بقلم د.عمار على حسن
تهيل الصحف «القومية» في هذه الأيام التراب علي حكومة أحمد نظيف، وتذهب في تحميله ووزرائه مسؤولية الأزمة الراهنة إلي أقصي حد ممكن، وتستفيض في شرح جوانب فشل وزارته ومجالات إخفاقها، وتتحدث عن الهوة الواسعة التي تفصلها عن الناس، وعن افتقادها القدرة علي إدارة الأزمات، وافتقارها إلي مهارة التعامل مع المشكلات المزمنة، وتسببها في إصابة المصريين بيأس جارف، بعد أن عزّ عليهم رغيف الخبز.
وكل ما يقال هنا صحيح، لكنه حق أريد به باطل، فنظيف ليس سوي موظف كبير بدرجة رئيس وزراء، يتيح له نص الدستور أن يشارك رئيس الجمهورية وضع السياسات العامة والتخطيط لمستقبل البلاد، ولا يتيح له الواقع سوي تنفيذ ما يقال له من توجيهات عليا.
ومنذ البداية بُحّ صوت الكتاب المستقلين والمعارضين والساسة المختلفين مع الحزب الوطني وهم ينادون بعدم صلاحية نظيف للمنصب، فالرجل كان مجرد أستاذ جامعي، وخبير في مجال الاتصالات، كغيره من الأساتذة والخبراء، ولم تكن له علاقة بالسياسة من قريب أو بعيد.
ولقد تعودنا طيلة السنوات السابقة أن يبدأ الهجوم علي الحكومة كلما كانت هناك نية لتغييرها، ويستعمل كتاب السلطة علي أوسع نطاق في تنفيذ هذا الأمر، ولا مانع من أن يحصلوا علي معلومات وبيانات كانت مخفية أو مسكوتاً عنها، حين كانت الحكومة تحظي بالرضاء، فينشروها تباعا للبرهنة علي فشل الحكومة، وتحميلها مسؤولية الأزمات، واتخاذها «كبش فداء» لتهدئة الناس ولو قليلا.
لكننا لن نلدغ من هذا الجحر مرة جديدة، بعد أن اتسع الخرق علي الراتق، وفقد الناس أي بصيص من الأمل، وانكشف لنا أن الخلل أكبر من أن ينتهي بمجرد تغيير شخص أو مجموعة، وأن «الاستقرار والاستمرار» ليس بوسعهما رسم سياسات بلد كبير بحجم مصر، وأن الاعتماد علي عصا الأمن الغليظة والباطشة فقط ليس بمقدوره أن يوفر الحد الأدني من الاطمئنان علي مجريات الأمور، وما ستنتهي إليه.
إن من يعصر ذاكرته قليلا سيجد أن القوي الوطنية طالما طالبت، علي حافة كل تشكيل وزاري، برئيس وزراء مارس السياسة منذ نعومة أظفاره، ويعرف أن موقعه أكبر من مجرد «سكرتير» للرئيس، أو موظف بيروقراطي كبير، أو «عامل سويتش»، كما قال أحدهم، لا يفعل سوي تحويل الأوامر من الرئيس إلي الوزراء، أو رقم في طابور التشريفات، التي تنتظر في الأماكن التي يحل بها رئيس الجمهورية.
لكن الجميع كانوا يفاجأون كل مرة باختيار عكسي، بزعم أننا في حاجة إلي «التكنوقراط» من حملة الدكتوراه، وليس الرجال الذين يمتلكون تصورا عاما، ورؤية استراتيجية شاملة، وموقفا واتجاها محددا، يعرف صاحبه جيدا الإمكانات التي يقف عليها، والغايات التي يصبو إليها.
لقد تعدل الدستور، وتم توسيع صلاحيات رئيس الوزراء، فإن كانت هناك نية لإصلاح الأحوال، فليتم اختيار شخصية سياسية لتولي هذا المنصب الرفيع، وتترك لها حرية تشكيل الفريق الوزاري، وليكن أعضاؤه جميعا ممن مارسوا السياسة، ويعرفون عن كثب حقيقة الأوضاع في هذا البلد، وليس من بين قاطني الأبراج العاجية، ولا من ولدوا وفي أفواههم ملاعق من ذهب، أو من يتأففون من عزب الصفيح وملابس أولاد الشوارع، أو يسدون أنوفهم حين تصل إليها رائحة عرق الفلاحين والعمال.
ومصر العظيمة غنية بأمثال هؤلاء الرجال، إن صدق العزم علي البحث عن الرجل المناسب، الذي لا يكون إلا ما يريد، ولا يفعل إلا ما يحقق الصالح العام، ولا يرضي أن يكون مجرد ظل باهت أو تابع أمين، لا يهمه إلا أن يبقي في منصبه أطول فترة ممكنة، حتي لو تصدع كل ما حوله، وعم الخراب.
Tuesday, April 15, 2008
Subscribe to:
Post Comments (Atom)
No comments:
Post a Comment