
ســباق التعلــيم العـــالمي...!
بقلم : د. عبد المنعم سعيد
كانت الصدفة وحدها هي التي جمعت بين دعوتي إلي اجتماع لجنة التعليم في مجلس الشوري وصدور عدد مجلة' النيوزوويك' الأمريكية عن التعليم الكوني أو العالمي, وقراءتي لهذا العدد في صباح نفس اليوم. ومن ناحية كانت الدعوة مفاجأة لي فقد التحقت بلجنة' الشئون العربية والأمن القومي' في المجلس, ولم أعرف عن نفسي تخصصا يذكر في الموضوع;
ومن ناحية أخري كان العنوان المكتوب علي غلاف المجلة هو: ويستمر السباق: المنافسة بين جامعات القمة أكثر قسوة من أي وقت مضي, وربما كان الغرب يخسر قيادته. وكنت قد كتبت مؤخرا في أكثر من صحيفة مجموعة من الانطباعات المتسمة بخيبة الأمل والحسرة حول نظام امتحانات الثانوية العامة ونتائجها مستمدة من مشاهدات لي في عدد من الجامعات الكبري في العالم, وجاءت المجلة لكي تضاعف من حالتي الحزينة حيث كانت الصورة علي غلاف المجلة لطالب وطالبة من جامعة' الإدارة' في سنغافورة التي أصبحت واحدة من جامعات القمة علي المستوي العالمي. ولم يكن الأمر يحتاج إلي تفكير كثير, فقد كانت سنغافورة_ وهي التي لا يزيد عدد سكانها كثيرا علي ثلاثة ملايين نسمة ومساحتها640 كيلومترا مربعا- سابقة لنا في مجالات كثيرة أو في كل المجالات التي يمكن التفكير فيها تقريبا, وكان منطقيا أن تكون سابقة في مجال التعليم أيضا حتي ولو كان عدد المصريين76 مليونا ويعيشون علي مساحة قدرها مليون كيلومتر مربع منها2500 كيلو متر كاملة علي شاطيء البحر.
ولكن قضية المجلة لم تكن لا سنغافورة ولا غيرها حتي ولو شغلت مع الهند والصين واليابان جزءا غير قليل من التحقيق المنشور في المجلة, ولكن القضية كانت كيف أن الجامعات الغربية الكبري_ أوكسفورد وهارفارد- بدأت تفقد بعضا من قيادتها لدرجات التعليم الراقية لعدد من المنافسين الآسيويين الجدد; والإجراءات التي تقوم بها هذه الجامعات للحفاظ علي مكانتها القيادية. فما حدث هو أن الجامعات الآسيوية بدأت أولا في اجتذاب أفضل الأساتذة الغربيين بمرتبات وتسهيلات هائلة مع مناخ تعليمي خلاق; وثانيا من خلال جذب أرقي الجامعات الغربية للوجود داخلها فأصبح لجامعات هارفارد وكورنيل ومعهد ماساشوستس للتكنولوجيا فروع جامعية في سنغافورة وغيرها من الدول الآسيوية; وثالثها هو أن هذه الدول بدأت تختصر الطريق وتقوم بالتدريس باللغة الإنجليزية التي أصبحت لغة العلم في العالم مثلما هي لغة الطيران والبنوك والشركات المتعددة الجنسية. وفي مواجهة ذلك فإن الجامعات الغربية الشهيرة قبلت تحدي العولمة ومن ثم أخذت في مزيد من الجذب ليس فقط لأفضل العقول الآسيوية خاصة من الهند والصين, وإنما أيضا اجتذاب أفضل الطلاب, مع تسويق أفضل لجذب طلاب العالم إلي الول
ايات المتحدة. وفي العام الماضي وحده أنفق هؤلاء الطلاب14 مليار دولار في أمريكا أو ما يزيد علي ضعف كل الاستثمارات الأجنبية التي وصلت مصر في العام الماضي.
وبينما كان كل ذلك حادثا في العالم انعقدت لجنة التعليم في مجلس الشوري وحضرتها بدعوة كريمة من رئيس اللجنة الدكتور فاروق إسماعيل وكان الموضوع هو ما تعلق بامتحانات الثانوية العامة ونتائجها وسياسات القبول في الجامعات المصرية. وجاء العرض الذي قدمه الوزيران القديران يسري الجمل وهاني هلال ينم عن جهد هائل مبذول لتطوير منظومة التعليم المصرية التي تراكمت مشاكلها خلال العقود الماضية. ومع العرض, وبعد المناقشة التي جرت لها في اللجنة بدا لي أن الأسس التي يقوم عليها التعليم في مصر تحتاج الي مراجعة علي ضوء ما يجري في مصر, وما يجري في العالم خاصة وقد جعلت التعليم في مصر نوعا من الأبقار المقدسة التي لا يمكن المساس بها, تماما مثل نسبة العمال والفلاحين في المجالس النيابية المنتخبة.
فمن ناحية فإن نظام التعليم في مصر قام منذ الخمسينيات والستينيات علي دولة محدودة السكان- حوالي30 مليون نسمة- ومحدودة الانتشار الديموجرافي حيث يقبع المصريون في حضن وادي النيل, والتنوع الإنتاجي حيث كانت الزراعة غالبة علي الأنشطة الإنتاجية. والآن تغير الحال في مصر, فلم يصبح عدد سكانها76 مليونا فقط بل أصبح هؤلاء يعيش بعض منهم علي الشواطيء في البحرين الأحمر والأبيض وسيناء, بل أن منهم أربعة ملايين يعيشون خارج البلاد كلية, وجميعهم يعملون ليس فقط في الإنتاج الزراعي بل أضيف له الإنتاج الصناعي والخدمات, وتشير المؤشرات إلي أن المجالين الأخيرين أصبحا لهما السبق في تشكيل الناتج المحلي الإجمالي. هذا التنوع الشديد في البيئة السكانية, وفي نوعية العمل, يفرض تعليما متنوعا هو الآخر, وتصبح الطبعة التعليمية الواحدة التي نفرضها علي كل الطلاب في مصر المحروسة مفارقة للواقع وما يجري فيه. ولا يقل عن ذلك أهمية أن امتحانا قوميا لعشرات الألوف من الطلبة وتوزيعهم بعد ذلك علي الجامعات القومية الحكومية سوف يختلف تماما عندما نصل إلي مئات الألوف بل الملايين من الطلاب عندما يصل عدد السكان إلي100 مليون في القريب ال
عاجل.
ومن ناحية أخري إن النظام التعليمي المصري قام علي دولة تهيمن من جانب علي التعليم, ومن جانب آخر تتحكم تماما في السوق باعتبارها أكبر من ينتج ومن يستهلك ومن يوظف العمالة أيضا. مثل هذا الحال في طريقه إلي التغيير نحو اقتصاد السوق حيث يشحب دور الحكومة تدريجيا ويرتفع دور القطاع الخاص سواء كان ذلك نتيجة العولمة أو ضغوط المؤسسات الدولية أو السياسات المعلنة للحكومة أو الضرورات الاقتصادية لفشل الدولة في إدارة أصول المجتمع. بمعني آخر أن الدولة التي كانت ممسكة بجانبي العرض والطلب في سوق العمل, سوف تفقد هذه المكانة تدريجيا, وبقي في يدها عرض متوسع بسبب الزيادة السكانية علي الأقل, أما الطلب فقد فقدته لصالح القطاع الخاص الذي يجد مشكلة كبري في التعامل مع عرض لم يشارك في صنعه, وفي كثير من الأحوال لا يناسبه علي الإطلاق. ولعل ذلك يفسر حالة العمل في مصر الآن حيث توجد البطالة علي نطاق واسع في الوقت الذي تعاني فيه مؤسسات اقتصادية متعددة من نقص العمالة الكفء التي تستطيع التعامل مع مستوياتها المهنية والتكنولوجية العالية والتي تختلف تماما عما هو متاح في الحكومة والقطاع العام اللذين أعد لهما الطالب المصري حيث يكون العمل ع
ند مستويات دنيا من المهنية والكفاءة بل قد يصل الأمر أحيانا إلي عدم العمل علي الإطلاق أو ما هو معروف بالبطالة المقنعة.
ومن ناحية ثالثة فإن النظام التعليمي المصري كله قام علي توفير العمالة المتعلمة للسوق المحلية المصرية, ولكن الواقع الحالي والمستقبلي يقول بغير ذلك تماما حيث تتجه البلاد المصممة علي التقدم والرقي والرفعة والنهضة نحو السوق العالمية الواسعة ليس فقط بمنتجاتها بل أيضا بقواها البشرية. مثل ذلك يعني أن تعليما يقوم علي إنتاج طلبة متشابهين ولديهم قدرات تنافسية محدودة لن يكون قادرا علي المنافسة العالمية التي اشرنا لها في تحقيق' النيوزويك' بين الدول النامية والدول المتقدمة. ولا يحل هذه المشكلة تلك النسبة العالية من الطلبة في نهاية المرحلة الثانوية التي تحصل علي100% فأكثر, ولا أن54% من طلبة الثانوية العامة يحصلون علي أكثر من80%, فأيا من هؤلاء لا يستطيع المنافسة أو الحصول علي هذه الدرجات في اختبارات أكثر جدية, بل إن كثيرا منهم لو تعرض لبعض الامتحانات التي تتم في مصر للشهادات الإنجليزية والأمريكية والألمانية المماثلة لما نجح علي الإطلاق. فالمسألة ببساطة لم تعد نجاح الطالب من عدمه, أو النسبة التي يحصل عليها في الاختبارات المصرية, وإنما تلك الطاقة من المعرفة والتفكير العلمي والمهارة الشخصية والعملية ال
تي يتملكها; تماما مثل العامل الذي لا يهم الشهادة التي يحصل عليها بقدر إنتاجيته التي يمكن قياسها علميا من خلال ما ينتجه في الساعة ويكون قادرا علي المنافسة العالمية.
ومن ناحية رابعة أن نظامنا التعليمي يقوم علي نظرة شكلية لمفهومي المساواة والعدالة حينما يصطف جميع الطلاب صفا واحدا في امتحان واحد للثانوية العامة يتحدد بعدها موقعه من الكلية التي يرغب في الالتحاق بها استنادا إلي أساس واحد وهو المجموع الذي حصل عليه. مثل هذا النظام يكفل منع الظلم حيث يحصل جميع الطلاب علي فرص متساوية, ولكن النظام لا يقيم العدل حيث أن هؤلاء الطلاب يختلفون من حيث القدرات, وغير متساويين من حيث المهارة, والبيئة التي يعيشون فيها, وحتي الدروس الخصوصية التي يحصلون عليها, وبالتأكيد فإنه لا يلبي احتياجات الطلاب ولا احتياجات المجتمع. فمنع الظلم لا يعني بالضرورة إقامة العدل إلا بمعني أن المساواة في الظلم عدل حينما يضار الجميع في النهاية بطريقة متساوية.
هل توجد حلول للتعامل مع هذه المعضلات; والإجابة بالتأكيد نعم, فنظامنا هذا كان سائدا في كل الدول المتخلفة من قبل, وكان شاهدا علي العدالة فيها والتي قامت علي التوزيع المتساوي للفقر والجهل بين السكان. ولكن هذه الدول عندما قررت الخروج من دائرة التخلف إلي عالم التقدم, وتجاوز العدل القائم علي الظلم المتساوي إلي نوعيات أرقي من العدالة, فإنها بحثت عن طرق أخري; فتعالوا نبحث عنها؟!.
No comments:
Post a Comment