Friday, October 12, 2007

عبقرية البقاء في المكان

كتب : د.عمرو الشوبكى
عرف العالم نظماً سياسية مختلفة في تاريخه المعاصر والحديث، كثير منها لم يكن ديمقراطياً والبعض منها عرف بأنه اشتراكي، والآخر رأسمالي، وبين الاثنين ظهرت أفكار الطريق الثالث، والنظم الاشتراكية الديمقراطية، وعرفنا نحن في مصر النظام الاشتراكي في الستينيات والرأسمالي في السبعينيات، وجاءت الألفية الثالثة لترسخ أركان نظام جديد لا يمكن وصفة بالتأكيد بالنظام الاشتراكي ولا بالنظام الرأسمالي، إنما يمكن اعتباره «إضافة» في مجال النظم السياسية، حين قدم للعالم اختراعاً يمكن تسميته "النظام المتبلد".والحقيقة أن ملامح هذا النظام متعددة منها قدرته «الفذة» في أن يبقي في مكانه ساكنا، في ظل عالم يركض من حوله إلي الأمام، وبدت عبقريته في قدرته علي البقاء في مكانه يبتعد عن السياسة، لأنه لا يعرفها، ولا يتعامل مع الكوارث الموجودة حتي علي أنها مشكلات، إنما يتركها لمن سيأتي عليه الدور ليحلها، وهو في النهاية نجح في أن يحتفظ بمساوئ النظام الاشتراكي والرأسمالي معا، فمؤسساته العامة تدار مثل العزب المملوكية، لا حساب فيها ولا مسؤولية، مكتظة بموظفين لا يعملون، ومسؤولين لا يحاسبون، وسمح بالتوازي مع هذه المؤسسات «الاشتراكية» المتهالكة، لقطاع خاص غابت عن معظمه قيم النزاهة والشفافية والإنتاج، يتقن التهرب من الضرائب، ويعرف كيف يستغل العمال والمستهلكين أبشع صور الاستغلال.وبدا المشهد المصري الحالي في ظل النظام المتبلد مثيراً للدهشة والحيرة، فقد نجح في الاحتفاظ بمؤسسات عامة لا تعمل، وجامعات حكومية ليس لها علاقة لا بالعلم ولا الجامعة، وصحافة حكومية لا تقرأ وتضم موظفين يعملون في كل شيء إلا الصحافة، ومؤسسات بحث علمي لا تعرف إلا اضطهاد العلماء الحقيقيين، وإخراجهم من البلاد، وبات التعامل مع أي مؤسسة حكومية عامة مرادفاً في أغلب الأحيان إلي سوء الإدارة والفشل المهني. هذا المشهد انعكاس لطريقة في إدارة البلد سبق أن سميناها بـ «المسكنات القاتلة»، ولكنها لم يكن لتستمر لولا امتلاك النظام هذه القدرة الفذة علي السكون وعدم الحركة، وربما عدم الإحساس من الأصل بحجم المشكلات التي تتعرض لها البلاد بتبلد نادر وغير مسبوق. والواقع أن النظام المتبلد يعني ـ في الواقع ـ أنه ليست له علاقة لا بالاشتراكية ولا الرأسمالية، ولا أي خيار فكري متماسك أو حساسية سياسية، إنما هو يمتلك مهارة البقاء والاستمرار، عبر تجاهل كل المشكلات الموجودة والنظر إليها باعتبارها من توافه الأمور، وهو يطيع أمريكا في كل الأمور، إلا ما يتعلق باحترام حقوق الإنسان والديمقراطية، وهو لم يغير واقعاً واحداً ورثة عن النظام السابق، لأن هذا يدخل في إطار الحركة والفعل، ولا ينسجم مع عبقرية البقاء في المكان.فهل يعقل أن تظل مصر بين ثلاث دول في العالم مع أمريكا وإسرائيل التي ليس لها علاقات مع إيران، فالنظم الخليجية المحافظة المتحالفة مع الولايات المتحدة، والمتخوفة من برنامج إيران النووي لها علاقات دبلوماسية مع الجار الإيراني، ومصر ظلت علاقتها مقطوعة مع إيران، لأن هذا ما ورثته من عصر الرئيس السادات، وبالتالي أصبح الاحتفاظ به جزءاً من ثقافة البقاء في المكان، لأن تغيره يتطلب رؤية سياسية تتجاوز النظر إلي دور مصر وعلاقتها الدولية، علي ضوء الوقائع اليومية، وليس الحسابات الاستراتيجية.البعض منا يتساءل ما الذي جعل دولة شديدة المحافظة مثل السعودية تلعب هذا الدور الإقليمي المؤثر نسبيا، في حين أن مصر لم تكتف بلعب دور المتفرج، إنما أيضا أهدرت كل أوراق قوتها الإقليمية والدولية، الفارق هو أن هناك نظاماً محافظاً يمينياً وغير ديمقراطي، وأيضاً حليف لأمريكا مثل مصر، ولكنه نظام غير متبلد لم يكتشف ـ والحمد لله ـ «عبقرية» البقاء في المكان، وبالتالي تحرك إقليميا ودوليا بصورة فعالة ولو نسبيا، اعتمد فيها علي كوادر وخبرات الدولة السعودية الناشئة، في حين نجحت مصر باقتدار في أن تحتفظ بقراء المحفوظات والكوادر معدومة الكفاءة «لتقود» البلاد لأكثر من عقدين. ما الذي يجعل بلداً مثل المغرب لدية نظام ملكي محافظ حليف للغرب يعترف بشرعية الحركات الإسلامية ويدمج معظمها في المعادلة السياسية كأحزاب سياسية، وأصبح حزب العدالة والتنمية مرشحاً لكي يحصل علي أغلبية غير مطلقة في الانتخابات التشريعية التي ستجري في شهر سبتمبر القادم، ومازلنا نحن نرفض ليس فقط حل إشكالية الإخوان حلا سياسياً، إنما أيضا نرفض الترخيص لحزب الوسط عقاباً له علي استنارته، لنرحل مشكلات الإسلاميين إلي جيل آخر، سيدفع ثمن تقاعس النظام الحالي عن حل هذه الإشكالية نتيجة تمسكه بالبقاء ساكناً في مكانه.هذا الوضع المتحرك ينسحب علي الأردن واليمن والجزائر ولو جزئيا، رغم أنها نظم غير ديمقراطية، وربما هامش الصراخ والنقد في مصر أوسع، ولكنها نظم غير متبلدة ولديها رؤية سياسية حتي لو أخطأت في الكثير أو القليل، أما تركيا ذات النظام العلماني المتطرف، فقد نجحت في أن تحل مشكلة الإسلاميين، ونجح نظامها في تحويل التيار الرئيسي مما كانت تعرف بالحركة الإسلامية، إلي تيار «علماني» متصالح مع الإسلام، ومتفاعل مع تاريخه وقيمه، وأعيد انتخابه مرة أخري ليحكم البلاد بقيادة رجب طيب أردوجان. كل هذه البلدان لا تعرف نظماً اشتراكية ولا ثورية، وهي كلها نماذج لدول حليفة للغرب والولايات المتحدة، بل إن تركيا جزء من حلف الأطلنطي ولديها علاقة بإسرائيل، ولكنها مع ذلك بنت نظاما سياسياً يتطور، ونجح في خمس سنوات أن يحسن بشكل مذهل قدراته الاقتصادية ويصدر في ٤٠ يوماً ما تصدره مصر في عام، ذلك، لأنه لم يعرف عبقرية البقاء في المكان كما عرفنا نحن. ومن هنا لا يندهش البعض من تصاعد المشكلات الاجتماعية في مصر بهذه الصورة، فنحن عرفنا في بلد النيل «ثورة العطاشي» والمياه المخلوطة بالمجاري، وتركت أنواع لا حصر لها من المشكلات تتراكم حتي تفاقمت ووصلت إلي مرحلة الخطر الحقيقي، لأن الحكم تعامل معها بالقطعة وفق قدراته المكبلة باختيار الثبات في المكان.الحقيقة أن مصر يمكن أن تظل دولة يمينية تعرف نظاماً للديمقراطية المقيدة بشرط أن يتطور إلي الإمام، فهي تحتاج إلي وجود نظام كفء، يعرف إمكاناتها ويجري داخلها عملية إصلاح سياسي واقتصادي حقيقي ومتدرج، وهذا لن يكون في ظل النظام المتبلد.

No comments: