لا يمكنك فهم الأمور جيداً إلا بوضعها في سياقها الطبيعي، وليس منطقياً رؤية الأشياء بنظرة أحادية.. السياق هو الظروف المحيطة، أما الأحادية فهي النظرة الضيقة، التي تفقدك تقدير الموقف، وبالتالي تحرمك من إيجاد حلول واقعية للمشكلات والأزمات.
ثلاثة مشاهد سكنت ذهني خلال الأيام الأخيرة، ذات ارتباط وثيق بعضها ببعض.. يصعب فهم أحدها دون ربطه بالآخر، هي مصر التي في الحقيقة، أو هي حياتنا دون رتوش أو تجميل.. الواقع الذي يسعي النظام الحاكم بأبواقه الإعلامية لإخفائه، والقبح الذي بات يملأ كل العيون.
(١)
المشهد الأول: صخور المقطم تجثم فوق البيوت المتهالكة والأجساد المنهكة.. تجسيد واضح لعشوائية دولة، وعجز نخبة حاكمة.. انعكاس أوضح لغياب العدالة الاجتماعية، وتجاهل المهمشين.. التفاصيل ترسم صورة مفزعة لمستقبل بلد يعيش تحت جلده ٨ ملايين مواطن في العشوائيات والمقابر.. عجزت الدولة عن إيجاد حل لهذه المعضلة، أو هي لم تفكر أصلاً في الأمر.. وفي هامش المشهد، يقف عبدالعظيم وزير، محافظ القاهرة، معلناً بذل الجهد لتوفير الشقق للمشردين، الذين فقدوا «مقابرهم» تحت صخور المقطم.. والشقة غرفتان وصالة «بمنافعهم» في الصحراء.. عموماً ليست مشكلة، فالحياة «الميتة» في العشوائيات لم تكن أفضل من الحياة «الباردة» في شقق المحافظة.
(٢)
المشهد الثاني: الحياة الأخري حين تتحول إلي ملهاة وفانتازيا.. تحقيقات النيابة العامة في قضية مقتل المطربة المغمورة سوزان تميم، تكشف عن حجم إنفاق رجل الأعمال هشام طلعت مصطفي عليها.. أرقام فلكية، قدرتها مصادر التحقيق بـ ١٢.٥ مليون دولار.. ليس هذا فقط، وإنما هناك أيضاً مليونا دولار تم رصدهما لتنفيذ الجريمة.. إجمالي المبلغ ١٤.٥ مليون دولار..
أي ٨٠ مليون جنيه مصري أنفقها رجل واحد من رجال الحكومة والحزب الوطني علي امرأة واحدة، لم نعرف اسمها إلا بعد مقتلها.. وبحسابات الحكومة في عطائها السخي وإغداقها الرحيم علي سكان العشوائيات المنكوبين، فإن هذا المبلغ يكفي لبناء ألفي شقة «غرفتين وصالة بمنافعهم».. وهذا غيض من فيض إنفاق بعض رجال النظام والحزب الحاكم علي المغامرات.
غابت ثقافة الثروة، فسقطت المليارات في «حِجْر» من لا يعرف قيمتها لوطن شديد الفقر.. والثروة اختبار للنفس والثقافة والتكوين.. جاءت سهلة بلا عناء، فضاعت بين أصابع النساء!
(٣)
المشهد الثالث: الشعب المصري الحقيقي.. شبان وشابات يحلمون بـ«الغرفتين والصالة بمنافعهم».. يطمحون إلي «السترة» تحت سقف، ولو من الخشب.. يتصارعون علي الشاشة أمام الملايين في البرنامج الرمضاني اليومي «دقوا المزاهر»، الذي يقدمه الإعلامي المتميز محمود سعد.. كان المشهد أكثر قسوة من الصخور، التي قتلت وشردت سكان العشوائيات.. شاب وفتاة «مخطوبان» يسجدان علي أرض الاستديو شكراً وحمداً لله علي فوزهما بالشقة.. امتهان «منطقي» وفي سياقه الطبيعي للمواطن المصري، الذي أغلقت في وجهه كل أبواب «السترة»، فـ«لحس» بلاط برامج التبرعات والخير للحصول علي شقة متواضعة.. كيف لنا أن ندين الشاب والفتاة، وفي كل بيت مصري جُرح يتحرك وينمو ويدمي.. شاب عاطل أو يعمل ببضعة جنيهات.. أو فتاة يغتصبها وحش العنوسة كل ليلة؟!
ثلاثة مشاهد تلخص مصر الآن: المهمشون الذين يعيشون علي أكوام «الزبالة»، ويحترفون الجريمة بكل أشكالها.. الثروة التي فتحت الحكومة خزائنها لرجال لا يحبون البلد، ولا يحملون أمانة الثراء.. والملايين ممن ضاعوا في «الفراغ الوطني»، فلا هم عاشوا في المقابر والعشوائيات، فامتلكوا مبرر الانحراف والإجرام، ولا هم «شمّوا» رائحة الثروة، ولا هم أصبحوا طبقة متوسطة، مثل الماضي القريب... والثلاثة هم الخطر الحقيقي علي مصر!
No comments:
Post a Comment