هل تحتاج مصر لمديح وثناء أحد ؟, بالتأكيد لا, فتاريخ هذا البلد ورموزه والأدوار التي قام بها كفيلة بسد الحاجة عن أي ثناء, ألا يكفي مصر ذكرها في القرآن الكريم مرارا وتكرارا وفي مواضع عدة, خمس مرات بشكل صريح وما يقارب التسع عشرة مرة بشكل ضمني!, فهي الأرض والبلد الآمن كما قال الله سبحانه وتعالى (أدخلوا مصر إن شاء الله آمنين) وقوله تعالى على لسان يوسف عليه السلام (اجعلني على خزائن الأرض إني حفيظ عليم) في دلالة بالغة الرمزية على حجم وقيمة مصر في ذلك الزمان.
ما مناسبة هذا الحديث الآن ولماذا؟, وهل يحتاج العارف منا إلى تذكير بما لمصر من باع طويل وفضل على الحضارة الإنسانية في كافة مجالات الحياة ؟, بكل أسف أقول إن كثيرا من المصريين العاملين في حقل الإعلام يحتاجون لتنشيط ذاكرتهم وإنعاشها بشيء من هذا التاريخ العريض, فالحساسية البالغة لدى كثير منهم في تعاطي الآخرين مع الشأن المصري تؤكد الحاجة لبعض الدروس التنشيطية في الأثر المصري على المحيط العربي بل والعالم أجمع, وتؤكد الحاجة أيضا لشيء من التواضع في تناول الأمور!.
قضية تراجع الدراما المصرية والسوء الذي ميز معظم النتاج التلفزيوني المصري في السنوات الأخيرة مثال حي, فالإجماع الكبير داخل وخارج مصر على هذا السوء تقابله حساسية مفرطة في المجتمع المصري تجاه أي كلمة تنشر أو تقال هنا وهناك في نقد ذلك المنتج, بل إن البعض داخل الوسط الإعلامي المصري حولها إلى قضية كرامة وطنية, فمن يمس عملا مصريا سيئا بشيء من النقد كأنما مسّ كرامة وسيادة واستقلال وشعب مصر!, وهذه مبالغة في رد الفعل نتج عنها هذا "التشاتم" العربي والجدل حول من يتفوق وصولا إلى سؤال الريادة, ولم يفكر هؤلاء المبالغون في جملة العوامل التي جعلت النصيب الأكبر من الانتقاد ينال الأعمال المصرية ولا ينال غيرها, ولم ينظروا للايجابيات التي تقف خلف هذا النقد الكبير, إن من يتناول شأنا مصريا سياسيا كان أو اقتصاديا أو فنيا ينطلق بوعي أو دون وعي منه بعمومية هذا الشأن وعبوره للحدود في السطوة والنفوذ والتأثير وكل ما يترتب عليه من ناحية السلب أو الإيجاب, والتراجع في القاهرة ليس كغيره أبدا فصداه يتردد سريعا في العواصم العربية جميعها دون استثناء, ومن يلمس بإصبعه موطنا من مواطن الخلل الكثيرة والكبيرة في مصر لا يقزمها, فمن يقزمها أولئك الذين امتهنوا المهاترة والجدل حول القضايا التافهة وجعلوا منها قضايا رأي عام في استغلال بشع للحالة الشعبية العاطفية الجياشة وتوجيهها نحو قضايا أقل ما توصف به الهامشية.
والحقيقة أن مصر تعيش اليوم أسوأ مراحلها التاريخية, كل شيء متراجع في ذلك البلد بدءا بالسياسة والحكم والاقتصاد وصولا إلى الفن والرياضة وغيرها, فهل يعقل أن مصر السياسية والأمنية والمخابراتية ترمي بكل ثقلها في محاولة إطلاق أسير إسرائيلي (غلعاد شاليط), وتختزل دورها التاريخي ونضالها الطويل وتأثيرها في القضية الفلسطينية وتجيره لصالح أمر كهذا ؟, ثم تفشل أيضا !, وهل يعقل أن مصر العسكرية تسمح لها اسرائيل وبشكل استثنائي بنشر 750 شرطي على شريط فيلادلفيا الممتد مع قطاع غزة قال عنهم الجنرال الصهيوني عاموس جلعاد وهو قائد عسكري يعمل في وزارة الدفاع الإسرائيلية حينذاك: إنه اتفاق مفصل جدا حدد حتى عدد المسدسات التي سيجهز بها حرس الحدود المصريين!!. وهذا الاستثناء جاء لمنع نقل السلاح إلى الفلسطينيين أي أنه جزء من المنظومة الأمنية الإسرائيلية, وإمعانا في الإذلال رفضت اسرائيل بعد ذلك طلبا مصريا بزيادة العدد مما جعل القاهرة تعتبره إحباطا للجهود التي تبذلها في حماية الحدود وتثبيطا لمعنويات الجنود المصريين!!.
ويستمر مسلسل اللامعقول في الحالة المصرية الراهنة, فمن كان اقتصادها يعد "خزائن الأرض" يقتتل الناس فيها في طوابير الخبز الطويلة, ليس فقرا ولا نقصا في الموارد, بل تعبيرا صارخا لواقع سيء وترجمة عملية لتقارير البنك الدولي التي أعلنت أن حجم خسائر الفساد في مصر يقدر بنحو ٥٠ مليار جنيه سنوياً، وأن عدد قضايا الفساد بلغ ٣٦٥ ألف قضية. ومؤشر مكافحة الفساد للعام الحالي الصادر عن البنك أيضاً تتذيل فيه مصر المراتب الأخيرة بين دول الشرق الأوسط وشمال أفريقيا. أما مصر الدينية والتي بني الأزهر فيها قبل ألف وأربعين سنة وكانت منارة للعلم والعلماء, يتراجع مدها العلمي والديني ويتحول جامعها الأزهري إلى أشبه بمدرسة للكتاتيب وغطاء تبريري للسلطة والسلاطين, ويخرج منه من يحذر بمدِّ شيعي يستهدف مصر وأهلها في رغم تاريخ المصريين الطويل المستعصي على التوظيف الطائفي والمذهبي, علما أن الأزهر ذاته أنشأ إبان الحكم الفاطمي الاسماعيلي الشيعي وبغرض إحداث تحويل في الوجهة الدينية لأهل مصر!, مما يعزز اختزال منطق الأمة في ذلك البلد العظيم في حدود جغرافية وسياسية وينزلها من مرتبة الشمولية إلى حدود الطائفة والمذهب.
اقدر كثيرا إحساس الفرد بوطنه وغيرته عليه, لكن على المصريين أن يمارسوا ذلك بشكل أفضل, وإذا كان ثمة ما يؤرق المصريين فهو حال البلد وما آلت إليه, وليس إحساس كثير من العرب بانتمائهم لمصر وما يجري فيها وانتقادهم لأوجه القصور هناك, فحدود مصر النفسية والعاطفية أكبر بكثير مما هي عليه الآن , حتى وإن أراد البعض اختصارها في مجموعة مسلسلات لا تقدم ولا تؤخر !.
No comments:
Post a Comment