Thursday, October 18, 2007

لا عزاء لوطن عطل أصحابه عقله ووجدانه‏

بقلم : د‏.‏ محمد السيد سعيد

علي السور الرائع الذي يحرس واجهة البحر في الإسكندرية كان يقف سارحا ببصره إلي امتداد الأفق‏,‏ كنت قد رأيته في الوقفة نفسها والحالة نفسها علي السور غير الرائع الذي يحمي شاطئ بورسعيد‏,‏ وكان من السهل كسر الصمت وتبادل الانطباعات‏.‏مصري عاش معظم حياته بالبرتغال‏,‏ وهو أمر نادر‏,‏ حكاية طويلة‏.‏بإيجاز‏,‏ كان قد بدأ حياته في وكالة أنباء الشرق الأوسط من بئر السلم‏,‏ ثم ذهب إلي اليونان ومنها لإسبانيا ثم البرتغال‏,‏ ليتولي رئاسة تحرير ثالث أكبر جريدة هناك‏,‏ بعد تغريبة طويلة وغير نمطية‏.‏غير نمطية كانت شخصيته أيضا ما يهمني هنا كانت إجابته عن السؤال التالي‏:‏ إن كنت تحب الإسكندرية كل هذا الحب‏,‏ فلماذا؟ ولماذا لم تشتر بيتا علي الشاطئ هنا أو في الساحل الشمالي؟أملك كثيرا من المال‏,‏ غير أني لست عقاريا‏,‏ مثل بقية المصريين‏,‏ وذهب في ذم المشروع الذي تبنته الدولة وأغرقت فيه عشرات المليارات في الساحل الشمالي‏,‏ كان من الممكن أن نحدث ثورة في الاقتصاد المصري لو أن بلادنا عبأت هذه الموارد التي أغرقناها لو كنا استثمرناها في الصناعات والتكنولوجيات الحديثة‏.‏ عشت أكثر من خمسين عاما في البرتغال‏,‏ وعندما بدأت الحياة فيها كانت أيضا مثل مصر‏:‏ مجتمعا عقاريا‏.‏مثل شخصيات أسامة أنور عكاشة مقتدرة وبليغة في التعبير عن نفسها‏,‏ مضي في شرح واف لتاريخ البرتغال وإسبانيا اللتين تأخرتا في اللحاق بالتقدم السريع في أوروبا الغربية بدءا من القرن السابع عشر‏,‏ ونسب الفارق إلي أن أوروبا كانت قد بدأت تتبني مفهوم الثروة المنقولة‏,‏ بينما ظلت اسبانيا والبرتغال قاعدة عند ثقافة العقارات‏,‏ حتي أقل من عقدين عندما منحتهما أوروبا فرصة الانطلاق في بناء ثروة تقوم علي العقل والعمل‏.‏العقلية العقارية الحديثةكان عشرات من المفكرين والكتاب المصريين قد نبهوا لسخافة الأولوية التي يمنحها المصريون عموما والدولة بالذات للثروة العقارية‏,‏ لذلك ضاع ما قد يصل إلي مائة مليار جنيه في بناء مصايف ومدن جديدة لا يسكنها الناس إلا شهرا أو شهرين في العام تاركين بلادهم دون فرص حقيقية لإيجاد فرص عمل خلاقة في القطاعات الطليعية‏,‏ أو حتي التقليدية في الاقتصاد‏.‏وبنهاية الأسبوع الماضي انفجرت أزمة قطاع التمويل العقاري في أمريكا‏,‏ ومنها انتقلت ومعها ذعر عشرات الملايين من الناس إلي العالم كله‏,‏ لا يهمنا أصل الأزمة وكيف تطورت‏,‏ لأن ما يهمنا هو التنبيه للحذر الواجب في التعامل مع حالة الولع العقاري التي تشكلت في موجة عارمة جديدة خلال هذا العام في مصر وفي عدد لا بأس به من البلاد العربية‏.‏لم يكن هناك مجال لأن أشرح الاختلاف الكبير بين التعلق الرجعي بالمجتمع والاقتصاد العقاري في اسبانيا والبرتغال خلال قرون‏,‏ وما يحدث في مصر والعالم الآن‏,‏ فشرح ما هو معقد قد يفسد التأمل المتبتل للبحر من سور الشاطئ بالإسكندرية‏.‏وحتي لا أفسد علي القارئ يومه‏,‏ وقد يكون فيه بعض التأمل وسط صخب الصيف هذا العام‏,‏ يكفيني اليوم أن أتناول الموضوع بسرعة سير كبيرة‏.‏كان التعلق بالثروة العقارية في الماضي‏,‏ سواء في اسبانيا والبرتغال أو في مصر خلال قرون مضت بسيطا‏,‏ اما أن يكون لدي المرء مال بالفعل فيضعه في بناء سكن أو عقارات أخري‏,‏ أو أن ينتظر حتي يأتيه المال ليفعل ذلك‏,‏ وكان قطاع العقارات كله بسيطا إلي أقصي حد‏.‏اليوم قطاع العقارات من أكثر قطاعات الاقتصاد تشربا‏,‏ أو غرقا‏,‏ في النظام الرأسمالي‏,‏ ويهمنا هنا الغرق في التمويل العقاري‏.‏ ما يحدثه هذا التمويل هو أنه يوجد عرضا وهميا أو بالدفع المؤجل‏,‏ وبمجرد أن تبدأ موجة من الرواج المالي تبدأ معها عمليات بناء عملاقة لمساكن لا يريدها الأغنياء‏,‏ وأحيانا المعوزين أيضا لسد حاجات حقيقية‏,‏ وإنما لنفس الهدف الذي تعلقت به أفئدتهم في الماضي البعيد‏,‏ أي البذخ والاستعراض‏,‏ أو لإبراز مكانة وهمية أو حقيقية‏.‏بين الرواج والانكماشومن طبيعة الموجات الكبيرة للاستثمار العقاري التي نشهدها اليوم في مصر‏,‏ أنها تكون أعلي كثيرا مما يبرره واقع الاقتصاد والدخول‏,‏ ولكنها بتوظيف تقنيات الإعلان ومحركات التقليد وتسهيلات البنوك والتمويل تضع الناس في حالة تفاؤل لذيذة فتدفعهم لشراء عقارات لا يحتاجونها‏,‏ ويغرق في الموجة عدد أكبر من الناس الذين لا يحسنون تقدير موقفهم المالي في المستقبل‏,‏ لذلك يتم بناء وشراء مساكن ومنشآت بأكثر كثيرا أحيانا من طاقة السداد والدخول الحقيقية‏,‏ وعندها يتأخر البيع ويتأخر السداد أيضا بغرق الاقتصاد في الانكماش ويغرق الناس في الديون والاكتئاب‏.‏وبعد الرواج الوهمي تبدأ مواجهة الحقيقة‏,‏ ويطيح الانكماش بملايين من الناس فتنتقل الأزمة إلي قطاع المال والتأمين‏,‏ ومنه إلي بقية قطاعات الاقتصاد‏.‏ ولما بدأت في أمريكا عملية تخصيص صناديق للتمويل العقاري بدأت هي معظم عمليات الترويج الوهمي للعقارات‏,‏ وبالتالي يبدأ الخطر بعد فترة من تجاهل الحذر فتنفجر الفقاعة التي خلقها الترويج والإعلان‏,‏ وهذا ما بدأ يحدث في الولايات المتحدة برغم أنف السيد بوش منفوش الريش الذي تفاخر بروح الاستعراض الجاهل منذ ثلاثة أيام عن متانة الفروع الأساسية في الاقتصاد الأمريكي‏.‏وهذا هو أيضا ما حدث في مصر منذ فترة طويلة‏,‏ تركنا العقل والعمل‏,‏ وهما المنجم الحقيقي لأي اقتصاد يريد أن ينهض حقا‏,‏ وأخذنا في التعلق بالعقارات من جديد‏,‏ وصار الفكر البزنسي بديلا للفكر التخطيطي الحق‏.‏وبالإضافة إلي العقارات أصاب المصريين ولع مذهل بالسيارات الخاصة والمكلفة‏,‏ ويدهش المرء من القوة العاتية التي تدفع حتي فقراء المصريين لتبديد مدخراتهم البسيطة في شراء السيارات‏.‏ وحول ثنائية السيارات والعقارات يدور الاقتصاد المصري يائسا وبائسا غير قادر علي التحرر من أزمة هيكلية سببتها عقول راكدة‏,‏ ومفاهيم بالية‏,‏ وممارسات فقيرة إنسانيا واقتصاديا أيضا‏.‏فالتعلق المريض بالعقارات والسيارات ليس مجرد وهم مضاد للمجتمع‏,‏ بل ومرض مضاد لمعني مفهوم الاقتصاد بأول أبجدياته حتي قبل أن نتحدث عن الأولويات وعن التنمية والتخطيط وغيرها من مفاهيم النهضة‏.‏فالتعلق المريض بالعقارات والسيارات بدد الدخل الاستثنائي الذي حصلت مصر عليه عبر هجرة المصريين لكل بقعة في الأرض‏,‏ ثم إنه يبدد ثروة البلاد البترولية المحدودة‏.‏ ولن يحق لنا أن نفاجأ عندما نبدأ في استيراد النفط ومشتقاته بالأسعار العالمية‏,‏ ولن يكون بوسع أي حكومة وقتها دعم أسعار البنزين الذي تحرقه ملايين من السيارات الخاصة لتسبب لنا مأساة بيئية كبيرة‏.‏لديك وقائع الاقتصاد المصري الجوهرية خلال ثلاثين عاما‏:‏ واحدة من أفقر البلاد في العالم‏,‏ أغرقت مدخراتها في عقارات وسيارات لا يقدر عليها حتي أغني بلاد العالم لتسبب لنفسها كارثة اقتصادية وبيئية غير مسبوقة‏.‏ولا عزاء لوطن عطل أصحابه عقله ووجدانه‏.‏

No comments: