Sunday, August 31, 2008

قضية أمن قومي

بقلم مجدي الجلاد

لم أعرف، وأنا أفتح ملف «البطالة والفساد والانتماء»، أن الجرح أكثر اتساعاً من خريطة الوطن.. لم أعرف أن مصر تغيرت كثيراً، وأن أمنها القومي في خطر حقيقي.. كنت أظن أن بمقدورنا إصلاح ما أفسدته السنوات الأخيرة في نفوس الشباب.. ولكن ردود الأفعال والرسائل والتعليقات بدت وكأنها ثقب مرير يصعب رتقه أو تضميده.

من بين مئات الرسائل.. إليكم ما كتبه شاب مصري من الخارج لعل الذين «يخففون» من حدة الأزمة يفهمون ما يحدث في كل بيت مصري.. يقول الشاب في رسالته تحت عنوان «الوطن الذي كان»: لقد تابعت مقالاتك «قضية أمن قومي»، وأثار هذا الموضوع في نفسي شجوناً وأوجاعاً كثيرة، وطرحت علي نفسي السؤال، وأنا الذي خدمت في القوات المسلحة «هل إذا قامت حرب مع إسرائيل سأشارك فيها؟»..

ووجدت نفسي في حيرة شديدة، واسمح لي أن أقص عليك حكايتي: فقد نشأت في عائلة لها شهداء في الحروب التي خاضتها مصر ضد إسرائيل، ولأنها أسرة بسيطة فقد تعلمنا بالكفاح، وغرس أبي وأمي بداخلنا مبادئ الأمانة والشرف.. تعلمنا أن العلم وحده هو الذي يصنع المرء.

أنهيت المرحلة الثانوية بتفوق، والتحقت بأحد الأقسام النادرة بإحدي الكليات العلمية، وأكملت رحلة التفوق إلي أن أنهيت دراستي الجامعية، فقد كان الأمل بداخلي أقوي من حالة الإحباط وغياب العدالة الاجتماعية في البلد، لذا فقد تقدمت للجامعة لاستكمال الدراسات العليا، ولكن التحاقي بالقوات المسلحة حال دون حضوري المحاضرات العلمية في الجامعة، فتم حرماني من دخول الامتحان، وضاع حلمي في الحصول علي الدكتوراه.

في أثناء خدمتي العسكرية، التحقت بأحد المراكز البحثية لتخصصي العلمي النادر، واعتقدت في البداية أنها ستكون فرصة لتطوير خبراتي، ولكنني فوجئت بأن مهمتي أنا وزملائي، ممن يحملون تخصصات علمية نادرة، هي خدمة الضباط وإعداد الشاي والقهوة، ولن أصف لك حجم السخرية من الشهادات التي نحملها.

كنت أقضي الليالي وأنا أبكي تعبي وطموحي في إفادة البلد بعلمي، ولك أن تتخيل شاباً وضعوا اسمه في لوحة الشرف والتفوق في الجامعة يحدث له كل ذلك.. ورغم إحساسي بالمهانة، فقد خرجت إلي الحياة بعد ذلك،

وكلي أمل في الحصول علي فرصة عمل في طول البلاد وعرضها، حتي إنني تقدمت لأماكن كثيرة، وبعد تفوقي في الاختبارات والمقابلات يتم استبعادي أنا وغيري، لصالح أصحاب «الواسطة»،

حتي إنني نسيت تخصصي العلمي النادر، وتقدمت للعمل بأحد الأجهزة العلمية بالدولة، لإجادتي التامة اللغتين الإنجليزية والفرنسية، واجتزت بنجاح كل الاختبارات والمقابلات، لكن جاء أصحاب النفوذ و«كروت التوصية» وانتزعوا مني فرصتي الأخيرة.ظللت في بحر الأمواج المتلاطمة عدة سنوات..

ضائعاً وتائهاً بين هيئات الحكومة وشركات القطاع الخاص، حتي أرسل لي صديق تأشيرة زيارة للبلد الذي هاجر إليه، وأقسم لك يا سيدي أنني ترددت كثيراً في قبول الدعوة، ولكنني رضخت في النهاية بعد أن أغلقت في وجهي كل الأبواب،

وهناك أقنعني صديقي بالبحث عن فرصة عمل، وفي أقل من شهر وجدت وظيفة في مجال تخصصي العلمي، ومنها انتقلت إلي وظيفة أخري، ثم كانت النقلة النوعية بالتحاقي بأحد المراكز البحثية الحكومية في هذا البلد، وأقسم لك أن كل هذه «النقلات» تمت في أقل من ثلاث سنوات.

استقرت أحوالي.. فعدت إلي حلمي القديم، الذي حرمتني منه مصر.. الدراسات العليا.. وأنا الآن أستعد للحصول علي درجة الماجستير هناك، وأعمل حالياً مساعداً لمدير القسم، وأتقاضي راتباً يعادل ما يحصل عليه نحو ١٥٠ شخصاً من الموظفين في مصر، رغم أنني لم أكمل عامي الثلاثين.

واختتم الشاب رسالته الموجعة بكلمات أكثر إيلاماً: إن أكثر ما يؤلمني الآن أنني في طريقي للتخلي عن جنسيتي و«الوطن الذي كان»، وأقسم لك يا سيدي أنني لم أسع إلي هذه الخطوة، ولكنها جاءت بترشيح وضغوط من رؤسائي، لإيمانهم بتفوقي وتميزي واستفادة بلدهم مني..

لذا فأنا أختتم رسالتي لك بسؤال: إذا كنت مكاني.. هل كنت ستهب للدفاع عن الوطن الذي كان؟!.. أرجو منك أن تضع نفسك في مثل الظروف التي عشتها، ثم أجب عن سؤالي بالحيادية التي أعهدها دائماً في كتاباتك.

الإمضاء: شاب كان نفسه يفضل مصري

انتهت رسالة الشاب.. أما إجابتي عن سؤاله: لا أعرف!.

No comments: