Monday, October 22, 2007

كذابون رغماً عن أنوفنا

فيصل القاسم

يقول عبد الرحمن الكواكبي في تشريحه الرائع للطغيان " إن الاستبداد يُضطر الناس إلى إباحة الكذب والتحايل والخداع والنفاق". هل من العجب إذن أن العرب هم من أكذب شعوب الأرض وأكثرهم تدليسا؟ ألم تصبح الحقيقة سلعة نادرة في مجتمعاتنا، وكل من يتفوه بها مصيره السجون؟ لماذا غدا مطلوبا منا أن نكذب ونخفي مشاعرنا الحقيقية على الدوام؟ لقد غدا بإمكانك أن تعرف متى يكذب الإنسان العربي، إنه يكذب عندما يتكلم ، أي أنه يكذب في أغلب الأحيان. ألم يصبح الكذب بالنسبة لنا الطريقة الأمثل لتوخي السلامة ؟ الحاكم العربي يكذب على شعبه ليل نهار، والشعب يكذب عليه بالمثل. لقد حاولت كثيرا أن أجد ترجمة أو مرادفا دقيقا لكلمة مجاملة في اللغة الإنكليزية، فلم أجد . كما أنني لم أجد أي مرادف لكلمة عتاب ، فهذه الكلمة وغيرها من مفردات الكذب والنفاق ليست موجودة إلا في قواميسنا العربية على ما يبدو. فالأوروبيون لا يعاتبون بعضهم البعض، بل مستعدون لفضح الحقيقة دون لف أو دوران. فإذا كان لديهم مشكلة مع إنسان ما فهم يواجهونه مباشرة دون مقدمات وتزلفات وعبارات إنشائية توددية بائسة ، أما نحن العرب فبدلا من أن نجهر بالحقيقة إذا أردنا أن نبين خطأ ما ترانا نلف وندور حوله بطريقة قميئة، ليس لأننا لا نريد أن نجرح مشاعر الطرف الآخر، بل لأننا تعودنا أن نداري على أخطائنا وعيوبنا، واستمرأنا الكذب.




كل شيء في ثقافتنا العربية أصبح مبنيا على النفاق والدجل، فإذا فسدت الحياة السياسية فلا بد أن يفسد كل شيء معها. يقول كارل ماركس في مؤلفه الشهير رأس المال إن الاقتصاد يُعتبر البناء التحتي لأي مجتمع ، أما البناء الفوقي فهو تلك الثقافة التي يفرزها البناء التحتي، بما في ذلك طبعا النظام السياسي والعلاقات الاجتماعية والثقافة السائدة . وإذا أردنا أن نطبق نظرية ماركس هذه بطريقة أخرى سنجد أن السياسة هي بمثابة البناء التحتي عندنا نحن العرب، وكل ما تفرزه من واقع اجتماعي وثقافي فهو بمثابة البناء الفوقي. وإذا كان الأساس التحتي فاسدا فلا عجب أبدا أن يكون الفوقي نسخة طبق الأصل . بعبارة أخرى، فإن السياسة لدينا هي أصل الداء والبلاء ، أما أمراضنا الثقافية والاجتماعية فهي مجرد أعراض لذلك الداء.



صحيح أن السياسة لعبة قذرة بلا أخلاق ومبادئ في الكثير من الأحيان، حسبما صورها ماكيافيلي في كتابه الشهير (الأمير)، لكنها تهذبت كثيرا في عصور الديموقراطية اللاحقة، وأصبحت تتمتع بقدر من الأخلاق والشفافية، على الأقل فيما يخص تنظيم العلاقات الداخلية بين الحاكم والمحكوم. فالأوروبيون ، على عكسنا ، لا يدفنون أوساخهم تحت البساط، ويدارون عليها، ويكذبون بشأنها ، بل يكشفون عنها، ويفضحونها على الملأ . إنهم يمارسون الشفافية في أنصع صورها، ولا يترددون أن يسموا الأشياء بمسمياتها، حتى وإن كانت تلك الأسماء قبيحة للغاية . بعبارة أخرى فهم مستعدون أن يقولوا للأعور إنه أعور بعينه. ويشجعهم على ذلك نظام سياسي شفاف لا يقوم على الكذب والتدجيل والنفاق. فكلنا يعرف أن الناخب الغربي يدخل غرفة الاقتراع ويدلي بصوته بكل حرية لصالح المرشح أو الحزب الذي يريد دون أن تراقبه الكلاب البوليسية، أي مشرفو التزييف الذين يحمون ما يُسمى بصناديق الاقتراع في الانتخابات العربية. فهو حر الاختيار، وبالتالي فهو صادق. فهناك تناسب طردي بين الحرية والصدق ، فكلما كان الإنسان حرا ابتعد عن الكذب والنفاق والرياء. فكيف يلجأ إلى الكذب إذا كان يستطيع أن يعبر عن آرائه بحرية تامة دون أن يخشى على مستقبله ومستقبل الذي خلفوه وخلفهم؟ فإذا كانت السياسة تُدار بقدر كبير من الشفافية والمباشرة فلا عجب إذن أن يتقلص معدل الكذب والرياء الاجتماعي في أوروبا، وأن تزداد نسبة المكاشفة والشفافية.



لو زرت بلدا أوروبيا ذات يوم وشاهدت تلفزيوناتهم أو استمعت لإذاعاتهم وقرأت صحفهم فستأخذ الانطباع أن كل شيء لديهم خربان أو معطل، وأن هناك مشاكل في معظم مناحي حياتهم، مع العلم أن كل مصالحهم تسير بدقة ساعة روليكس، لكن وسائل إعلامهم تقف بالمرصاد لأي خطأ بسيط، فتكبره، وتضخمه كي يسمع به الجميع، ومن ثم يتلافوه، أو يحلوه. إنهم لا يكذبون إلا ما ندر. أما إذا حدث وزرت بلدا عربيا، وشاهدت التلفزيون المحلي فستأخذ الانطباع أنك في جنة عدن ، فليس هناك أي حديث عن أخطاء ومشاكل، بل هناك خطب مطولة عن "الإنجازات العظيمة" التي تحققت للمواطنين على أيدي القائد الملهم . وسائل إعلامنا تكذب ليل نهار، وهي موجودة فقط للتستر على الأخطاء، وليس فضحها ، أي أن مهمتها الكذب ثم الكذب. إن الدولة العربية، كما تصورها وسائل الإعلام الرسمية، تسير بدقة متناهية، مع العلم أن كل شيء فيها معطل ومهترىء في واقع الأمر.



لكن وسائل الإعلام ليست الكاذب الوحيد، فالكل يكذب في الدولة العربية، الحاكم والمحكومون وحتى المدرسون، إلى حد أن بعضهم مستعد للتلاعب بالحقائق العلمية أمام الطلاب كي يحمي رقبته ويحصل على قوت أولاده. يُحكى أن تلميذا سأل المعلم في إحدى مدارسنا العربية العتيدة : هل تطير السيارة يا أستاذ ، فأجابه الأستاذ: بالطبع لا يا بني ، فقال له التلميذ لكنني سمعت فخامة زعيم الدولة يقول إن السيارة تطير ، فما كان من المعلم المسكين إلا أن قال له:" فعلا السيارة تطير لكن على ارتفاع منخفض" . ولو تجرأ الأستاذ وعارض رأي الزعيم في إمكانية طيران السيارات لفقد وظيفته، أو ربما أو تعرض لمكروه عظيم. وفي حادثة أخرى يُحكى أن طفلا قال لأبيه في مكان عام وهو ينظر إلى صورة الزعيم المعلقة على أحد الجدران : أليس هذا هو الشخص الذي تبصق عليه عندما تشاهده على شاشة التلفزيون ، فشعر الأب بحرج هائل، ولم يجد أمامه سوى التبرؤ من ابنه أمام الناس، فصاح قائلا : هل يعرف أحدكم ابن من هذا الغلام؟ لقد غدا العرب مضطرين وللأسف الشديد للكذب في أبسط الأمور وأسخفها، وأمسوا مستعدين للي أعناق كل الحقائق. كيف نكون صادقين ونحن لا نمارس الشفافية في أي شيء؟



لقد عملت الأنظمة العربية على مدى الخمسين عاما الماضية على تشجيع ثقافة الكذب والتدليس والنفاق، بحيث اصبح يتعذر على الإنسان أن يبوح بعواطفه الحقيقية. كيف لا نكذب وقد أصبح الكذب جزءا أصيلا من الثقافة العربية في عهد الديكتاتورية والاستبداد ؟ فكلنا يعرف أن الإنسان العربي المسكين مضطر أن يقول عكس ما يضمره . فلا تصدقه دائما ، فهو في الكثير من الأحيان يجانب الحقيقة تجنبا للقمع وإيثارا للسلامة ، وإذا أردت أن تعرف الحقيقة منه فعليك أن تقلب كلامه رأسا على عقب أحيانا ، فإذ قال لك مثلا إنه مستعد للتضحية بدمه من أجل الوطن فاعرف عندئذ أنه ليس مستعدا للتضحية بقرش واحد من أجل الوطن، وإذا قال لك إنه يموت في حب الحاكم ، فاعلم أنه يفضل إبليس اللعين عليه . وإذا رأيته يضع صورة الزعيم في صدر منزله فهو يفعل ذلك خوفا من بطشه فقط، وليس حبا وهياما بفخامته أو سيادته أو جلالته. وكم شاهدت أناسا يبصقون على صور بعض القادة عندما يأمنون أن لا أحد يراهم .

لقد أصبح مفروضا على الإنسان العربي أن يحلف باسم الزعيم، حتى وإن كان في نظره شيطانا رجيما. كيف لا نكذب ونحن ممنوعون من الحديث حتى عن أسعار الفجل والخس والفاصوليا الخضراء إلا بإذن من السلطات؟ وبما أن المواطن العربي لا يستطيع التعبير عن رأيه الحقيقي فلا بد أن يكذب، وينافق، ويرتدي قناعا يخفي مشاعره الحقيقية .ألم يقل فرعون لا أريكم إلا ما أرى ، أي أن المواطن يجب أن يرى الأشياء بمنظار الزعيم الفرعون فقط . وطالما أننا محرومون من حرية التعبير فسنظل نكذب ونكذب إلى يوم الدين.



لقد أصبح العربي النموذجي يخاف من اقرب المقربين إليه حتى من اخوته وذويه خشية أن يبلغوا عنه الأجهزة السرطانية، فيصبح في خبر كان . لهذا فهو مضطر أن يداري . فكما هو معروف ، فقد تمكنت الدولة العربية التسلطية من جعل الكل يتجسس على الكل على طريقة سكان "مزرعة الحيوانات" لجورج أورويل. وبالتالي لا يجد الإنسان أمامه إلا أن يراغم مشاعره، ويبوح بعكسها. فعندما يذهب "الناخب العربي" إلى مراكز الاقتراع مثلا كي يدلي بصوته في الانتخابات العربية المفبركة من رأسها حتى أخمص قدميها، يكذب ويتظاهر بالسعادة والفرحة الغامرة، لأنه شارك، وقال نعم للمرشح الأوحد. فهو مضطر للمزايدة والمبالغة في تبجيل الزعيم وتمجيده حتى لو كان يكره الأرض التي يمشي عليها .



لا مكان للشفافية في حياتنا السياسية. كيف لا نكذب ومعظم قادتنا العرب من المحيط إلى الخليج جاءوا إلى السلطة إما بانتخابات مزيفة، أو ببيعات كاذبة لا تنطلي على أحد، فما زلنا نختار الحاكم العربي بالبيعة خلف أبواب موصدة لا يعرف ما يجري خلفها حتى الذباب الأزرق . والبيعة تعني بالضبط أن يبيع الإنسان نفسه للحاكم حتى يأخذ الله روحه. لكن الحاكم العربي يعرف تمام المعرفة في أعماق أعماقه أن الشعب ينافقه لا أكثر ولا أقل كي يحمي رقبته ويؤمن لقمة عيشه.



وبما أن الإنسان العربي تربى على الكذب بفضل العديد من حكامنا الأفاقين، فإنه أصبح كذابا محترفا ومنافقا من الطراز الأول، ينافق "لليّ يسوى وما يسواش"، فهو يساير أدنى موظفي الدولة رتبة وأقلهم شأنا ويتزلف للموظفين الصغار التافهين الذين لا يساوون كعب حذاء مهترء. لماذا؟ طبعا كي يحصل على حقوقه الطبيعية. فكما هو معروف للجميع ، فقد عودنا النظام العربي على أن نشكره، ونسبح بحمده لمجرد أنه أوصل لنا الماء إلى المنازل وأنار علينا عتمتنا الدامسة. وبالتالي فمكتوب علينا أن نتودد إلى الموظف، ومنافقته، وإطراءه كي يتفضل علينا بتوقيع صغير، لأن الموظف يعتقد انه، كزعيمه، يقدم خدمة شخصية للمواطن، وليس موجودا في وظيفته كي يؤدي واجبه . فقد علمتنا الحكومات العربية أنها تتحسن علينا في كل شيء تقدمه لنا . فلا يبني لنا الحاكم مدرسة إلا ويمننا بها، كما لو انه دفع نفقاتها من جيبه الخاص ، فهو يعتبر المال العام ملكه الشخصي، وهو حر التصرف به . وبالتالي فهو يبتزنا حتى في مأكلنا ومشربنا ، وكل مواطن لا ينصاع انصياعا تاما لأهوائه فهو معرض لعقوبات خطيرة ليس أقلها أن يحاربوه بلقمة عيشه وقوت صغاره ومائه وكهربائه. لهذا فهو يكذب ويكذب ويتزلف إلى أسفل السافلين كي يبقى على قيد الحياة.



إنها دائرة متكاملة ، فالفرعون الأصغر هو صورة طبق الأصل عن الفرعون الأكبر في " الدولة العربية الحديثة" يستمتع لا بل يتلذذ بمنظر الناس وهم واقفون أمامه يكيلون له المديح والتبجيل وما لذ وطاب من النفاق والرياء، علما بأن هذا الموظف الرخيص يعرف في أعماق أعماقه أنه أتفه من قملة جرباء، ولا يساوي ظفر قط ميت، لولا أن الدولة سلطته على رقاب البلاد والعباد.



يبدو أن الأنظمة العربية ووسائل إعلامها معجبة كثيرا بهتلر ووزير إعلامه المعروف جوزيف غوبلز ، لهذا استعارت منه شعاره الشهير: " اكذبوا ثم اكذبوا ثم اكذبوا ، فلا بد أن يعلق شيء في أذهان الجماهير، أو أن يصدق الناس كذبة واحدة" . لكن المشكلة أنهم لم يكذبوا فقط بل علمونا أن نكذب معهم ليل نهار، إلى حد أننا أصبحنا نتنفس كذبا، رغما عن أنوفنا، مع الاعتذار لشقيقي المطرب مجد القاسم وأغنيته الشهيرة " إني أتنفس عشقا".

No comments: