Tuesday, December 11, 2007

صورة للشعب التعبان تحت الراية المكسورة!

جمال فهمي

د أجزم أن 99 في المائة علي الأقل من المصريين لم يكونوا يعرفون، قبل أسبوع واحد، أن في القاهرة شارع اسمه حسين حجازي، كما أن النسبة نفسها (أو أكثر) منهم لم يسمعوا أبداً، حتي أسابيع خلت، عن قضية موظفي الضرائب العقارية ومطالبهم ومعاناتهم. بل ربما عزيزي القارئ لو ذهبت معي في الصراحة إلي أبعد من ذلك فسوف تشاركني اليقين أن أغلبية كبيرة من سكان هذا البلد كانت تجهل أصلاً أن هناك شيئاً يسمي "الضرائب العقارية" إما لأنهم غير معنيون بالموضوع باعتبارهم ليسوا من ملاك العقارات ولا غيرها، أو لأن الاسم الشائع لهذه الضريبة هو "العوائد" وليس الضرائب.
لكنك تقرأ الآن هذه السطور بينما شارع حسين حجازي صار يسبح في شهرة شارع الشانزليزيه الباريسي بعدما افترش رصيفه بضعة آلاف من موظفي الضرائب العقارية احتجاجاً علي تجاهل الحكومة (منذ عقود طويلة) مطالبهم العادلة التي إذا تحققت كلها فلن تتلون حياتهم باللون البمبي وإنما قد يبتعدون قليلاً عن حافة الموت جوعاً وسيبقون يصارعون مع غالبية الشعب المصري صعوبة الحياة وقسوتها تحت وطأة البؤس والفقر والعدم.
إذن.. نجح مواطنون (رجال ونساء وأطفال) منسيون اعتصموا بالعراء وصمدوا أمام البرد والزمهرير في شارع منسي أن يدخلوا بقضيتهم دائرة الضوء والاهتمام الإعلامي الذي لا يقترب عادة من أمثالهم إلا في مناسبات أو مهرجانات الموت والإبادة الجماعية من نوع مقتلة "العبَّارة" أو محرقة "قطار الصعيد" وخلافه. وأعترف بأنني أكتب في الموضوع بعدما شبع تعليقات تناولت كل أبعاده وتفاصيله ودلالاتها ابتداء مما يشي به هذا التحرك الغاضب من مواطنين فاض بهم الكيل والمعاناة لدرجة دفعتهم للتصرف عكس طبيعتهم المستكينة المستنيمة التي تخاصم التمرد، وانتهاء بالاجتهاد في رصد دلالات انفجار غضب هذا النوع من المواطنين وما يحمله من إشارة قوية علي أن ثمة نذر تتجمع في الأفق وتبشر بنهاية سوداء لسياسات اقتصادية واجتماعية جاهلة وفاسدة ورعناء طالت بنتائجها الكارثية أغلب طبقات وفئات المجتمع ووضعته علي شفير بركان مدمر.
غير أنني التقطت من لوحة وقائع إضراب واعتصام موظفو الضرائب العقارية واقعة إصرار الحكومة علي استخدام جحافل الأمن والمباحث لزحزحة المحتجين وإبعادهم من شارع مجلس الشعب حيث يتجاور مقر الحكومة ومقر مجلسها الذي ينسب نفسه للشعب زوراً وبهتاناً، ودفعهم بالقوة إلي شارع حسين حجازي الذي يبعد أمتاراً قليلة عن المقرين لكنها كافية لئلا تقع عيون الحكومة الكحيلة علي هؤلاء المواطنون الفقراء.
أعرف أن هناك تفسيرات جاهزة ومشهورة لهذا الإصرار الحكومي علي منع تواجد المصريين عموماً وأغلبيتهم الفقيرة بالذات في مرمي بصر أهل الحكم، ومنها الحفاظ علي صورة البلد كما ترسمها تصريحات كبار المسئولين، أي مجتمع ينعم بالاستقرار والاستمرار (أكثر من 62 عاماً حتي الآن) ويرفل سكانه في نعيم الرخاء والنماء والهناء، فضلاً عن حكمة الرئيس حسني مبارك التي صارت هدفاً لحقد وحسد الحاسدين في أركان الدنيا الأربعة. لكن هذا التفسير وغيره من التعليلات الكسلانة التي تستسهل "التحسيس" علي ظاهر الوقائع والحوادث دون تجشم مشقة الغوص في عمقها لم تعد قادرة علي إقناعي، لذلك اجتهدت في التنقيب عن سر استماتة الحكومة ومباحثها في إبعاد المواطنين المعتصمين من شارع مجلس الشعب إلي شارع حسين حجازي بحيث تحجب المباني الفاصلة بين الشارعين المتوازيين تماماً منظرهم الذي يصعب علي الكافر عن عيون الداخلين والخارجين من وإلي مقر الحكومة ومجلسها الموقر.
وبعد تفكير وتمحيص اكتشفت أن السر كله يرقد في شعار "ضرورة مراعاة" البعد الاجتماعي الذي لطالما استخففنا به وتندرنا واتريقنا علي المسئولين الكبار قوي وهم يلوكونه في أفواههم كاللبانة. ولأن هؤلاء المسئولون القاعدون حالياً علي قمة هرم الحكم في البلاد أصبحوا (بحكم المنشأ والأصل) نوعين وليس نوعاً واحداً كما أيام زمان، فإن لكل منهم مفهومه الخاص لحكاية البعد الاجتماعي وتطبيقاتها، فرغم أن كليهما يفهم هذا "البعد" علي أنه عكس "القرب"، أي "إبعاد" للشعب عن المنطقة كلما كان ذلك ممكناً، إلا أن دوافع الفريقين للحرص علي هذا الإبعاد مختلفة، فبينما يري فريق الديناصورات القديمة أن إبعاد الشعب عن خلقتهم أمر ضروري لاعتبارات صحية بحتة علي أساس أن وجوده أمامهم يذكرهم بجريمتهم، فإن فريق أطفال الأنابيب من المليونيرات والمليارديرات زملاء وأصدقاء وتوابع الأستاذ جمال مبارك يعتبرون حضور الشعب في المشهد أمر يتناقض مع "الفكر الجديد" ويؤثر سلباً علي السياحة والاستثمار الأجنبي، والأخطر أن ظهور أي واحد من سكان البلد الأصليين يشوش علي الصورة الذهنية البلاستيكية للمصريين التي تظهر واضحة في ملصقات دعاية الحزب الحاكم ويبدو فيها العامل والفلاح والطالب والموظف والمرأة (بنوعيها المحجب والسافر) جميعهم مواطنون صالحون مستوردون للتو من ألمانيا، لهذا تجد- سيادتك- أمارات السعادة تمرح وتسبح دائماً علي وجوههم بدون مناسبة!

No comments: