أسامة غريب
في روايته البديعة «القاهرة الجديدة» صاغ الأديب نجيب محفوظ شخصية محجوب عبد الدايم بأستاذية واقتدار. ثم صارت الرواية فيلماً سينمائياً باسم القاهرة ٣٠ علي يد المخرج صلاح أبوسيف، وقد جسد الفنان حمدي أحمد شخصية بطل الرواية الذي دفعه الفقر الي أن يبيع شرفه لمن يدفع الثمن.
بعد ذلك صار اسم محجوب عبد الدايم مضرباً للأمثال، وأخذ الناس يطلقونه علي من يصادفونهم في الحياة ممن يتسمون بانعدام النخوة والاستعداد للتضحية بالأخلاق والمبادئ في سبيل العيش وارتقاء سلم المجتمع الفاسد.
غير أنني عندما أفكر في نهاية الرواية حين انهار البطل وتهدمت دنياه بعد افتضاح أمره ومعرفة أبيه أن الابن المحترم ليس سوي قواد رخيص يبيع لحم امرأته للباشا الكبير.. أفكر في أن هذه النهاية المنطقية ربما ترجع إلي أن فترة الثلاثينيات من القرن الماضي علي كل ما بها من فقر كانت لا تزال تتسم بقدر من الإحساس بالعار عند حضور أسبابه، وهوالأمر الذي أتصور أنه قد انتفي من حياتنا اليوم أو كاد، وهذا الفارق قد يفيد هواة عقد المقارنات بين مصر الملكية ومصر اليوم.
فارق آخر أساسي يمكن أن نلمحه هو أن محجوب عبد الدايم وسالم «ابن العجّانة» وكل أشباههم من الراغبين في بيع أنفسهم كان بإمكانهم أن يجدوا أثرياء فاسدين مستعدين للشراء، وكان ضيق العيش في ذلك الزمان يطحن فقط أولئك الذين يصرون علي أن تكون لقمتهم شريفة، لكن المستعدين للبيع كانوا مع بعض الصبر دائماً ما يجدون المشتري. أما اليوم فإن هناك معاناة من نوع عجيب قد يكون مضحكاً وداعياً في الوقت نفسه للبكاء ..
تلك هي معاناة أولئك الذين حسموا أمرهم وقرروا أن يتخلوا عن الأخلاق والشرف والكرامة وأن يبيع المرء منهم أمه وأباه وزوجته، غير أن ضيق المجال ووفرة المعروض من الأنذال يجعلهم يتطاحنون علي اللقمة الخبيثة وقد يقتل بعضهم بعضاً في خناقة علي توريد امرأة لرجل أقام مناقصة للحصول علي الأقل سعراً والأعلي جودة!.ويكفي للاستدلال علي مأساوية الحالة أن يقوم أي أحد ولو علي سبيل الاختبار بطلب شهود زور قد تلقي شهادتهم ببريء في السجن مقابل مائة جنيه للفرد، وأنا متأكد أن النتيجة ستكون مروعة من حيث عدد المتقدمين ونوعياتهم ومؤهلاتهم!.
هذه هي المشكلة الآن.. عدد المستعدين للتفريط أصبح ضخماً للغاية، لكن أفق الخيانة مسدود أو يكاد في وجه المستجدين والمجال الحيوي للنذالة صار ضيقاً للغاية، حيث إن عدد الكفلاء الطالبين للخدمات البشعة وغير المعقولة، المستعدين لإيواء واستخدام هؤلاء لا يفي باستيعاب الأعداد الوافدة يومياً تطلب العضوية العاملة في نادي الأنذال!.
أنا لا أنكر أن الحكومة تقوم بمحاولات علي قدر عزم رجالها لضمان لقمة العيش الشريفة للمواطنين، لكني لا أستطيع أن أتجاهل أن جهود الحكومة في هذا الشأن تقصر عن بلوغ المراد، وأن جل ما أمكنها تقديمه في الفترة الأخيرة هو صفقة المائة وعشرون ألف خادمة اللائي سيشددن الرحال إلي دولة شقيقة عُرفت بحب مصر وتكريم العمالة المصرية. لكن حتي إذا قامت الحكومة بعمل معجزة واستطاعت من خلال وزن مصر ودورها الإقليمي ورصيدها الحضاري في المنطقة أن تصل إلي اتفاق لتشغيل مليون أو ٢ مليون خادمة، علاوة علي مليون أو ٢مليون كنّاس، بحيث لا يخلو بيت أوشارع خليجي من نفحات مصر وإشراقها علي محيطها العربي، فإن هذا في النهاية لن يكون كافياً لأن هناك الملايين غيرهم سيبقون بلا عمل، كما أن حاجز اللغة سيظل عائقاً عن الوصول لاتفاقات مماثلة مع دول الاتحاد الأوروبي ودول الكونكاكاف.
ولأني أري أن حكومتنا- مثل كل حكومات الدنيا- هي حكومة كل المواطنين، الشرفاء منهم والأنذال (خصوصاً أن الأنذال يملكون بطاقات انتخابية)، فإنني لا أتحرج من الدعوة إلي أن تنهض الحكومة بدورها كاملا ً في خدمة مواطنيها، وكما تفكر في توفير لقمة عيش شريفة للشرفاء عن طريق توظيفهم في مشروعاتها ومناشدة أصدقائها المستثمرين القيام بدور في تشغيل العاطلين، وإبرام اتفاقات تشغيل مع الدول المُحبة للمصريين..عليها أيضاً أن تجد حلاً لفئة كبيرة من المواطنين ممن صاروا يقبلون الفساد ولا يمانعون في أكل العيش من أي طريق..
وأنا لا أعرف علي وجه الدقة كيف يمكن أن يتم هذا، لكني أتصور أن ضخ مزيد من الفساد في السوق قد يعمل علي توسيع قاعدة الفاسدين الذين بدورهم سيحتاجون لخدمات الفقراء المستعدين للبيع، فيعم الخير علي الجميع وننقذ السلام الاجتماعي المعرض للانهيار!..هذا أو علينا أن نتوقع انفجاراً قريباً لن يبقي ولن يذر بعد أن يتجمع الأنذال الجدد الذين صنعتهم الحكومة بقسوتها وإهمالها ثم تخلت عنهم دون الاستفادة من نذالتهم، ويقومون بتنظىم صفوفهم مطالبىن بحقهم فى القىام بالأعمال القذرة، وقد ىأخذ تمردهم أشكالاً جدىدة تختلف عن احتجاجات الطلبة والعمال الشرفاء وتتسم بالغدر والضرب تحت الحزام وابتداع فنون من الأذي للوطن تليق بالأنذال والخونة الذين سُدت في وجوههم حتي سبل الخيانة!.
Thursday, October 25, 2007
Subscribe to:
Post Comments (Atom)
No comments:
Post a Comment