Sunday, August 31, 2008

إدارة البلاد بالتسيب والفساد

بقلم د.حسن نافعة

هناك أشكال متباينة الحدة من التسيب والفساد لا يستطيع أحد أن ينكر وجودها في معظم دول العالم. ولا جدال في أن النظم السياسية الجادة تتعامل مع ظواهر التسيب والفساد باعتبارها عوارض لأمراض سياسية واجتماعية واقتصادية بالغة الخطورة، تبذل كل ما في وسعها لوقاية وتحصين مجتمعاتها حتي لا تصاب بها أصلا، وتبحث عن أنجع الوسائل الكفيلة بمقاومة انتشارها قبل أن يتسع نطاقها وتتحول إلي وباء قد يشل المجتمع كله ويعرضه للانهيار والتدمير الذاتي.

غير أن النظام السياسي المصري لا يدخل ضمن هذا النمط من النظم السياسية الجادة، بعد أن فقد حساسيته تجاه ظواهر تسيب وفساد راحت تتفشي في الآونة الأخيرة بشكل وبائي، ولم يعد يظهر أي قدر من الجدية في التعامل معها، سواء علي مستوي الوقاية أو العلاج، بل إن مؤسسات الدولة راحت تغمض عينيها عامدة متعمدة، إلي درجة أن كثيرين باتوا يعتقدون أن التسامح مع التسيب والفساد أصبح إحدي سمات ممارسة العمل العام في مصر، ووسيلة من وسائل إدارته.

ورغم أن هذا القول يبدو صادما وقاسيا علي أسماع البعض، إلا أنني أصارحكم القول إنني أصبحت أكثر ميلاً للاقتناع به، من خلال متابعتي ملابسات الحريق، الذي التهم مجلس الشوري منذ أيام، وردود الفعل الرسمية والشعبية التي أعقبته.

كانت الساعة قد تجاوزت السابعة بقليل من مساء ذلك اليوم المشهود عندما جلست - كعادتي عندما أكون بالمنزل في مثل هذا الوقت - لأتابع ما يجري من أحداث عبر الشاشة الصغيرة. وعندما لم أعثر - كالعادة - علي ما يشد انتباهي في قنواتنا الأرضية بدأت أنقل الموجة إلي القنوات الفضائية، إلي أن استوقفني فجأة مشهد حريق كانت تبثه قناة الجزيرة.

وسرعان ما تبين لي أن القاهرة هي مركز الحدث المنقول علي الهواء مباشرة، وأنه يتعلق بحريق كبير وخطير أمسك بمبني البرلمان المصري منذ ما يقرب من ساعتين، وأن عشرات من سيارات الإطفاء هرعت إلي المكان دون أن تتمكن من السيطرة عليه، مما دفع الجيش للتدخل بطائرات إطفاء هليوكوبتر.

وهكذا تسمرت في مكاني ورحت أتابع الحدث بقلق عبر قناة الجزيرة لبعض الوقت، قبل أن أفكر في العودة من جديد إلي القنوات المصرية لمتابعة طريقة تغطيتها للخبر.

لم أستطع في الواقع أن أخفي دهشتي، حين وجدت أن القنوات الأرضية لاتزال مشغولة ببث برامج ومواد تافهة، لا علاقة لها بالحدث الكبير، وكأن أمر الحريق لا يعنيها في كثير أو قليل، أو كأنه حدث يجري في كوكب آخر، وتأكدت من أن معظم القنوات العربية راحت بدورها تبث الحدث من القاهرة علي الهواء مباشرة، وأن قناة النيل الإخبارية بدأت تدخل علي الخط، وأصبحت هي الوحيدة من بين القنوات الفضائية المصرية التي تغطي الحدث علي الهواء.

ولا أدري كم من الوقت مر قبل أن تبدأ القنوات المصرية الأرضية بثا مباشرا من موقع الحدث. لفت نظري علي الفور إصرار التصريحات والتعليقات الرسمية علي تأكيد أمرين رئيسيين، الأول: عدم وجود شبهة تخريب وراء الحادث.

والثاني: التقليل من حجم الأضرار المتوقعة، والتأكيد علي أن «رجال الأعمال» جاهزون لتحمل تكلفة ما خرَّبه الحريق. ولأن هذا النوع من التصريحات - التي اعتدنا عليها كثيرا - كثيرا ما يؤدي إلي شيء واحد، هو رفع ضغط الدم، فقد دفعني الإحساس بالاختناق في هذا اليوم قائظ الحرارة إلي مغادرة بيتي، حزينا وبائسا.

قادتني خطاي إلي نادي اليخت التابع لجامعة القاهرة، ويقع بالقرب من كوبري الجلاء، حيث كان بوسعي التنفس بشكل أفضل في مكان مفتوح علي شاطئ النيل، غير أنني لم أستطع، مع ذلك، أن أهرب بعيدا.

فبالإضافة إلي معايشتي الحدث الخطير بكل جوارحي، كان باستطاعتي في الوقت نفسه متابعة تطوراته رأي العين، عبر الدخان المتصاعد بكثافة من وراء الضفة المقابلة للنهر الخالد، وبالتالي لم أبدأ في السيطرة علي مشاعري واستعادة هدوئي إلا حين راح عمود الدخان يخبت رويدا رويدا في إشارة إلي أن الوضع بات تحت السيطرة.

