Thursday, October 18, 2007

الدولة والناس

بقلم د.عمرو الشوبكى

حين يسيطر علي جهاز الدولة حكم محدود الكفاءة يعيش حالة فوضي وفساد غير مسبوقين، وحين تغيب الدولة وتتراجع هيبتها، يصبح خطر الانهيار الداخلي خطراً حقيقيا يهدد الأخضر واليابس. لقد أدي التسيب الشامل الذي تشهده الساحة السياسية والاقتصادية والقانونية، إلي شغل المجتمع بمعارك جانبية لا حد لها، تاركا عموم الناس يتصارعون فيما بينهم، وكأنهم في غابة، من أجل انتزاع حقوقهم أو اغتصاب حقوق الآخرين، ليشمل الكيانات السياسية وغير السياسية، وهو تسيب لا تخطئه عين في الشارع والغيط وأماكن العمل، وفي وسائل النقل العام، ومع سائقي الميكروباص، وأحيانا من أجل إيجاد مكان آمن لعبور الشارع، فوضي غير مسبوقة أبطالها الشارع المصري، وتلعب فيه الدولة دور الكومبارس.
والواضح أن هذا الانسحاب المخزي للدولة من المجال العام ــ السياسي والنقابي والإداري ـ والمجال الخاص في حماية كل مواطن يحاول أن يسير علي قدميه، أدي إلي انتشار هذا النمط من الصراعات الأفقية داخل المجتمع المصري، فهناك حروب تقليدية تنتمي إلي الحرب الباردة بين أحزاب المعارضة وحزب الحكومة، ومازالت مستمرة في حدها الأدني أو علي سبيل إبراء الذمة، لأنها جزء من وظيفة أحزاب المعارضة، أن تعارض الحكومة، أما الحروب الجديدة وأشكال الصراع الحقيقية، هي أساسا داخل كل حزب أو جماعة سياسية.
وإذا وقف زعماء الأحزاب السياسية وقفة صغيرة مع النفس، لاعترفوا أن الوقت الذي يقضونه في ترتيب المؤامرات الصغيرة ضد منافسيهم داخل كل حزب أكبر بكثير من الوقت الذي يقضونه في مواجهة سياسات الحزب الحاكم، والعكس أيضا صحيح، فالحزب الوطني لا ينشغل كثيرا بأحزاب المعارضة، لأن قادته منشغلون بصراعاتهم الداخلية وباستبعاد العناصر المحسوبة علي منافسيهم عن طريق ما يعرف بانتخابات الحزب الحاكم.
والمؤكد أن مشهد الصراع السياسي بين من يفترض أنهم في تيار واحد أو حزب واحد، صار في كثير من الأحيان يفوق أي صراع آخر، وهذا في الحقيقة راجع لانغلاق مسار التغيير السلمي والإصلاح الديمقراطي، فكل أحزاب المعارضة لا تحلم أن تنافس علي السلطة ولا تمتلك أي قدرة علي القيام بذلك في ظل النظام الحالي، وبالتالي تنتقل صراعاتها إلي ما هو ممكن وواقعي وهو الصراع ضد بعضها البعض، ويعمق من هذه الصراعات انسحاب الدولة الكامل عن وضع أي قواعد قانونية لتنظيم العملية السياسية،
فالصراع الذي دار العام الماضي داخل حزب الوفد، تركته الدولة لقدره حتي انتهي بإطلاق نار وعنف غير مسبوق، وكان بمقدور النظام الحاكم أن ينشئ جهة قضائية مستقلة مهمتها أن تفصل في هذا النوع من الصراعات الحزبية، لكي تطبق فقط قاعدة سياسية وقانونية بسيطة، تتمثل في احترام الأقلية داخل كل حزب لتصويت أو قرارات الأغلبية، ووجود نظام لمراقبة كشوف الأعضاء وضمان عدم العبث فيها وغيرها من القواعد.
وفي ظل مجتمع لم ترسخ فيه الثقافة الديمقراطية، يصبح من الطبيعي أن ينتشر هذا النوع من المشكلات والصراعات الداخلية، وتصبح دولة القانون ذات الهيبة والسطوة، هي الملاذ الوحيد لكل الفرقاء في ساحة السياسة والحياة العامة، من أجل الحفاظ علي ما تبقي من نظام التعددية المقيدة، أمام خطر الفوضي والتحلل والعشوائية الذي سينهي كليا من وجود كلمة "نظام" في المجتمع المصري.
ويبدو أنه صار متأخرا وضع أي قواعد قانونية لحسم أي شيء داخل المجتمع، فالحكم الذي كان راغبا في استمرار الصراع الأفقي بين الجميع وترك «الباب علي الغارب» لكل عابث أو مخرب أو واهم بالزعامة، أصبح عاجزا الآن عن مواجهة أي شيء، أو تحمل ثمن تطبيق القانون علي الحكام والمحكومين، ورؤساء الأندية وقادة الأحزاب، وحتي بلطجية الشارع وحلفائهم من رجال الأعمال وأصحاب الحظوة والنفوذ، ودفع المجتمع إلي الغوص حتي أخمص قدميه في معارك صغيرة وتافهة يروجها الإعلام الحكومي والخاص معا، عن القيل والقال، وفلان وعلانة، ونسي الكثيرون معركة الإصلاح السياسي والديمقراطي ومحاربة الفساد والاستبداد، وصار بقاؤهم في المجال العام مرادفا للاستنزاف في الصراعات التافهة والمعارك الصغيرة.
فحتي معركة حرية الصحافة واستقلالها لم تسلم من بعض المناوشات الجانبية، مثلها مثل معركة استقلال القضاء التي نجح النظام في تحويلها ولو مؤقتا إلي معركة بين القضاة أنفسهم، و أدخل أساتذة الجامعات في معارك جانبية كثيرة تعثرت أمامها معركة استقلال الجامعات والبحث العلمي.
والمؤكد أن الحكم تعمد تغييب الدولة تماما عن ساحة الجدل السياسي والمهني والديني في مصر، فكل شيء مباح، وكل الاجتهادات الغريبة والصادمة والبلهاء يسمح لها بالانتشار، وكل مخالفة صريحة للقانون لا تتعرض لحساب إلا إذا مثلت خطرا مباشرا علي الحكم، أو تجاوزت الخطوط الحمراء، وكل عمل سياسي أو نقابي هو مرحب به طالما غير فعال أو منشغل بصراعاته الداخلية، وصار كل طرف يدعي أنه يواجه السلطة ويسعي إلي الإصلاح السياسي والديمقراطي هو في مواجهة مع طرف آخر يدعي أيضا أنه يواجه السلطة ويطلب الإصلاح، وأدت هذه المواجهة الواقعية بين كلا الطرفين، وليست الافتراضية ــ أي ضد السلطة ــ إلي تحييد هذا الخطاب الإصلاحي وإفقاده أي تأثير في الشارع وبين النخبة.
فمعركة الناصريين والإخوان في مجلس نقابة المحامين عطلت كثيرا من دوره في عملية الإصلاح السياسي والديمقراطي، والصراعات غير الصحية داخل الجماعة الصحفية ــ وهي في جانب رئيسي منها نتيجة غياب أي معايير قانونية ومهنية تحكم عملية تعيين الصحفيين وتدريبهم وتعليمهم ومحاسبتهم مهنيا ــ ساهمت بدورها في تعطيل معركة حرية الصحافة واستقلالها.
وامتد انسحاب الدولة ليشمل باقي مجالات الحياة، فالدولة غائبة عن حياة المصريين اليومية، لا تظهر إلا في الكوارث، وتغيب حين يكون مطلوب منها أن تمنعها أو تواجهها قبل وقوعها، فالمصريون يموت منهم كل عام حوالي ١٠ آلاف قتيل في الطرق وحدها، ولا أحد يتحرك بمن فيهم الناس أنفسهم، ويغرقون في العبارات النيلية، وليس فقط عبارات البحار وهم لا يتحركون، وينهار نظامهم التعليمي ويعيشون في فوضي وعشوائية أقرب للمهزلة، ويستنزفون منذ الصباح وحتي عودتهم إلي منازلهم في مشاجرات الشوارع وخناقات السير ومشكلات مع الجيران ومع «مدرسة الأولاد»، ورؤسائهم في العمل، دون أن تحكمهم قاعدة قانونية واحدة تنظم شيئا واحدا في حياتهم.
المؤكد أن هذا الوضع الذي انسحبت منه الدولة من تنظيم المجال العام والخاص، وتركت عموم الناس "هم وحظهم "، لن تواجهه السياسة ولا التنظيمات السياسية، إنما هو وضع سيتحلل من داخله، صحيح أن الضغوط غير المنظمة في الشارع ستساعد علي هذا التحلل، لكن السبب الرئيسي الذي سيؤدي إلي الانهيار القادم، سيعود إلي العجز الداخلي للنظام وللدولة التي أدارت ظهرها للناس، وهم حتما سيديرون ظهورهم لها، ويتركونها أيضا لقدرها.... فهل من منقذ قبل حلول الكارثة؟

No comments: