د. معتز بالله عبد الفتاح
في حوارات عابرة، لكنها مقصودة من جانبي، سألت عددا من المعارف والأصدقاء والطلاب، عن أحوالهم ونظرتهم للغد ولأي مدى سيكون أفضل مما هو عليه الآن بالنسبة لهم. وقد كانت الأغلبية تميل إلى تغليب نظرة تشاؤمية يرجعونها إلى الغلاء والبطالة والفساد سواء الإداري أو الأخلاقي، لدرجة أنني سألت صديقا يعمل في التجارة عن نسبة التجار الأمناء الذين يصادفهم فجعلها في أدني حدودها بما ينال من فكرة تبادل المنافع السليم في المجتمع. ومن هنا ثار التساؤل إذا كان الناس يميلون إلى عدم الرضا عن الوضع الراهن، فلماذا لا يجتهدون في تغيير أوضاعهم سواء رسميا بالمشاركة السياسية أو تطوعا بالتظاهر على نحو ما فعلوا في مراحل سابقة أو ما فعل أقرانهم في مجتمعات أخرى. وهذه ليست دعوة لهذه أو تلك وإنما سؤال مشروع عن ظاهرة محل اهتمام كثير من الباحثين السياسيين والاجتماعيين في مصر.
وبسؤالي هذا، كأنني في موقف مشابه، مع الفارق الواضح في السياق، لشارلوك هولمز وهو يحاول أن يفهم كيف أن القصر قد سرق ومع ذلك لم تنبح الكلاب في حين أن كل الأدلة تشير إلى أنه كان ينبغي عليها أن تنبح، فاستدل بأن سارق القصر هو أحد ساكنيه.
ويمكن رصد خمس نظريات تتكامل في تفسير ثقافة اللاحركة الجماعية التي تغلب على المجتمع المصري والتي أختبر سلامتها الميدانية في بحث أكاديمي قادم لي، إن شاء الله.
1- نظرية القدرة على التكيف بالحيلة والاعتدال السلبي: وأجد أفضل تجسيدا لهذه النظرية في كلام جمال حمدان والذي لفت نظري إليه صديقي خليل العناني في إحدى مقالته:
«إن مأساة مصر تكمن في نظرية الاعتدال، فلا هي تنهار قط، ولا هي تثور أبدا، ولا هي تموت مطلقاً، ولا هي تعيش تماماً.. وإنما هي في وجه الأزمات تظل فقط تنحدر.. تتدهور.. تطفو وتتعثر من دون مواجهة حاسمة تقطع الحياة بالموت أو الموت بالحياة.. منزلقة أثناء هذا كله من القوة إلى الضعف ومن الصحة إلى المرض ومن الكيف إلى الكم.. ومن القمة إلى القاع».
وحال مصر هي حال المصريين، فضعف مرتبات المدرسين يواجه بالدروس الخصوصية، وضعف مرتبات الموظفين، يواجه بسياسة الدرج المفتوح، وندرة الوظائف الحكومية تواجه بضمان الأب لوظيفة لإبنه. وأكثر من ذلك، فإن غلبة الطابع التكيفي على المصريين جعلهم على استعداد للتضحية بالصالح العام مقابل مصلحة ضيقة تحت وطأة الحاجة فيصوت كثير من العاملين في شركات قطاع الأعمال العام أو المؤسسات الحكومية لقيادات الشركة أو المؤسسة، وحين يدعو قادة الرأي العام جموع المصريين إلى ما قد يتناقض مع المهام الرسمية للموظفين، فإن الأولوية للوظيفة. وهو ما يفسر، جزئيا، لماذا لا يستجيب معظم المصريين لنداءات قادة المعارضة إلى وقفة شعبية أو للعصيان المدني.
وما أشبه الليلة بالبارحة، فقديما قال أجدادنا "اربط الطور مطرح ما يحب صحبه" و"مطرح ما ترسي تدق لها" ويتعامل معظم المصريين مع قضايا الوطن بمنطق "وأنا مالي" و"إردب ما هو لك، ليه تحضر كيله، تعفر في ذقنك، وتتعب في شيله." هي عقلية "تمشي جنب الحيطة" لأنه من غير الممكن أن تمشي داخلها. وهي جزء من تقاليد (مستبد... لكن) التي تبحث وتجد ألف عذر لاستبداد الحاكم. هي عقلية التماهي مع القوي ورفض الخروج عليها بمنطق "من أكل من بيت الكافر، حارب بسيفه".
2- نظرية الدولة القوية في مواجهة المجتمع الضعيف: وهي نظرية أخرى تنظر إلى الدولة باعتبارها المسيطرة على المجتمع الموجهة لسلوكه فهي دولة العصا والبقشيش التي تستخدم العصا في مواجهة من عصى وتستخدم البقشيش لمكافئة من أطاع ووفى.
وأفضل مظاهر قوة الدولة وضعف المجتمع هو في منطق دولة البقشيش التي تعيد توزيع الموارد على حسب المصالح في صورة أراضي وفيلات وشاليهات وامتيازات لكبار رجال الدولة لاسيما القابضين منهم على مهام الأمن بأسعار مقبولة ومتميزة وهي أموال كان من الأفضل حتما أن تنفق على التنمية والتحديث، فبدلا من الإنفاق السخي على "أكاديمية مبارك للأمن" فإن مصر كانت بحاجة لإنفاق أكبر على أكاديمية عملاقة للبحث العلمي تكون منارة لجذب علماء مصر في كل مكان ومجال. وهكذا تصبح أقوى منظمات مصر هي المنظمات الأمنية وليس التعليمية، والبيروقراطية وليست التطوعية، والحكومية وليست الحزبية. وعلى هذا فيجد المواطن نفسه في مواجهة مع دولة تكون في قمة أدائها البيروقراطي وهي تقوم بمهام الأمن والاستقرار ثم تتراجع كفاؤتها وهي تقوم بما وراء ذلك من مهام تنموية وتحديثية.
3- نظرية المثبطات الاجتماعية بين الدين والكرامات، وتبدو مظاهرها في ملامح ثلاثة: فهناك أولا الخطاب الديني المثبط، وأوضح من تناول هذه النظرية هو كارل ماركس في هجومه السافر على الدين باعتباره أفيون الشعوب لأنه يستخدم من قبل القائمين على شئون الدولة كأداة لتهدئة المعارضين بوعظهم بشأن جنة الخلد التي سينالها الصابرون القابضون على الجمر من باب أن الثواب على قدر المشقة. فإذا كانت فرصة الأغنياء في الدخول في ملكوت الرب أي الجنة، كما جاء في الانجيل، تقل، فإن الفقر فضيلة والرضا به والتعايش معه من تمام الإيمان. وإذا كان كلام ماركس انطبق تماما على الكنيسة الكاثوليكية حتى القرن التاسع عشر، وحتى إن انطبق على بعض المشايخ المعاصرين الذين يؤكدون على طاعة ولي الأمر ما أقام الصلاة فينا، وكأن المشكلة وحدها هي إقامة الصلاة، فإن ماركس أغفل حقيقة أن اليهودية والإسلام جاءاتا كثورة على أوضاع سياسية واجتماعية قائمة، فموسى ومحمد عليهما السلام كانا نبيين عظيمين وثائرين ناجحين. إن المشكلة حقيقة ليست في الدين بذاته ولكن كيف يوظف، فلو أن الإسلام الذي نمارسه الآن كان هو ما طرحه الرسول محمد على قريش لما رفضته، لأن أغلب الخطاب الإسلامي المعاصر مثبط محبط (بفتح الباء وكسرها). فأنا أوافق تماما على أن الآخرة خير وأبقى ولكننا مطالبون أن نكون أسيادا للكون عبيدا لله وهذا من صحيح الإيمان، وأنا أقبل أن التفاوت في الرزق من آيات الله (أهم يقسمون رحمة ربك) لكن هذا شيء وعدم الرقابة المحكمة على المال العام شيء آخر، والخلط بينهما كالخلط بين صحيح الدين والشعوذة.
ويرتبط بالدين أمر ثان ارتدى عباءة الدين وإن كان ليس منه وهو الاعتقاد في الكرامات التي تتعطل بها قوانين الطبيعه فنمقت العقل ونجري وراء المشاعر والاتكالية فنحن لم نزل نعيش في عالم السحر لا العلم كما يقول د.زكى نجيب محمود. إن المسلمين بصفة عامة في مأزق، إنهم يريدون الجهاد من دون أن يعدوا له ما استطاعوا، ويريدون تصحيح صورتهم عند غير المسلمين من دون ان يجتهدوا بالقدر الكافي لتصحيح واقعهم، ويريدون أن يولوا أمورهم خيارهم من دون أن يتحملوا أكثر من مشقة الدعاء، انهم «أرادوا الخروج» من دون أن «يعدوا له عدته» فألقوا بأنفسهم في مفارقة الأمل في سنن الله الخارقة من دون العمل من اجل سنن الله الجارية. ان الرسول الكريم أعد عدة الهجرة من طعام وشراب ودابة ورفيق ودليل (وإن كان كافرا) أخذا بسنن الله الجارية، ثم جاء احتياجه لسنن الله الخارقة حين قال صاحبه: «لو نظر أحدهم تحت قدميه لرآنا»، فتدخل الله بسننه الخارقة بأن أوحى لعبده ألا يحزن فإن الله معه. وكأنه يكرر مقولة موسى عليه السلام يوم أخذ بسنن الله الجارية بأن أسري بعباد الله ليلا لأنهم متبعون، وحين احتاج المؤمنون مع موسى لسنن الله الخارقة كان الله عونا لهم فقال موسى «إن معي ربي سيهدين».
وهناك ثالثا المقارنة المثبطة والتي تجعل الكثير من المصريين يقارنون مصر بمن هم دونها وليس من ينبغي أن نتطلع لأن نكون مثلهم، فكثير من المصريين يرفع شعار "إحنا أحسن من غيرنا" ويقصدون بذلك دولا أخرى محيطة تعاني من قهر أكبر أو عدم استقرار أو احتلال أجنبي. وهذه المقارنة المثبطة تجعلنا قانعين بقسمة الله وما هي بقسمته وإنما هي نتاج تكاسلنا وجهلنا، ولتسامحوني على صراحتي المفرطة، وكأن الله كتب على الشعوب العربية أن تتبارى في القبح والتسلط والفساد.
4- نظرية شرعية القيادة وتحلل الدولة والتي تؤكد على أن الرئيس مبارك نجح فيما لم ينجح فيه سابقاه وهو عدم ربط اسمه بفضائح مثل نكسة 1967 أو قرارات تتحدى الرأي العام مثل السفر إلى القدس لمخاطبة الكنيست أو حبس الصحفيين والمثقفين من كل الجهات أو حتى سوء إدارة يرتبط به مباشرة، فالقرارات الكبرى، حتى وإن تمت تحت رعايته وتوجيهاته، لكنها في النهاية تنسب إلى مجلس الوزراء. كما أن مصر في عهد الرئيس مبارك لم تعرف نمط المسؤول السابق الذي يمكن له أن يكشف عن الخفايا والأسرار، فرئيس الوزراء السابق عادة ما يحصل على منصب سواء في مجلس الشورى أو في إحدى مؤسسات الدولة بما يضمن ولاءه، والوزير السابق عادة ما يحصل على نيشان أو يظل يحتفظ بامتيازات الوزير حتى في مرحلة ما بعد الوزراة. وعلى هذا يظل صندوق الحكم غامضا، وحتى إن وجد خلل، فهو لا ينسب إلى رئيس الجمهورية أو لنظام الحكم وإنما لرئيس الوزراء ومن هم دونه. وبالتالي يكون الحل في حالة وجود مظالم هو مناشدة مؤسسة الرئاسة وليس الخروج عليها. فتتحلل مصر كما يرى البشري وتتفكك الدولة كما يقول الشوبكي ومع ذلك تظل شعبية الرئيس في غير محل شك.
5- نظرية صعوبة العمل الجماعي ومنطق العائد بلا مجهود: هذه مشكلة شائعة في كل الدول غير الديمقراطية حيث لمقاومة التسلط ثمن قد يكون باهظا. وأفضل تجسيد لهذه المشكلة هو الإجابة على سؤال: من الذي يتبرع بتعليق الجرس في رقبة القط؟ ومن الذي يبدأ الثورة؟ وما الذي يضمن له أن يشارك معه آخرون؟ وما الذي يضمن أنه لن يتحمل وحده عواقب التمرد في حين يحصل آخرون على عائد بلا مجهود؟ وهذا هو جوهر نظرية العمل المؤسسي التطوعي سواء في شكل أحزاب أو حركة مثل كفاية بأن تحل مشكلة "من يبدأ" ولكن المعضلة في أن من يبدأ لا بد أن يتحلى بخصائص تجعله ليس فقط "ثائرا" ناجحا وإنما أيضا "بديلا" مقنعا. وهو ما يبدو أن أيا من القيادات الشعبية والحزبية الحالية لم تنجح في تقديمه. وينسب إلى صدام حسين أنه قال إنه كان المثقف الشجاع الوحيد لذا هو الذي فاز بحكم العراق لأن بقية العراقيين كانوا إما مثقفين جبناء أو شجعان جهلاء، أما هو فقد جمع بين ما كان نادرا عند أقرانه.
إذا وضعنا النظريات الخمس السابقة جنبا إلى جنب فإننا يمكن أن نفهم ولو جزئيا، لماذا نشتكي ولا نتحرك، لماذا نبكي ولا نشارك ولماذا نتشاءم دون أن نجتهد. وفي النهاية، أنقل إلى كل مصري رسالة أفلاطونية بالغة الدلالة وهي: "إن من يعزف عن المشاركة في الحياة السياسية، فإنه سيعاقب بأن يحكم بمن هم دونه ومن لا يراعون مصالحه." أرجو أن تعيد قراءة الجملة الأخيرة، عزيزي القاريء.
Tuesday, October 23, 2007
Subscribe to:
Post Comments (Atom)
No comments:
Post a Comment