أدهشتني حالة اللامبالاة وعدم الاكتراث التي لاحظتها، ليس فقط في طريقي ذهابا وعودة، ولكن أيضا في المكان الذي جلست فيه لساعتين علي الأقل. غير أنني لم أكن أتصور مطلقا أن الأمور وصلت إلي درجة التشفّي، التي وصفها لنا بصدق واقتدار وشجاعة شاهد عيان مميز جدا، هو الأستاذ حمدي رزق، تابع الحريق وسط المارة المحتشدين فوق رصيف قريب من مبني البرلمان، نقل لنا صورة ما رأي، وذلك علي النحو التالي :

«مستقبل هذا الوطن الأسود شاهدته علي الرصيف: لا فزع، ولا جزع، ولا خوف ولا يحزنون. قهقهات فارغة من المحتوي، تعليقات خالية من المضمون، سخرية مُرّة من كل شيء: من العسكري الغارق في الوحل يفسح الطريق لسيارة مطافئ تحاول اللحاق بما تبقي قائما في المبني، نكتة حراقة في قفا ضابط يبلغ ملتاعا علي اللاسلكي آخر المواقف، تعليقات فاجرة تفجّر قهقهات شيطانية تذبح ما تبقي من خشية علي تاريخ يحترق أمام أعيننا».

ولأن شاهدنا لم يكتف بهذا الجانب من الصورة، حيث قرر الانتقال إلي مقهي في شارع قصر النيل لمتابعة الحدث، فقد نقل لنا الجانب الآخر من الصورة، بعد أن أكد أنه قضي في هذا المقهي «أسود ليلة في حياته»، وذلك علي النحو التالي:

«أنظار شاخصة للبث المباشر الذي تولته قناة النيل الإخبارية، ومع أنفاس الشيشة يخرج كلام ملغوم بالكراهية، كلام يوجع، كلام بيشوي مثل مية النار: ياريت تولع، خربوها وقعدوا علي تلها، بكرة صاحبنا ياخد المقاولة.

وعندما أعلن المذيع امتداد النيران إلي متحف مجلس الشعب تجشأ أحدهم ما في جوفه: كلها ساعتين ومجلس الشعب يولع ويبقي سرور زي صفوت.. أما في رسائل الموبايل فكان الناس ينتظرون انهيار المبني للاحتفال بحريق القاهرة علي الرصيف». (المصري اليوم: ٢١/٨)

ناقل هذه الصورة المؤلمة، بوجهيها المرسومين من خلال ما دار علي رصيف مجلس الشعب ومقهي شارع قصر النيل، ليس صحفيا معارضا أو صاحب موقف أيديولوجي معروف بعدائه المسبق للنظام، والمشاعر المعبر عنها في عموده ليست منسوبة إلي أوساط اجتماعية، أو إلي دوائر سياسية بعينها. لذا يصعب التشكيك في مصداقية شهادة أفصح عنها قلب حمدي رزق قبل أن ينطق بها لسانه، أو الادعاء بأن ما نقله علي لسان «الناس» يعكس ما يدور بخلد «قلة منحرفة» لا تمثل سوي نفسها.

لذا فإن شهادته - التي تعكس حقائق لم يعد من المفيد إنكارها - تستدعي الانتباه، وتدق ناقوس الخطر، وتتطلب الوقوف أمامها بتأمل مسلح بأكبر قدر ممكن من الصدق مع النفس. وهذا هو ما حاوله الأستاذ مكرم محمد أحمد، نقيب الصحفيين، الذي لا يستطيع أحد أن يشكك في صدق ولائه للنظام، حين اعترف بوضوح كامل في عموده المنشور في صحيفة الأهرام بخطورة شهادة حمدي رزق، التي تعكس تفشي حالة خطيرة وغير مسبوقة من عدم الانتماء تستدعي تقصي أسبابها وعلاج جذورها.

ليس لدي أي وهم حول إمكانية استجابة مؤسسات النظام وقواه النافذة والفاعلة لدعوة صادقة، حتي ولو كانت صادرة من أحد أبنائه المخلصين، ممن بدأوا يستشعرون خطورة الموقف. فالمؤشرات كلها تشير، في تقديري، إلي أن جميع مؤسسات النظام وقواه النافذة أصيبت بحالة تكلس تجعلها غير قادرة علي القيام بأي تشخيص دقيق لطبيعة الأسباب، التي أوصلت شبابنا إلي درجة من اليأس تدفعه للتشفي في رمز من رموز السيادة في بلاده ويجعله يتمني لو امتدت يد الحريق لتأتي علي كل الرموز دون أن تُبقي منها أو تذر.

فهذا الشباب يدرك بوضوح تام أن مصر انقسمت إلي قسمين: قلة ضئيلة جدا لم تعد تكترث لغلاء أو بطالة أو انهيار في مستوي الخدمات التعليمية أو الصحية، لا لشيء إلا لأنها باتت تملك من المال ما يكفي لتمكينها من مواجهة أي غلاء وإرسال أبنائها للتعليم والاستشفاء خارج البلاد، والحصول علي أرقي الوظائف وأهمها وأعلاها راتبا.

أما الأغلبية الساحقة فلم يعد أمامها سوي مواجهة الشقاء وحدها. وأمام وضع مختل كهذا ليس أمام الحكومة سوي الاختيار بين واحد من بديلين: تغيير السياسات التي أوصلت البلاد إلي هذه الحال، وهي دعوة للانتحار، أو التسامح مع التسيب والفساد حتي لو ترتب علي ذلك تحويل المجتمع كله إلي غابة يسيطر عليها الأغنياء والأقوياء.

ويبدو أن النظام، الذي يعمل بمنطق «أنا ومن بعدي الطوفان»، ليس أمامه سوي البديل الثاني. فترحيل الأزمة، حتي ولو علي جثة الوطن، أفضل له من حلها. وهنا تكمن حقيقة مأساة يبدو أنه بات علي المجتمع أن يواجهها الآن قبل الغد، وذلك لسبب بسيط، هو أنه هو الذي سيدفع وحده ثمن أي تأجيل!

No comments: