د. معتز بالله عبد الفتاح
المشهد الأول:مئات الآلاف من المسلمين يصلون في الحرم الشريف يدعون الله أن يولي أمورهم خيارهمالمشهد الثاني: مئات الآلاف من البورميين (من مواطني بورما) يخرجون مع قادتهم الدينيين في مظاهرات يطالبون بالديمقراطية
عمَّ يبحث اللاهثون بالدعاء في المشهد الأول؟ وفي ماذا يأمل الخارجون إلي الشوارع في المشهد الثاني؟
الفريق الأول يبحث في سنن الله الخارقة كأن يدمر أعداء المسلمين وأن ينصر المؤمنين وأن يحل لهم مشاكل الدنيا والدين.
أما الفريق الثاني من البورميين فلم يذهبوا إلي المعابد في سباق محموم من أجل أن يتقبل عنهم ربهم دعاءهم ويزيل عنهم حكامهم، بل قرروا أن يحلوا مشاكلهم بأيديهم.
إن المسلمين في مأزق، إنهم يريدون الجهاد من دون أن يعدوا له ما استطاعوا، ويريدون تصحيح صورتهم عند غير المسلمين من دون أن يجتهدوا بالقدر الكافي لتصحيح واقعهم، ويريدون أن يولي أمورهم خيارهم من دون أن يتحملوا أكثر من مشقة الدعاء، انهم «أرادوا الخروج» من دون أن «يعدوا له عدته» فألقوا بأنفسهم في مفارقة الأمل في سنن الله الخارقة من دون العمل من أجل سنن الله الجارية.
إن الرسول الكريم أعد عدة الهجرة من طعام وشراب ودابة ورفيق ودليل (وإن كان كافرا) آخذا بسنن الله الجارية، ثم جاء احتياجه لسنن الله الخارقة حين قال صاحبه: «لو نظر أحدهم تحت قدميه لرآنا»، فتدخل الله بسننه الخارقة بأن أوحي لعبده ألا يحزن فإن الله معه. وكأنه يكرر مقولة موسي عليه السلام يوم أخذ بسنن الله الجارية بأن أسري بعباد الله ليلا لأنهم متبعون، وحين احتاج المؤمنون مع موسي لسنن الله الخارقة كان الله عونا لهم فقال موسي «إن معي ربي سيهدين». إن عظمة الحضارة الإسلامية لم تأت من قدرتها علي خرق العادات والارتفاع فوق قوانين الطبيعة وتحدي سنن الله في خلقه، بل باكتشافها والتفاعل معها. فقدروا العقل ورفعوا منزلته، وطوروا مناهج وأدوات بحث جديدة اختلفت جوهرياً عما خلفه اليونان القدماء. لقد اخترعوا علوما كالجبر مثلا، وصححوا مسارات أخري كالكيمياء والفيزياء والطب، لقد جمعوا سيادة الكون وعبادة الله في معادلة تؤمن بسنن الله الكونية وتستلهم العمل من دون البحث عن خرق القوانين.
قال أحدهم: للجهاد معجزاته والموت في سبيل الله أسمي أمانينا حتي من دون أن نكون أقوي من عدونا، فلا ينبغي أن نؤجل الجهاد في فلسطين والشيشان وأفغانستان والعراق، قلت: ولكنك تخليت عن سنة الله في خلقه، فالموت وحده ما كان أسمي أماني المؤمنين الأوائل، فلو صح هذا لما عاد خالد ابن الوليد بالجيش من مؤتة بعد أن تبين له استحالة النصر وهلكة الجيش، وقد أقره الرسول صلي الله عليه وسلم علي هذا من باب «ولا تلقوا بأيديكم إلي التهلكة» (البقرة 195). إن نصرة دين الله هي أسمي أمانينا، أما الشهادة، بنصر أو من دون نصر، فهي نتيجة سعينا للنصر وليست هدفا في ذاتها.
فلقد أجل الرسول بعض المعارك (كغزوة ذات الرقاع مثلا)، إلي ما بعد صلح الحديبية حتي يأخذ بسنن الله الجارية في الإعداد والتخطيط والنصر. لقد استعان الرسول بسنن الله في خلقه بأن جعل الحكمة والعلم ضالة للمؤمن، وقد وجدهما المسلمون عند الفرس في فكرة حفر الخندق، وعند الرومان حينما استعان المسلمون بالمنجنيق لفتح الطائف، وعند المنافق (صفوان بن أمية) لحرب هوازن. إن المسلمين قد ابتلوا بمرض تسجيل المواقف (بالدعاء مثلا) أكثر من السعي العملي لحل المشكلات (بالتفكير العلمي من أجل التخطيط لمستقبلهم). وإن سنن الله الخارقة لا يمكن التخطيط لها لأنها ليست بأيدينا، وإنما بيد الله يقلبها كيف يشاء «وما يعلم جنود ربك إلا هو« (المدثر 31)، ويمكن أن تعمل في صالح المؤمن كما للكافر. فالله «رب العالمين»، وليس فقط «رب المسلمين»، ومن هنا كانت التفرقة بين عطاء الربوبية الذي لا يفرق بين مؤمن وكافر، كما في قوله: «كلا نمد هؤلاء وهؤلاء من عطاء ربك وما كان عطاء ربك محظورا» (الإسراء 20). وعطاء الألوهية الذي يمنّ الله به علي عباده الذين جمعوا بين صفتي الإيمان بالله (قلبا ويقينا) والعمل الصالح وفق سننه كما في قوله: «الذين آمنوا وعملوا الصالحات إنا لا نضيع أجر من أحسن عملا» (الكهف 30). وعلي هذا فالعاقل المخلص في عمله، وإن كان كافرا سينتصر علي المزيف والمتواكل وإن بدت عليه أمارات الإيمان.
إن مثل حال المسلمين كمن يرفض أن يتعلم السباحة ويخطط أن يغزو محيطات وبحار العالم بالدعاء من دون العمل.
إنني كم كنت أتمني أن يطلب الأئمة والمشايخ من المسلمين أن يستبدلوا التزيد في بعض السنن، بجهد منظم لتنظيف شوارعهم من القاذورات، طالما أن النظافة فرض علي المسلمين. إن أنفس المسلمين عامرة بالرجاء في الله والخوف منه، لكنها ليست عامرة بعلم سننه وتأمّل قوانينه والبحث العملي عن علاج لمشاكلهم.
إن مثل مواطني جورجيا أو بورما الذين خرجوا مطالبين بحقهم في رفض الاستبداد، ومثل المسلم الذي يدعو الله أن يولي أمور المسلمين خيارهم، كمثل المتوكل الذي أخذ بسنن الله في خلقه وكونه، والمتواكل الذي يدعو الله أن «تسقط عليه السماء ذهبا وفضة». إننا بحاجة لإعادة ترتيب الأولويات لنجعل قيم العلم والعمل والمشاركة والابتكار والإتقان في المقدمة علي قيم الصبر المتخاذل والتواكل الساذج ودعاء العجزة وانتظار المعجزات، اللهم أعطنا قلوب أهل الحرم وعقول أهل جورجيا وأوكرانيا وبورما.. آمين!
Sunday, December 2, 2007
Subscribe to:
Post Comments (Atom)
No comments:
Post a Comment