نحن بحاجة لرئيس وزراء آخر
د. معتز بالله عبد الفتاح
كلية الاقتصاد، جامعة القاهرة
الوفد، 21 أغسطس 2007
أعتذر عن عدم الكتابة لمدة أسبوعين، فقد كنت في حالة ارتحال واستقر بي المقام في الولايات المتحدة لمدة قد تطول أو تقصر. المهم نعود إلى ما كنا بصدده. فقد كان المقال الأخير عن موضوع المصري الذي وصفه المقال بأنه فيض فرقته الأهواء وقد أخذنا التحليل إلى افتراض أن المصري يكون في أحسن أحواله حين تجتمع له إدارة تجمع بين صفتي القيادة والمؤسسية. وهو ما لا يختلف فيه المصري عن غيره من بني البشر مع تسليمي بأن المصري مبدع في ابتكاره لآليات التعايش مع الفساد إن حكمه فاسد ومع الحزم إن حكمه من يملك الشكيمة والرؤية. فهو فيض لا ريب، لكنه بلا بوصلة تنتظمه بحق. وقبل أن أكتب عن القيادة والمؤسسية أوضح ابتداء بعض الأمور التي سؤلت بشأنها في عدد من الرسائل الالكترونية والمكالمات التليفونية من أساتذة أفاضل أشرف بأن أتلقى منهم كلمات التشجيع أحيانا، والنقد والتوجيه في أحيان أخرى.
وأؤكد أن الوصف السابق عن المصري باعتباره فيضا ينطبق على معظم مجتمعات العالم متى توفرت لها صفات متعددة على رأسها وجود حكومة قوية على رأسها قيادة واعية وتحكمها قوانين يلتزم بها الجميع، وهو ما أتشكك كثيرا في وجوده في مصر في هذه الحقبة من تاريخنا. بل على العكس، فأنا أعتقد أن مصر تعيش في حالة "حكومة تسيير أعمال" منذ حوالي ربع قرن انتظارا لأن تأتي قيادة حقيقية قادرة على أن تنقل الإدارة الحكومية ومؤسسات المجتمع نقلة جادة نحو أفق أفضل.
وهذا لن يحدث إلا ببناء الإنسان المصري جنبا إلى جنب مع بناء البنية التحتية. وعلى هذا فنحن بحاجة لرئيس وزراء آخر، ليس بدلا من ولكن، يضاف لرئيس الوزراء الحالي. فليستمر الدكتور نظيف في رئاسة وزراء البنية التحتية ولنعين رئيس وزراء آخر للتنمية الإنسانية. ومصدر كلامي هذا هو ما قرأته عن حوار السيد رئيس الوزراء في التليفزيون المصري الذي هو امتداد مباشر لحديث الرئيس مبارك في خطاباته المختلفة عن زيادة عدد التليفونات وتحسن أحوال الصرف الصحي، واطراد أعداد الكباري والأنفاق، و عن الانجازات في مجال البنية التحتية وأنه عنده 70 مليون مصري مطلوب منه إنه "يأكلهم كل يوم".
إنها معضلة من الواضح أن السيد رئيس الوزراء لم يدركها في حواره على شاشة التليفزيون المصري والذي انتقد فيه بعض سلوكيات الإنسان المصري مثل إسرافه في استخدام المياه في غسيل العربيات والرش أمام البيوت أو في الإنجاب بمعدلات عالية. وواضح أنه إذا كان هذا هو الفهم السائد عند السيد رئيس الوزراء، فإن التنمية الحقيقية في مصر تجعلنا بحاجة لرئيس وزراء آخر يبني الإنسان المصري بالإضافة لرئيس الوزراء الحالي الذي ينشغل أكثر بالبنية التحتية. فالقضية ليست في إدارة شئون مصر، المعضلة هي تنمية وتثقيف وتوعية الإنسان المصري، وهو ما جعلني أتحدث في أكثر من مقالة سابقة عن "الوظيفة الأخلاقية للدولة" وهل "نحن شعب قليل الأخلاق" وعن أن "بناء المصداقية أهم من التعديلات الدستورية" وغيرها من المقالات التي يمكن الرجوع لموقعي الالكتروني للإطلاع عليها إن سمح الوقت، لتؤكد أن المصري حي يرزق يملك مقومات الحياة لمن يستطيع أن يجمع أجزاءها ويعيد توجيهها.
وأؤكد أننا لو قارنا أنفسنا بالعديد من دول العالم الأخرى فسنجد أنفسنا نسير خلفهم ونتقدم بمعدلات أقل من معدلاتهم، لأننا نبني رغما عن أنف الإنسان المصري وليس بالتأكيد على دوره والتأكد من تعاطفه مع أولويات الوطن كما صاغتها الحكومة التي اختارها لتقود الوطن. إن حديث السيد رئيس الوزراء يعكس رؤية أستاذ هندسة لم يتمرس على العمل السياسي بالقدر الذي يجعله قادرا على استيعاب أهمية أن يخلق مناخا يجعل الحكومة تعمل فيه بالتعاون مع المجتمع وليس بقهر بعضه وتجاهل بعضه. وقد أطلقت الأمم المتحدة على عملية بناء هذا المناخ (Building Trust in Government) أي بناء الثقة في الحكومة. وأرجوا أن يعقد مجلس الوزراء اجتماعا لمناقشة إعلان فينا (يونيو 2007) عن بناء الثقة في الحكومة بما فيه من إجراءات عشرة، بل أطلب من أحزابنا أن تجتمع على مناقشتها حتى تعيد المواطن المصري لوطنه، فيهتم بالأحزاب مثلما يهتم بفرق كرة القدم، ويعرف قادة الأحزاب والمجتمع المدني كما يعرف المغنيين ولاعبي الكرة. وحتى يحدث هذا فأنا أطالب بأن يكون هناك رئيسان للوزراء واحد يهتم ببناء الإنسان المصري والآخر يهتم ببناء الكباري وحفر الأنفاق ومد التليفونات بدلا من حالة التقدم المظهري الذي يخفي وراءه الكثير من مظاهر التخلف الهيكلي التي نعيشها كما يقول سمير أمين. أحدهما يهتم بتعليم المصريين ألا يسرفوا في استخدام المياه والآخر يهتم بمد مواسير المياه والمجاري تحت الأرض. واحد يعلم المصريين ألا يلقوا الزبالة في الشارع، والآخر يتعاقد مع شركات إسبانية وفرنسية كي ترفع الزبالة من الأماكن المخصصة لها. وبالمناسبة لن ينجح الثاني إلا إذا نجح الأول، ولن ينجح الأول إلا إذا نجح الثاني.
فلا انفصال بين زيادة أعداد السيارات في الشوارع وارتفاع كفاءة قائديها. فالقضية الملحة ليست في المظاهر الشكلية للتقدم مثل وجود تليفونات أكثر، ولكن فيم يتحدث المصريون وما هي القضايا التي تشغلهم؟ كما أنه من المنطقي أن يكون عدد الكباري في اطراد لكن ما معنى أن يكون ضحايا المصريين من حوادث الطرق في السنة أكثر من ضحايا الفلسطينين من القصف الإسرائيلي المتكرر؟ ولا شك أن المرء يكون سعيدا حين يفتح الحنفية ويجد ماء متى تيسر له ذلك، لكن المعضلة أن المصريين يمكن أن يفتحوا الحنفية ولا يكترثون بإغلاقها.
نحن نبني عددا أكبر من المدارس لنواجه الزيادة السكانية. لكن سؤالي، لماذا لا نبني الإنسان المصري الذي يكافح هو بذاته الزيادة السكانية ويساهم هو بذاته في بناء المدارس؟ الحكومة تعتقد أن الشعب المصري هو المنافس الذي تتحرك ضده لأنها لم تنجح أن تكسبه في صفها، وأن تجعل قضاياها قضيته. من غير المهم أن يعمل الوزير أضعاف ما يعمل من وجهة نظري، لكن المهارة الحقيقية كيف ينجح الوزير في أن يجعل العاملين في وزراته يعملون أضعاف ما يعملون ويعطي هو لهم القدوة؟ هذه طريقة مختلفة في التفكير عن تلك السائدة عند السيد رئيس الوزراء فيما فهمت من حواره ذلك. فهو كحال الأب الذي يقوم بإعادة ترتيب المنزل مع كل مرة يقدم فيها الأطفال على العبث بمكوناته لأن لديهم سلوكيات خاطئة، وغالبا ما يلعنهم في سره لأنهم غير ملتزمين بما يراه صوبا. ماذا لو نجح الأب في تربية أولاده على أن يكونوا مسئولين عن أفعالهم على نحو يجعلهم لا يعبثون بلا إحساس بالمسئولية أو يصلحون ما يفسدون؟ ومن هنا تأتي أهمية التربية على المواطنة، أي التربية على قيم المسئولية المشتركة بين الحاكم والمحكوم.
وكي أوضح ما أقصد سأناقش ثلاثة أمثلة تستدعيها ذاكرتي عساها توضح فكرتي:
1- قال أحد مدربي كرة القدم السابقين، ولا أتذكر إسمه، بعد أن فر من تدريب أحد الناديين الكبيريين عن مصر: "عندكم أحدث عربيات العالم، لكنكم ما بتعرفوش تسوقوا لأنكم ما عندكم أخلقيات القيادة السليمة." في تقديري، لقد أجرى الله الحكمة على لسان هذا المدرب. مصر فيها سيارات أكثر لكن فيها حوداث أكثر وعادم سيارات أكثر وزحمة أكثر واختناقات مرورية أكثر. لأننا لم نهتم بتربية الإنسان الذي هو في مقعد القيادة على أن يعرف كيف يقود سيارته. إن الاعتماد على الاستدلال بالتقدم باستخدام أرقام البنية التحتية يعني خداع بسطاء العقول وهؤلاء نحن لسنا بحاجة لخداعهم لأنهم أقيلوا فاستقالوا فخرجوا من الحسبة السياسية بالفعل.
2- وجدت زوجتي من يومين تجبر ابنتي على كتابة عبارة "النظافة من الإيمان" كواحد من دروس كتاب الصف الرابع الابتدائي، فسألت ابنتي عن معنى ما تكتب فوجدتها لا تعرفه، هي فقط تنقل ما هو مكتوب في أول السطر فتذكرت، وذكرت زوجتي، بكلام المرحوم الشيخ الغزالي عن أهمية أن نفهم القرآن مع حفظ اليسير منه كحد أدنى. يكفي مثلا حفظ جزء عم لكن المهم أن نفهم ونتدبر بقية آياته كل قدر استطاعته. فما كان مني إلا أن قررت أن أعلم ابنتي معنى هذه العبارة فشرحت لها ما استطعت، وبعد أن انتهيت من توضيح أن الإنسان المؤمن يكون نظيفا. وأما وأنها عندها معلومة سابقة أن المصريين مؤمنون (وهي كلمة تستخدم بالتبادل مع كلمة متدينين) فقد سألتني سؤالا قاتلا باللغة الإنجليزية: Is that true? بمعنى هل هذا حقيقي؟ فسألتها ما الذي تقصده، فقالت إنها عاشت في مصر سنتين ووجدت المصريين مؤمنين (أي متدينين بمعاييرنا) لكنهم لا يتصفون بالنظافة. ففي عقلها هناك معلومات غير متسقة: إما أن النظافة ليست من الإيمان، وهنا كذبت وزارة التربية والتعليم، أو أن المصريين غير مؤمنين، وهنا كذبت المعلومة التي كنا نرددها لها من قبل. فقلت لها إن الإنسان المصري المتدين الحقيقي يكون نظيفا حين يتوضأ ويذهب للصلاة مثلا وهكذا. لكنها داهمتني بما لم أكن أتوقع. فقالت: لكن هنا في أمريكا الناس لا يتوضأون لكنهم نظيفون جدا ولا أحد يلقي الزبالة في الشارع ويحترمون إشارات المرور وغيرها. فطلبت منها هدنة للتفكير للرد على سؤالها ذلك بعيدا عن الإجابات الكثيرة التي طالما رددنا وواضح أنها لم تغير الكثير من تكويننا. وأنا لم أزل أفكر في رد عليها حتى الآن. لكنني تذكرت حوارا آخر دار بيني وبين مجموعة من نبهاء علماء الإسلام الأفاضل من تلاميذ فضيلة المفتي الشيخ علي جمعة في دورة تدريبية شرفت بالمشاركة فيها لتقريب العلوم الشرعية التي يدرسونها من العلوم الاجتماعية التي نقوم بدراستها وتدريسها في الجامعات المدنية. وكان من ضمن الأسئلة التي سألتها لهم: أيهما يحض عليه الإسلام أكثر صلاة النوافل ومنها التراويح في رمضان مثلا أم أن يقوم كل إنسان مسلم بالتنظيف أمام منزله؟ وبعد أن تناقشوا، وأنا أنصت، وصلوا إلى ما يشبه الإجماع على أن النظافة فرض عين على كل مسلم أم التراويح مثلا، رغما عن الاعتراف بفضها، هي سنة مؤكدة. وهنا واجهت معضلة كيف انقلبت السنة المؤكدة إلى ما يشبه الفرض الذي نشمر فيه عن كل ما لدينا وكيف تحول الفرض إلى نافلة مستبعدة؟ المعضلة الآن: كيف يمكن لعلمائنا الأفاضل مع أجهزة إعلامنا الرشيدة وأجهزة وزارة الثقافة المتعددة أن تنشر بين المصريين ثقافة النظافة؟ نحن بحاجة لرئيس وزراء آخر يستطيع أن يجمع هذه المكونات لإعادة ترتيب الأولويات: رئيس وزراء الإنسان المصري.
3- في واحدة من ندوات كلية الاقتصاد والعلوم السياسية، وكنت حينذاك معيدا في الكلية، استضافت الكلية وزير التعليم الذي تحدث عن جهود الوزراة في بناء المدارس ومواجهة الدروس الخصوصية وإيفاد المدرسين للخارج، وقد طلبت الكلمة وأتذكر أنني سألته عدة أسئلة لاقت استحسان بعض الحضور بما يؤكد أن الذي أتحدث فيه هذا شيء مفتقد عند الكثيرين من ووزرائنا. وكان مما قلت إن المهمة الأولى لوزارة التربية والتعليم هي أن تخرج لنا طالبا يحب مصر أولا، حريص عليها ومحب لمصلحتها مقتنع بأن "الأفضل في أي مجال هو الأولى بأن يتقدم فيه" من أجل خدمة الوطن. لكن ماذا تستفيد مصر من أن يخرج من مدارسها عباقرة في الكيمياء والفيزياء وغيرهما ويهرولون مسرعين خارجها أول ما تأتيهم فرصة للرحيل عنها غير مهتمين حتى أن يرتبطوا بها أو أن يحرصوا على نقل ما تعلموه في الخارج إليها؟ وعندي خبرة مباشرة في هذا الصدد. لقد كنت واحدا من 33 طالبا كانوا يشكلون فصل المتفوقين في المدرسة الإبراهيمية الثانوية في آواخر الثمانينيات. وها أنا أكتشف بعد قرابة 18 سنة من تخرجي من المدرسة أن معظم هؤلاء أصبحوا أعضاء هيئة تدريس في كليات مختلفة وأن نصفهم على الأقل خارج مصر، وأن الكثيرين من الباقين في مصر في حالة بحث عن فرصة عمل خارجها، و90% ممن هم خارج مصر في الولايات المتحدة يعملون في مجالات الطب والعلوم الأساسية والهندسة. هم لا يكرهون مصر لكنهم غير قادرين على الحياة فيها رغما عما فيها من كباري وأنفاق ومجاري وتليفونات محمولة وسيارات حديثة، ولكن إذا اعتبرنا أننا بحاجة للعمل لله ثم الوطن والحياة الكريمة فالإنسان السوي لا يميل للتضحية بأي من الثلاثة، لكن أحوال مصر تجعلهم مضطرين للتضحية. فأغلب المصريين لا يقبلون أن يمتهنوا مهنة تجلب لهم مالا حراما، وهم، كما معظم البشر، لا يقبلون أن يحيوا حياة مهينة، لأنهم ليسوا حيوانات ولا يحبون أن يكونوا. وعليه فأغلبهم مضطرون للتضحية، ليس بالوطن، ولكن بالحياة في الوطن، عساهم يستطيعون لاحقا أن يعودوا إليه في ظروف أفضل يكونون فيها أقدر على خدمته وخدمة أهله.
إن ثقافة الإنسان المصري ليست معطى مثل الموقع الجغرافي لا نملك حيالها إلا التسليم بها والتعايش معها وإنما هي واحدة من أدوات التقدم إن استطعنا أن نعيد تشكيلها وتوجيهها، أو واحدة من أسباب التخلف أن جعلنا منها عذرا للاهتمام ببناء المدارس دون الاهتمام ببناء الطالب، بتعبيد الطرق دون الاهتمام بتربية قائد السيارة على قيادتها، بمد مواسير المياه دون تربية المواطن على حسن استغلاله لها. إن المصري مستقيل من الحياة العامة ينظر لمصر كبقرة حلوب، الأشطر يحلبها أكثر. من يستطيع أن يعيده للوطن ويعيد الوطن إليه؟
Friday, October 12, 2007
Subscribe to:
Post Comments (Atom)
No comments:
Post a Comment