Saturday, October 20, 2007

الانحناء لله

إبراهيم عيسى

يقول الرئيس مبارك إنه لن ينحنى لغير الله .
عظيم جداً ، فقط الأمر يختلط على عقلى المحدود .. لهذا أسأل : هل يعتقد الرئيس أنه مكلف بحكم مصر من الله تعالى فلا ينحنى إلا له ؟! أم مكلف من صناديق الانتخابات فلابد من الانحناء أمام إرادة الجماهير ؟!



إذا كان الرئيس يعتقد أن الله هو الذى اختاره ومن ثم يوجهه فهذه كارثة تؤدى بنا إلى أن مبارك يحكمنا بنظرية التفويض الإلهى ، وهو ما يبرر كذلك تمسك مبارك المذهل بحكم مصر إلى الأبد وحتى آخر نبضة فى قلبه كأنما كل ما نسمعه عن زهده فى السلطة كان هشيماً تذروه الرياح ، وكل ما يردده عن تعبه وملله ورغبته فى الراحة كان فض مجالس وحوارات !


ومع ذلك فإن أحداً لا يطالب مبارك إلا بما ألزم به نفسه على الأقل منذ أيام ( دعنا مما ألزم به نفسه فى أول عهده وتراجع عنه تماماً وبال خفقة تردد ، وبلا ذرة من أسى مثل ترك الحكم بعد ولايتين وحكاية الكفن وجيوبه ) مما ألزم به مبارك نفسه هو الانحناء لله عز وجل .



فهل الله يأمر بتعذيب المعتقلين والمساجين ؟ هل الله سبحانه وتعالى يأمر بسجن الناس بلا محاكمات عشرة وعشرين سنة ؟ هل الله عز وجل يأمر بإلقاء 22 ألف معتقل فى السجون وتعذيب المواطنين فى أقسام البوليس ومقرات مباحث أمن الدولة ؟ هل الله سبحانه وتعالى يأمر بالتنصت والتجسس على الناس ؟ هل الله الذى لا ينحنى مبارك إلا له يأمر الولاة بالإفساد فى الأرض وترك المفسدين ينهبون مال الله ومال الأمة ؟ هل الله سبحانه وتعالى يأمر حاكماً بأن يجعل شعبه فقيراً لا يجد اللقمة ولا ما يسد به جوعه ؟ هل الله سبحانه وتعالى يأمر حسنى مبارك بمحالفة اليهود ضد المسلمين ؟ هل الله عز وجل يطالبه بتأييد إسرائيل ضد حزب الله فى لبنان ويأمر بألا ينتصر مبارك للمسلمين وأصحاب الحق فى فلسطين ؟ وهل يأمر الله بالفرار يوم الزحف وعدم الوقوف والتأييد والمساندة للفلسطينيين ؟ هل يأمر الله مبارك بأن يقف على الحياد بين إسرائيل والفلسطينيين ؟ هل يأمر الله بتسميم عبيده بالماء الملوث والطعام المسرطن ؟


فى الأمم المحترمة وفى الشعوب الديمقراطية الرئيس ينحنى لإرادة الأمة وأصوات الشعب ، والرئيس المؤمن هو من ينحنى لمواطنيه كما ينحنى لله فى صلاته ويعبده ، إنما المواطنون هم أصحاب الحق على الرئيس والذى يريدونه يكون ، أما أن تكون قرارات الحاكم مرهونة بعلاقات سماوية فهذا يجعل نظام مبارك عارياً أمام الإخوان المسلمين تماماً ، فإذا كان الكلام عن تقوى الله والحاكم القوام الصوام فالإخوان المسلمون أولى وأحق بالظاهر ، فليس لنا سوى الظواهر والبواطن لله سبحانه وتعالى !




لكن ، متى كانت آخر مرة انحنى فيها الرئيس مبارك لله ؟ هل هو يوم مد قانون الطوارئ ؟ هل وهو يلقى الناس فى السجون ؟ هل حين عين ممدوح مرعى وحبيب العادلى ؟ هل وهو يعانق إيهود أولمرت ؟ هل حين مات حوالى ألفين فى حريق الصعيد وحوادث القطارات التالية ؟ أم حين غرق أكثر من ألف ومائتى مواطن فى حادث غرق العبارة ؟ أم حين هرب صاحب العبارة ؟ أم حين ماتت ضحايا الماء الملوث ؟ أم حين تم سجن أيمن نور وطلعت السادات وعصام العريان والمرحوم حسن الحيوان ؟ متى انحنى مبارك لله فى غير الركوع والسجود فى الصلاة ؟




لقد قال مبارك فى خطابه الأخير إنه لن يخضع للضغوط ، ونحن لا نفهم ما الضغوط التى يتعرض لها مبارك بالضبط ؟! ما ينور شعبه ويقول له ، هل هى مطالبة الشعب بالإصلاح السياسى ورحيل نظامه عن الحكم ؟ هل ضغوط القضاة لنيل استقلالهم والصحفيين لإلغاء سجنهم وضغوط أساتذة الجامعة لإنهاء سيطرة أمن الدولة على الجامعة ؟ أم ضغوط الصيادلة والأطباء والعمال من أجل حق العيش بكرامة وحرية ؟ هل هذه هى الضغوط المقصودة فعلاً ؟ أم أنها ضغوط من أمريكا وإسرائيل ( والحقيقة أننا لا نعرف ما الذى يفعله مبارك قد يقلق الصهاينة والأمريكان كى يضغطوا عليه ! فهو عند الصهاينة قبل الأمريكان نعم الصديق العاقل المتعاون المعتدل ) ؟



فما هى الضغوط التى يقصدها إلا دعوى الإصلاح ؟ وكيف نقنعه بأن الله تعالى يريد الإصلاح السياسى لمصر ويأمر بالعدل وتحرير الناس من عبودية الحاكم للعبودية العظمى وهى عبودية الله عز وجل ؟ كيف نقنع مبارك بهذا حتى ينحنى لله ويقبل وينفذ طالما أن إرادة الشعب والأمة لا تساوى عنده شيئاً يستحق الانحناء ؟



وإذا كان الأمر تديناً من الرئيس وخشية لله عز وجل فلماذا لم يقل لنا ويعمل كما قال وعمل الخليفة الأول أبو بكر الصديق رضى الله عنه وأرضاه - وهو أكثر تديناً من مبارك ومنا ومن حكام المسلمين جميعاً - حين قال : " يا أيها الناس ، إن كنتم ظننتم أنى أخذت خلافتكم رغبة فيها ، إو إرادة الاستئثار عليكم وعلى المسلمين فلا ، والذى نفسى بيده ، ما أخذتها رغبة فيها ، ولا استئثاراً عليكم ، ولا على أحد من المسلمين ، ولا حرصت عليها ليلة ، ولا يوماً قط ، ولا سألت الله سراً ولا علانية ، ولقد تقلدت أمراً عظيماً لا طاقة لى به إلا أن يعين الله ، ولوددت أن أعدل عنها ، هى إليكم ردة ، ولا بيعة لكم عندى ، فادفعوا لمن أحببتم فإنما أنا رجل منكم ".

لماذا لم يطلب مبارك منا ما طلبه أبو بكر الصديق الذى لم ينحن صدقاً وحقاً ويقيناً إلا لله ، فها هو ينحنى للشعب ويطلب ترك السلطة والخلافة ( استمر فى الخلافة أكثر من عامين وأقل من ثلاثة أعوام ) لم ينحن أبو بكر الصديق رضى الله عنه لغير الله ، ومع ذلك قال لمواطنى الأمة ما لم يقله مبارك ولم ينطق به أبداً ، أبو بكر هوه خير منا ومن مبارك قال : " راعونى بأبصاركم ، فإن استقمت فأعينونى ، وإن زغت فقومونى ، وإن أطعت الله فأطيعونى ، وإن عصيت الله فاعصونى " .


إن من ينحنى لله عليه أن يعى ما قاله رسول الله صلى الله عليه وسلم ففى الحديث الذى رواه أحمد بن حنبل عن عوف بن مالك أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : " إن شئتم أنبأتكم عن الإمارة وما هى ؟ " فناديت بأعلى صوتى : وما هى يا رسول الله ؟ قال : " أولها ملامة وأوسطها ندامة وآخرها خزى إلا من عدل ، وكيف يعدل مع قريبه " .

وعن عوف بن مالك أنه قال : سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : " إنى أخاف على أمتى من أعمال ثلاثة " قالوا : وما هى يا رسول الله ؟ قال : " زلة عالم ، وحكم جائر ، وهى متبع " .


ويشرح لنا العالم الفقية الشيخ محمد الغزالى فى كتابه " الإسلام والاستبداد السياسى " ( إنى لا أعرف ديناً على المستبدين سوط عذاب وأسقط اعتبارهم وأغرى الجماهير بمناوأتهم والانقضاض عليهم كالإسلام ولا أعرف مصلحاً أدب رؤساء الدول وكبح جماحهم وقمع وساوس الكبرياء والاشتهاء فى نفوسهم كما فعل نبى الإسلام صلى الله عليه وسلم ، لقد كسر القيود وحرر العبيد ووضع التعاليم التى تجعل الحاكم يتحرى العدل ، والمحكوم يكره الضيم ، أجل لقد فعل ذلك كله وليس يغض - ينتقص - من حقيقته عمق الفجوة بين الحاكم والمحكوم فى بلادنا المريضة المهيضة ، البلاد التى لا تعرف الدنيا اليوم أترف من أمرائها وأتفه من فقرائها ) .


والانحناء لله أشق من مجرد كلمة بليغة ، والانحناء لله هو لحرية عباده ومواطنى الشعب والأمة ، والانحناء لله هو عدم تولى الحكم مدى الحياة ولا الخلود على مقعد الحاكم والرئاسة حتى آخر نفس .



إن مبارك يؤكد ما هو مؤكد منذ زمن ، أنه يتعامل مع الحكم على أنه حاكم أبدى ملهم لا راد لقضائه وأنه باق كالخلود على كرسى الحكم ولا يتصور نفسه خارج كرسى الحكم متراً ولا شبراً ولا يرى أحداً حتى ولو ابنه جالساً على حكم مصر سواه ، وقد وصل إلى سن الثمانين من عمره تقريباً ، ولا يريد أن يغير المادة 77 فى الدستور التى تنص على رئيس مدى الحياة ، فهو يملك كما بدا واضحاً فى خطابه الأخير قناعة أنه يحكم للأبد .



إن كلام مبارك وتصريحاته تعبير دقيق وعميق عما أسماه المفكر العظيم جمال حمدان فى مجلده ( شخصية مصر ) بالفرعونية السياسية ، وهو ما يلخص ويشخص مأساة مصر السياسية المستمرة بلا انقطاع طوال التاريخ والمجسد الآن بلا حياء ( لقد صارت هذه الكلمة التعسة ( السيئة السمعة ) علماً على الطغيان المصرى البشع البغيض فى كل مرحلة حتى وإن اختلفت التسميات والمسميات أو تطورت الأشكال والشكليات.

فالسلاطين والمماليك فى العصور الوسطى هم كما أوشك المقريزى أن يضعها فراعنة ولكن مسلمون ، ومن هنا فلئن كانت مصر الطبيعية حديقة لا غابة فقد كانت على العكس بشرياً غابة لا حديقة ، إن كانت زراعياً مزرعة لا مرعى ، لفقد كانت سياسياً مرعى لا مزرعة للأسف .

بالتالى فكثيراً ما كانت مصر إلى حد بعيد حكومة بلا شعب سياسياً ، وشعباً بلا حكومة اقتصادياً .

وهذا ما يصل بنا فى النهاية إلى ذروة النظام فى مصر وذروة المأساة أيضاً ، لقد كانت مصر أبداً هى حاكمها ، وحاكمها هو عادة أكبر أعدائها ، وأحياناً شر أبنائها ، وهو على أية حال يتصرف على أنه " صاحب مصر " " ولى النعم " أو الوصى على الشعب القاصر الذى هو " عبيد إحساناته " والمصرى الوطنى الطيب هو وحده المصرى التابع الخاضع ، إن لم يعتقد حقاً أن المصرى لا يكون مصرياً إلا إذا كان عبداً أو كاد .

والحقيقة أن حاكم مصر طوال تاريخها الماضى إن يم يكن ينظر غالباً إلى الوطن كضيعته الخاصة وإلى الشعب كقطيع ، فقد كان على أحسن تقدير يتبنى فكرة الراعى الصالح والرعية التوابع ، أى فكرة الأبوة والأبوة العتيقة الطيبة أو القاسية بحسب الأحوال ) .


هذه الرؤية الكاشفة التى قدمها جمال حمدان وقد انتهى من كتابه عام 1984 بينما كان الجميع يسعى لتمجيد مبارك والبحث عن مبررات لمهادنته ومنافقته والجلوس تحت قوائم كرسى حكمه والدخول فى حظيرة سدنته وأبواقه ، كان جمال حمدان يعرف ويفهم وينذر ويحذر من هذه الفرعونية التى تتكون وتتشكل فى مبارك كما فى سابقيه مع اختلاف درجة الزعامة والكفاءة .

ويعود جمال حمدان فى الجزء الرابع من كتابه ليشرح لنا منظومة التحول التى جعلت مبارك يحكم ربع قرن ثم يؤكد أنه باق وقاعد وخالد على الحكم حتى آخر نفس يصدر من القلب ( نعرف جميعاً أن القلب آخر ما يتعطل فى جسد الإنسان ، وقد تتعطل قبله أعضاء أو وظائف أخرى وليس بالضرورة أن يكون الإنسان قادراً على العطاء حتى لو أنفاسه لا تزال تنبض ) .



نعود إلى جمال حمدان ومنظومته التى يحللها على هذا النحو ( وهكذا بقدر ما كانت مصر تقليدياً ومن البداية إلى النهاية شعباً غير محارب جداً أو إلى حد بعيد فى الخارج ، كانت مجتمعاً مدنياً يحكمه العسكريون كأمر عادى فى الداخل ، وبالتالى كانت وظيفة الجيش الحكم أكثر من الحرب ، ووظيفة الشعب التبعية أكثر من الحكم .

وفى ظل هذا الوضع الشاذ المقلوب كثيراً ما كان الحكم الغاصب يحل مشكلة الأخطار الخارجية والغزو بالحل السياسى وأخطار الحكم الداخلية بالحل العسكرى .

أى أنه كان يمارس الحل السياسى مع الأعداء والغزاة فى الخارج والحل العسكرى مع الشعب فى الداخل ، فكانت دولة الطغيان استسلامية أمام الغزاة ، بوليسية على الشعب المصرى ، من هذا وذاك - كيف لا ؟ - جاءت لعنة خضوع الحكم العسكرى الاغتصابى الاستسلامى للاستعمار الأجنبى على المستوى الخارجى ، ولعنة خضوع الشعب السلبى المسالم للحكم البوليسى فى الداخل ، وهى جميعاً سلسلة متناقضات ساخرة بقدر ما هى قطعة من الاستمرارية المأساوية المحزنة المخجلة ) .




ماذا ننتظر من حسنى مبارك إذن ؟

لا شئ .

لا إصلاح سياسى جذرى ، فهذا يهز عرشه .

لا تعديل دستورى حقيقى يعطى كل مواطن حق ترشيح نفسه ، فهذا يهدد بقاءه فى منصبه .

لا تقدم ولا تطور ، فاستقراره جمود واستمرار نظامه ركود !

لا محاربة للفساد ولا نهاية للاستبداد .




مبارك لن يفعل شيئاً أكثر من الحفاظ على مقعد الحكم حتى آخر نفس يتردد للرئيس ، وليس مهماً ساعتها أن يكون الوطن نفسه قد مات

No comments: