونهرو، ولكن الهند الآن تفوقت لأنها اختارت طريق العلم والديمقراطية، أما نحن فسلكنا طريقا آخر أدي بنا لما أصبحنا فيه.. ولم يعد هناك وجه مقارنة بيننا وبين الهند..
ومنذ ٦٠ عاما فقط، وأثناء التخطيط لقيام دولة إسرائيل، كانت هناك مساع لأن يكون رئيسها عالم الطبيعة ألبرت أينشتين، وحينما حالت الظروف دون ذلك تولي العالم ديفيد بن جوريون منصب أول رئيس لإسرائيل، وبالتالي فإن النتيجة التي وصلت لها إسرائيل ليست مصادفة، فأصبحت الدولة الأهم علميا في المنطقة، رغم أنها ليست مستقرة، ورغم أن عمرها كدولة قصير للغاية.. إسرائيل اختارت طريق العلم فحققت أهدافها، ونحن اخترنا الجهل طريقا، فلم نحقق أي أهداف.
ولكن الحكومة المصرية لها رأي مختلف تماما.. فمن وجهة نظرها أنها تفهم وكلنا لا نفهم، وأن رجالها وطنيون ونحن خونة.. فقررت أن تسير عكس اتجاه مطالبنا، وقررت تخفيض ميزانية البحث العلمي الهزيلة أصلا لتكون أقل احتراما وقيمة.. هبطت ميزانية البحث في مركز البحوث الزراعية من ٦٥ مليون جنيه إلي ٣٤ مليوناً فقط، وكذلك انحدرت ميزانية البحث بمركز بحوث الصحراء من ٥٠ مليوناً لتصبح ١٣ مليوناً فقط، مع تثبيت الأجور للعاملين والباحثين في هذه المراكز..
وطبعا هي أجور هزيلة أصلا لا تضمن للباحثين الكادحين الذين اختاروا العلم طريقا حياة نصف كريمة في زمن ترتفع فيه الأسعار كل ساعة..أي أن الدولة تري في ثبات الأجور قيمة، وفي البحث العلمي قلة قيمة.
تخيلوا.. دولة تزيد صحراواتها علي ٩٥% من مساحاتها، وتستورد نصف غذائها، وتشارك في مؤتمرات عالمية تقدم فيها النصائح للعالم للخروج من أزمة الغذاء العالمية، تلغي ميزانية البحث العلمي في مراكزها البحثية العاملة في مجالي الصحراء والزراعة!!
وحسب حملة إعلانات الضرائب في كل المحطات الفضائية، والمدفوعة الأجر من حصيلة الضرائب، فإن حصيلة الضرائب ارتفعت خلال العام المالي الماضي ٢٠٠٧ /٢٠٠٨ بمقدار ١٣٠٠ %، ومن المتوقع زيادتها لأكثر من ذلك بكثير بعد تطبيق الضريبة العقارية وأخواتها من قوانين الجباية التي تم فرضها خلال الدورة البرلمانية الماضية، والتي ستدخل كإيرادات في الميزانية الحالية التي بدأت أول يوليو الماضي، وهي الميزانية نفسها التي شهدت خفضا في ميزانية البحث العلمي، وهي الميزانية نفسها التي أقرها مجلس الشعب المصري بكل أسف.
لا أعتقد أن حكومة الدكتور نظيف من الجهل لدرجة عدم إدراك خطورة الأمر.. ولا أتصور أن كل نواب مجلس الشعب لم يقرأوا الموازنة قبل إقرارها.. ولهذا لا أتصور أن هذا التخريب الذي يحدث في مصر ليس متعمدا وليس مقصودا.. فأعضاء الحكومة ـ وقليل جدا من النواب - يدركون جيدا أن البحث العلمي ليس ترفا، وأن المطلوب لدولة تزعم أن بها تنمية أن تهتم بالبحث العلمي، وتضعه علي قمة أولوياتها، ولا يمكن أن تكون هناك تنمية في أي دولة في العالم إلا بجهود العلماء والسير علي هداهم.
كنت أتصور أن تشكيل مجلس أعلي للعلوم في مصر بادرة طيبة، وأن الاستعانة بأهم وأكبر العلماء المصريين المقيمين في الخارج كأعضاء بارقة أمل في إصلاح أحوال العلم والعلماء، واعتبرت وقتها أننا علي بداية الطريق السليم، ولكن الواضح من تصرفات الحكومة أن نيتها كانت المنظرة والعبث وإخراس الألسنة التي كانت تستنكر عدم الاستعانة بعلماء كبار أمثال أحمد زويل وفاروق الباز ومجدي يعقوب.
فقد كانت الحكومة تنوي غدرا أن تهين العلم والعلماء والباحثين في مجال العلم، وحولتهم - من واقع الميزانية - إلي مجرد موظفين يجلسون علي مكاتب بلا عمل مفيد.. ولا أعتقد أبدا أن خطة الحكومة في خفض ميزانية البحث العلمي تم عرضها علي العلماء الكبار أعضاء المجلس الأعلي للعلوم..
ولا أعتقد أنهم يقبلون بخفض ميزانية البحث العلمي في أهم مراكز البحوث التي كانت تشكو من نقص فاضح في الميزانية.
تري أي مصير ينتظر مصر، وقد اختارت حكومتها الجهل طريقاً؟.
No comments:
Post a Comment