Thursday, October 25, 2007

خالد محيي الدين

مصطفى الفقي

قد يذكر التاريخ المعاصر أن «خالد محيي الدين» هو أبرز الشخصيات السياسية المصرية، علي امتداد الفترة منذ عام ١٩٥٢ حتي الآن، ولا يقاس الأمر هنا بالمناصب الرسمية أو المواقع السيادية، ولكن الفيصل هو تواصل العطاء لمصر والإخلاص للوطن الغالي. «وخالد محيي الدين» نموذج فريد لا نكاد نجد له نظيراً في تاريخنا الحديث،

وعلي الرغم من أن الرجل يحمل «ميدالية لينين الكبري» من قيادة الاتحاد السوفيتي السابق «والميدالية التذكارية لثورة ١٩٥٢» في عيدها الخمسين من الرئيس «مبارك» فإن مجلس قيادة الثورة، عندما منح كل أعضائه «قلادة النيل»، حرم ذلك الفارس النبيل «خالد محيي الدين» منها، وكأنما أخذ الرجل علي نفسه عهداً من ذلك الحين بألا يحضر مناسبات رسمية أبداً حتي لا يشعر، من خلال الترتيب «البروتوكولي»،

بالظلم الذي وقع عليه، وهو واحد من أبرز قادة تنظيم الضباط الأحرار، ومن أشجع ثوار «٢٣ يوليو» وأكثرهم ثقافة وإيماناً بالحرية ودفاعاً عنها، ورغم انتمائه العقائدي المعروف لليسار المصري فإنه وظف ذلك لخدمة الوطنية المصرية قبل أي اعتبار آخر. ولقد جمعتني بهذا الرجل العظيم فترة عضويته للجنة العلاقات الخارجية بمجلس الشعب المصري منذ عام ٢٠٠٠ حتي عام ٢٠٠٥،

حيث ترأسها في العام الأول الراحل «ماهر أباظة»، ثم انتُخبت بعده رئيساً لها، ولن أنسي حرص السيد «خالد محيي الدين»، بتاريخه الطويل واسمه الكبير وماضيه المشرف، علي حضور جلسات اللجنة في مواظبة شديدة والتزام واضح، وهو في ثمانينيات العمر، وهو أيضاً ذلك الثائر الذي قرر مجلس قيادة الثورة تعيينه رئيساً للوزراء، لامتصاص ثورة ضباط سلاح الفرسان، في وقت كنت أنا ومعظم زملائي في اللجنة لانزال نرتدي «الشورت» أطفالاً ونلهو في فناء المدرسة الابتدائية!

وقد كان حضور الرجل دائماً مؤثراً وفعالاً، فهو يشارك في الرأي ويبدي الملاحظات في لغة واضحة وسهلة مع عفة في اللسان وعمق في التفكير وسلام شديد مع النفس دون مرارة تنغص عليه حياته، بسبب الثمن الذي دفعه،

في شجاعة وتجرد، من أجل الديمقراطية فيما سُمي «أزمة مارس ١٩٥٤» وما بعدها، حيث فرض عليه رفاقه النفي في «سويسرا» ليبتعد بشعبيته داخل الجيش عن الساحة كلها، لأنه كان يحظي باحترام وحب شديدين بين الضباط من مختلف الرتب. وعندما قرر الدكتور «أحمد فتحي سرور»، رئيس مجلس الشعب، تشكيل وفد كبير لزيارة رسمية للبرلمان الأوروبي كان من أعضائه السادة «خالد محيي الدين»، «ومنير فخري عبدالنور»، «ومنصور عامر»، والدكتورة «فائقة الرفاعي».

حرص الدكتور «سرور» علي أن يستمزج رأي الأستاذ «خالد محيي الدين» في المشاركة ضمن وفد يترأسه رئيس لجنة العلاقات الخارجية، ولكن الرجل، بتواضعه المعروف وأدبه الجم وشخصيته الراقية،

لم يمانع في ذلك، وكان حضوره معنا في الوفد كشخصية تاريخية مرموقة قومياً ومعروفة دولياً ما أكسبنا مزيداً من الاحترام، وحقق لمهمتنا النجاح المطلوب، وكنت أحرص علي تقديمه عنا جميعاً، وأكاد أحمل عنه حقيبة يده أحياناً تقديراً لمكانته وحباً لشخصه. ولقد تسابق أعضاء الوفد في رعايته والحفاوة به، وأتذكر أنه عند زيارتنا مدينة «ستراسبرج»،

المقر التبادلي للبرلمان الأوروبي، أن نائباً فرنسياً يترأس لجنة المشرق ـ وهو جزائري الأصل ويعتبر شخصية برلمانية معروفة ـ قال لنا عندما رأي الأستاذ «خالد محيي الدين»: لقد تحققت أحد أحلامي، فلقد كنت أريد أن أري الرجل الذي قرأت عنه كثيراً، وها هو الحلم يتحول إلي حقيقة أخيراً!

إنه السيد «خالد محيي الدين» الذي ترك رئاسة «حزب التجمع» طواعية، في بادرة غير مسبوقة علي مسرح السياسة المصرية في العقود الأخيرة، حتي اختاره أعضاء الحزب رئيساً فخرياً لهم مدي الحياة، ولقد لفت نظري كثيراً أن هذا الرجل الكبير كان يحمل هموم دائرته الانتخابية في تفانٍ وإخلاصٍ واضحين،

ويساعد كل من يلجأ إليه، ويسعي لتلبية طلب كل من يتصل به، ولا أنسي أحاديثي الطويلة معه حول «٢٣ يوليو» وتحول أسلوبها إلي نمط سلوكي في السياسة والحكم داخل مصر وخارجها، وكان الرجل موضوعياً فيما يقول، صادقاً فيما يحكي، لا يتحامل علي أحد، ولا يشوه التاريخ، الذي هو جزء مهم منه،

وكان يتحدث عن «عبدالناصر» في مودة، وعن «السادات» في موضوعية، وهو صاحب التوليفة التاريخية بين «الفكر الماركسي» «والشخصية الإسلامية»، فلقد أجري الرجل مصالحة نفسية بينهما منذ البداية، وعاش في صدق مع الذات بصورة يحسد عليها. لقد عرفت «خالد محيي الدين» عن قرب لسنوات عديدة، وازددت كل يوم احتراماً له وتقديراً لدوره في الحياة السياسية والعمل الوطني علي امتداد ستة عقود. وسوف يظل «خالد محيي الدين» جزءاً لا يتجزأ من ضمير مصر وأمتها العربية، فالحوار معه ميزة، والاستماع إليه متعة. أمد الله في عمره رمزاً، ومكانة، وقدوة.

No comments: