Friday, October 12, 2007

متي تتحدث مصر؟

متي تتحدث مصر؟
بقلم: أسامة أنور عكاشة
لا أعتقد أنه قد دار بخلد شاعر النيل العظيم «حافظ إبراهيم» وهو يكتب خريدته الفريدة «مصر تتحدث عن نفسها» والتي انطلق فيها اللسان بضمير وروح وطلاقة وطن الكبرياء ـ أن يأتي زمن عشوائى رديء تختلط فيه كل الأشياء بكل الأشياء ولا يتبين في ظلمته أي اتجاه.. زمن فاقد الطعم كريه المذاق.. يبدو فيه المصريون في غالبيتهم العظمي وقد صمتوا.. وفقدوا قدرتهم علي التباهي أمام العالم.. وشطارتهم في «اللماضة» والتفاخر بالماضي والحاضر والمستقبل:وقف الخلق ينظرون جميعاً كيف أبني قواعد المجد وحديوبناة الأهرام في سالف الدهر كفوني الكلام عن التحدي.. قطعاً لم يتخيل حافظ.. ولا غيره طوال العقود الطويلة من القرنين التاسع عشر والعشرين.. أي يأتي علي المصريين.. «صياغ» الكلام و«حريفة» الهمس والرمز والتصريح والتلميح وأساتذة فنون القول جميعاً.. زمن يستسلمون فيه للكآبة والصمت! أسمع من يحتج معترضاً: أي صمت وها هي مدننا وقرانا تعج بالضجيج حتي ضربنا الأرقام القياسية في التلوث السمعي.. والقاهرة حولنا تموج بهدير كأنه صوت إعصار يلف البيوت والشوارع والحواري.. ومشاجرات الأرصفة وصرخات اللعنات والسباب تجلجل في كل الآذان.. وأجهزة التلفزة والإذاعة المسموعة مفتوحة علي آخرها تنافس مكبرات الصوت المنتشرة في كل الأرجاء بمناسبة وبدون مناسبة..نعم! هذا يحدث ولا يجهله إلا الصم ولكنه ليس ما أقصده! وليس ما أسميه صمت المصريين، فالصمت الذي أعنيه هو الامتناع عن «الفعل» وفقدان القدرة ـ أو الشهية ـ علي الحركة... هذا الكم الغفير من البشر ـ ما يقرب من الثمانين مليوناً في عين العدو ـ كلهم مشاهدون.. وكلهم يكتفون بالفرجة ومصمصة الشفاة أو بكتيره إطلاق تعليقات السخرية والغضب.. ولكنهم أبداً لا يتحركون بنية القايم «بفعل».. أي فعل.. لأنهم في واقع الأمر لا يقدرون ولا يعرفون.. لا يقدرون علي الفعل بعد أن ضمرت لديهم أعضاء الفعل والحركة نتيجة عدم الاستعمال طوال ما يزيد علي نصف القرن (تقول قوانين علم البيولوجي إن العضو الذي لا يستعمله الإنسان يذبل ويضمر بالتدريج حتي يسقط ويختفي)..وهم لا يعرفون ماذا يفعلون حتي لو توفرت لديهم النية والقدرة.. هم يساقون فقط إلي مسارات تفرض عليهم بحكم نظام يسوس أمورهم يركبه قلة ممن يجيدون فن القفز علي كراسي السلطة والإمساك بعصي السلطان.. ولأن هؤلاء لا يملكون في حقيقة الأمر خططاً ولا برامج سياسية حقيقية تتوخي مصالح «الرعايا» من خلال منظومة أو «سيستم System» ولا تجمعهم إلا المصالح المشتركة والمنافع المتبادلة ومنطق «شيلني وأشيلك» ويؤمنون في أعماقهم الضحلة الآسفة بفرية أن شعب مصر ـ مهما ألهبت ظهره السياط ومهما رزح تحت نير القهر ـ هو شعب «طيب» و«غلبان» و«مسالم».. وأنه قد اعتاد حكم الفراعين القدامي وفرعنة المحدثين المتألهين.. فإذا ذكرتهم بأطراف من هبات وانفجارات سابقة كقيام ثورة 1919 وأحداث يناير 1977 قالوا لك: إن الأولي: كانت هبة وطنية ضد «الاحتلال البريطاني» والثانية مجرد فورة «بالفاء» كفورات مشابهة تشبه زوابع في فناجين صغيرة.. وربما سألوك:هب عساكر الفلاحين بقيادة عرابي ضد الخديو.. وكانت هوجة.. فعن أي شيء أسفرت؟.. ألم تنته الهوجة وبقي الخديو ودخل الإنجليز ونفي عرابي إلي «سرنديب» ليعود بعد سنين مقهوراً كاسف البال ويهجوه شاعر «القصر» الذي توجناه بإمارة الشعر قائلاً:صغار في الذهاب وفي الإياب أهذا كل شأنك يا عرابي؟وفي السبعة والسبعين خرجت الجماهير الغفيرة في هبة «مظاهرات الخبز» ـ كما أسمتها الصحافة الأجنبية وهددت في الأسماع أصوات الغضب.. وخيل إلينا ساعتها أن مصر الصامتة تنفض عن نفسها رداء الركود وتتهيأ للفعل والحركة.. ولكن أجهضت «الفورة» بنزول الجيش.. الذي نزل مرة أخري في أحداث الأمن المركزي في ربيع العام السادس والثمانين من القرن الماضي.. ولم تكن هذه مرة هبة جماهيرية بقدر ما كانت نوعاً من الاحتجاج «الفئوي» ولم تلبث بدورها أن تلاشت..وحين جاء عاما «الحراك» الشهيرين 2005 ـ 2006.. وتململ فيها الجسد الساكن أو هكذا خيل لنا.. وتبادلنا الأماني والبشارات: ها هي حركة كفاية وها هي حركات التجمع من أجل الحرية والديمقراطية.. كل يوم تخرج للوجود حركة جديدة.. والشارع المصري الساكن طوال عقود ينتفض.. والشموع تضيء ليالي كثيرة حول ضريح سعد وفي ميدان طلعت حرب وعلي درج نقابة الصحفيين.. إذاً فهو الموعد.. وستتوالي قطع الدومينو.. وبحكم العدوي علي الأقل سيخرج من حنجرة مصر ما يشق جدار الخرس والصمت..وكانت المفارقة المذهلة والمويئسة حقاً.. أن تقف الكتلة الصامتة نفس وقفتها القديمة.. موقف الفرجة ومصمصة الشفاة والجري أمام خوذات وعصي و«جزم» السلطة!لا جديد!مصر لم تزل صامتة!ويظن الراكبون علي صهوة الجياد الحاكمة أن الصمت هو فضيلة مصر الخالدة وشأنها المعتاد.. وأنها تري فيه ذلك الأمان والاستقرار الذي يتشدقون في خطابهم السياسي.. جاهلين أن تلك هي أمانيهم وحدهم وأن مصر ليست عجيبة من عجائب الدنيا القديمة أو الحديثة وأنها لا بد أن تتحدث ذات يوم قد لا نعرف موعده بالتحديد ولكنه قادم لا محالة..ونريد أن نبرئ ذمتنا تجاه هؤلاء السادة الراكبين علي جياد السلطة ـ وليسوا بفرسانها ـ بأن نحذرهم ألا تخدعهم أحلامهم ولا يستسلمون لخمر السلطان تدير رءوسهم وتعميهم عن رؤية الطوفان..إنذار بالإخلاءنناشدهم أينما كانوا في قصورهم المنيفة «وفيللاتهم» الفاخرة في روابي وحدائق أكتوبر وزايد والتجمع الخامس والقاهرة الجديدة ومرابع جولف القطامية.. ومنتجعات الشرم ومارينا وبورتو مارينا وألسنة «الوزراء» في كل الأنحاء.. نناشدهم في سرايات الزمالك ومصر الجديدة وما يشابهها من مساكن المليارديرات الجدد وأصفيائهم من أهل الحكم..نناشدهم أن يلقوا نظرة فاحصة سيقومون بعدها بحزم أمتعتهم والفرار!أما النظرة الفاحصة فهي لجيرانهم (وهم يطلون عليهم من عل).. أهل منشية ناصر والجيارة والدويقة وعزبة الوالدة وعزبة الهجانة وبولاق الدكرور ورملة بولاق وساقية مكي وأبوقتاتة والعشرين والطالبية وسوق فكيهة وعشرات المستعمرات التي يقطنها ملايين من المصريين يخادنون فيها الفقر والتخلف والحرمان والجريمة.. وتتخمر داخل أوكارهم فطريات التمرد وطحالب الرغبة المدمرة في إشعال الحريق..هؤلاء البشر (إذا تفضلتم بالموافقة علي اعتبارهم كذلك) يرونكم أيها السادة.. ويراقبونكم.. ويتابعون كل ما تنعمون به من رغد العيش الذي يبلغ في معظم الأحيان حد الفجر والعهر.. ويسمعون الأخبار التي تتري علي ملياراتكم وموائدكم العامرة..نعم! هم يراقبونكم بعيون لا تغمض ولا تنام ويربطون علي بطونهم أحزمة تقيهم ألم الأمعاء الجائعة ويضعون أصابعهم في أذانهم حتي لا تصكها صرخات أطفالهم الجوعي..وهم إذا لم تدروا طليعة الآلاف المؤلفة ممن يشابهونهم في قلب القاهرة وحول مدن مصر وقراها الأخري!! فهل يمكنكم أن تنظروا حقاً؟إذا فعلتم فلا شك أنكم ستفرون منهم فراراً وتمتلئون منهم رعباً..وستكون نظرتكم الفاحصة إنذاراً لكم بالإخلاء والنجاة بالنفس قبل لحظة الصفر.. لحظة اشتعال الحريق أو هبوط السيل العرم الذي يجتاح في طريقه كل شيء!ولا يظن أحد منكم أيها السادة الرابضون علي جياد الحكم الجاثمون علي أعناق الأحرار.. أن الغضب الساطع القادم في الطريق يمكن أن تراوغه موائد الرحمن أو توزيع الصدقات.. أو تطامن من نذره قبلات تطبع علي جبين طفل أو شيخ ويتم تصويرها ونقلها بالنايل سات!!وأنت يا عم حافظ! يا شاعر النيل العظيم.. هل يخالجك الآن نفس تفاؤلك القديم؟.. أم أنك ستختم الصفحة كما فعلت قديماً بعد إحدي نوبات اكتئابك فتقول:وما أنت يا مصر ببلد الأديب وما أنت بالبلد الطيب؟عفواً يا سيدنا.. مازلنا نعتقد أن مصر لديها يكتمل حملها ما تتحدث به إلي الخلق.. وسيقفون جميعاً لينظروا كيف تنهض من كبوتها لزمن جديد.

No comments: