Sunday, October 28, 2007

نهوض جديد لصراع الطبقات

أحمد بهاء الدين شعبان

لم تشهد الطبقات والفئات الكادحة المصرية في تاريخها المعاصر، منذ نصف القرن الماضي علي الأقل، تدهوراً في المستوي العام للمعيشة، وانهياراً للقدرة والمكانة، مثلما شهدت في العقد الأخير.
البطالة وأزمة السكن
فمنذ سنوات، اندفعت السلطة الحاكمة بفعل سيطرة جماعات من «الرأسماليين الجدد»، جلّهم من «المحدثين» الذين ظهروا علي سطح الحياة الاقتصادية والسياسية دون تاريخ سابق، مثل الطفح، وراحوا يتسابقون ــ مستندين إلي تغطية النظام وحمايته، وتحت شعارات خادعة براقة، من نوع: «إعادة الهيكلة» و«تحرير الاقتصاد» و«التكييف الهيكلي» إلخ، إلي التصفية المنظمة للملكية العامة بكل صورها، وإلي النهب المنظم للثروة الوطنية، وإلي التدافع لإرضاء المؤسسات المالية الغربية بتنفيذ تعليمات «البنك الدولي» و»صندوق النقد»، وغيرهما من الهيئات الشبيهة، الأمر الذي تسبب في تعريض وجود عشرات الملايين من المواطنين المصريين إلي أزمات متفاقمة مستمرة، حوّلت أيامهم الي جحيم مقيم وعذاب لا نهاية له، وضاعفت من حجم المعاناة الشاملة التي أصبحت الصفة العامة لحياتهم علي مدار الأيام.فبفعل التوجهات الأساسية للنظام، تم علي مدار العقود الثلاثة الأخيرة، وبوتيرة شديدة التسارع أخيرا، التخلص بيعاً وبأبخس الأسعار، وعبر عمليات مشبوهة (مثلما حدث في عملية بيع مؤسسة «عمر أفندي» التجارية الكبري بأقل من ربع الثمن المقدر بواسطة لجان التقويم الحكومية!) من الأغلبية العظمي من مصانع وشركات ومؤسسات القطاع العام، وعلي رأسها مؤسسات سيادية خطيرة، منها البنوك، دون أي اعتبار للمصلحة العامة أو المصالح الاستراتيجية العليا للبلاد. وألقي ــ بلا أدني رحمة ــ بمئات الآلاف من العمال والمستخدمين إلي سوق البطالة الذي يضم الآن نحو سبعة ملايين مواطن، يزيدون كل عام نحو مليون عاطل، بفعل استمرار الجامعات والمعاهد العليا والفنية في صب عشرات الآلاف من خريجيها إلي سوق العمل المكتظ، مع تخلي الدولة الكامل عن التزامها بواجباتها الاجتماعية الرئيسية، وفي مقدمتها توفير فرص العمل للمواطنين، ملقية هذا العبء علي كاهل «القطاع الخاص»، الذي تنصل ــ بدوره ــ من هذه المسئولية، فكان من نتيجة هذا الوضع أن استحال إيجاد فرصة عمل إلاّ لأبناء «المحظوظين»، أو القادرين علي دفع الثمن (الرشوة) لمن بيدهم القرار، أو للحاصلين علي تعليم مميز في جامعات النخبة، الباهظة التكاليف، وهو ما لا يتوافر لأغلبية أبناء الشعب.وأصبح من العسير علي أي شاب مصري ــ حتي من أبناء الأسر التي كانت ميسورة في الماضي، ممن كان يطلق عليها «الطبقة الوسطي» ــ الزواج، بفعل فداحة تكلفة متطلبات هذه العملية، وفي مقدمتها أسعار المساكن الباهظة التي واصلت التقدم إلي مستويات خرافية (وأدّت مضاربات فائض الأموال النفطية علي العقارات والأراضي، دوراً أساسيا في هذا الأمر).وقد أدي هذا الوضع الي ارتفاع متوسط سن الزواج في مصر إلي خمسة وثلاثين عاماً، (كانت تقترب من نصف هذا المعدل في جيل الآباء!). وحسب الإحصاءات الرسمية، فإن عدد المصريين الذين وصلوا هذه السن ولم يتزوجوا بعد، قارب نحو تسعة ملايين، منهم نحو أربعة ملايين من الإناث والباقي من الذكور، أغلبهم ــ بالطبع ــ من أبناء الطبقات الفقيرة والمعدمة. كما تزايدت حالات الطلاق بشكل غير مسبوق (أورد تقرير لـ «مركز الأرض لحقوق الإنسان» وقوع 264 ألف حالة طلاق خلال عام 2006، معظمها لأسباب اقتصادية).
«أحزمة البؤس» تحاصر العاصمة
وجبات إفطار مجانية في القاهرة (أرشيف ــ إي بي أي) وساعد انتشار الفقر علي تفاقم معدلات الانهيار في الأوضاع المعيشية للملايين من المصريين، وعلي انتشار العنف والجريمة، وتعدد حالات الانتحار بسبب الإملاق واليأس، وتعاظمت معدلات انتشار الرشوة والفساد، وتضاعفت أعداد «أطفال الشوارع» الذين يهيمون علي وجوههم جائعين في أسمالهم البائسة، وحاصرت تلال القمامة (التي فشل النظام في التخلص منها حتي بعد الاستعانة بخبرة «الخواجات» في الشركات الأجنبية)، القاهرة وضواحيها، وأحاطت «أحزمة البؤس» بعاصمة «المحروسة» إحاطة السوار بالمعصم، حيث تعيش «شريحة كبيرة ينساها المجتمع، تمارس حياتها شبه البدائية رغم وجودها في نتوءات داخل المدن، بلا مياه أو كهرباء أو صرف أو نظافة، يعيشون في أعشاش من الصفيح أو الخيش أو الكرتون أو الطين أو الحبيبي ــ نوع من الخشب الصناعي الرخيص ــ أو كسر الخشب، بلا دورات مياه، يقضون حياتهم في العراء، يعانون الفقر وسوء التغذية، أولادهم لا يذهبون إلي المدارس بسبب المصاريف، يتخذها بعض اللصوص والساقطات وتجار «الصنف» (المخدرات)، مقار بعيدة عن أعين الأمن (الذي تفرغ لملاحقة معارضي النظام!)، لتصدِّر شرورها للمجتمع الذي أهملها. وهؤلاء موجودون بكل المحافظات، يتزايد عددهم مع توالي الانهيارات المفاجئة للمباني القديمة، ومع الهجرة المستمرة إلي المدن المكتظة» فضلاً عن مئات الآلاف غيرهم يحيون وسط أجداث الموتي، في المقابر، يتزاوجون ويتناسلون، ويمارسون كل طقوس الحياة، بعدما أعيتهم الحيلة وفشلوا في الحصول علي موطئ قدم في مدن الأحياء!.
تراجيديا المرض والتلوّث
في ظل هذه الحالة، تدهورت الأوضاع الصحية للمصريين إلي حدود بالغة الخطر. وأيضاً بسبب القمح والأغذية الملوثة المستوردة، والمبيدات والأسمدة المسرطنة (الإسرائيلية) المنبع، وارتفاع معدلات التلوث البيئي الي أضعاف النسب المقبولة عالمياً (أخيراً نالت القاهرة المرتبة الأولي في نسبة التلوث علي المستوي العالمي!).ويشير تقرير صادر عن «برنامج الأمم المتحدة للإنماء والتنمية» بشأن الأوضاع الصحية للمصريين إلي إصابة 5 ملايين مصري بفيروس الالتهاب الكبدي الوبائي (فيروس (C))، وإلي تزايده بمعدل 750 ألف حالة سنوياً، حيث أصبحت مصر تحتل المرتبة الأولي علي المستوي العالمي للمصابين بهذا المرض.وهناك ــ حسب التقرير نفسه ــ 4 ملايين مواطن مصري مصاب بمرض السكر، و 14% من المواطنين يعانون من حساسية الصدر، وما يقرب من 15 مليون مصري مصاب بالأنيميا، ويصاب أكثر من 100 ألف ــ سنوياً ــ بالسرطان، بينهم نسبة ملحوظة من الأطفال، وأكثر من 25% من المصريين مصابون بفقر الدم.
التحدّي والاستجابة
علي هذه الخلفية التي عرضنا جانباً يسيراً منها وإن كان ذا دلالة، عاشت مصر طوال أشهر العام الماضي وما انقضي من أشهر هذا العام، حالة غير مسبوقة من انفجار الاحتجاج الاجتماعي المكبوت، اتخذ بُعداً واسعاً، رأسياً وأفقياً، طال معظم المحافظات المصرية حتي النائي منها، وزلزل قطاعات متعددة من الأعمال والمجالات الصناعية والخدماتية، وشارك فيه تجمعات شعبية كبيرة، منهم أبناء سيناء الذين خرجوا للاحتجاج علي الإهمال والتعنت، وتجاوزات أجهزة الأمن في التعامل العنيف، وغير المبرر، معهم!
الاحتجاج في مواجهة التوحش
وقد رصد «مركز الأرض لحقوق الإنسان»، في دراسته المهمة المعنونة «الاحتجاج في مواجهة التوحش»، الصادرة في يوليو 2007، وقوع 283 حالة احتجاج في النصف الأول من العام الجاري بالقطاعات الثلاثة: الحكومي، والخاص، والأعمال العام.من هذه الأنشطة الاحتجاجية التي قامت بها الطبقة العاملة المصرية : 117 حالة تجمهر، و85 حالة اعتصام، و66 حالة إضراب عن العمل، و15 حالة تظاهر، إضافة إلي العشرات من حالات الإضراب والاعتصام والتظاهر والاحتشاد، قام بها الأكاديميون الجامعيون، والقضاة، والمهندسون، والفلاحون، والطلاب، والصحافيون، والمطالبون ببديل عن مساكنهم المهدمة، والمتضررون من انهيار مؤسسات الدولة ونتائجها الكارثية، والمطالبون بمياه نظيفة للشرب ومياه لري الأرض الظمآنة، والمحتجون علي التجاوزات البشعة لأجهزة الأمن... وهلم جرّاً، في أوسع حالة احتجاج شعبي تاريخي دشنتها حركة «كفاية» بتظاهرتها الرائدة التي انطلقت من أمام «دار القضاء العالي» في قلب القاهرة، يوم 22 ديسمبر عام 2004، مطلقة دوامات من التفاعل، ومشجعة علي كسر حاجز الخوف من القمع، ومتحدية تقاليد العمل السياسي الحزبي المستقرة لأكثر من ثلاثة عقود بالتزام السكون في المقار الحزبية، وإطاعة تعليمات السلطة بعدم تجاوزها ـــــ بأي حال ـــــ إلي الشارع!
عشر ملاحظات
تشير حالة الاحتجاجات الجديدة إلي مجموعة من الدلالات البارزة:أولاً: اتساع النطاق الجغرافي لهذه الأفعال الاحتجاجية المشار إلي نماذجها، وامتدادها تقريباً إلي أغلب محافظات مصر وحتي مناطقها الحدودية النائية: سيناء في الشرق، الإسكندرية في الشمال، النوبة في الجنوب، والسلوم في الغرب (التي تحركت بعد أيام من هذا الرصد احتجاجاً علي قيام ضابط أمن بسكب الكحول علي شاب من المنطقة وإشعال النار فيه!). ثانياً: امتدادها إلي أغلب طبقات المجتمع وفئاته الاجتماعية: العمال ـــ الفلاحين ـــ فئات البرجوازية الصغيرة ـــ الشرائح الدنيا من الطبقة البرجوازية (الطبقة الوسطي) ـــ المثقفين إلخ ... ثالثاً: بروز الدور القيادي للمرأة في كثير من هذه الأنشطة الاحتجاجية، وبالذات للمرأة العاملة في المصانع، حيث لفت الأنظار مبادرتها وشجاعتها وحسمها، وهو ما ساعد علي نجاح العديد من هذه التحركات وإنجازها أهدافها. رابعاً: العديد من هذه الاحتجاجات العمالية استطاع أن يفرض علي السلطة التراجع أمامها، وأن تستجيب لمطالب المشاركين فيها، مثل حركة المعلمين وإضرابات عمال مترو الأنفاق وسائقي قطارات السكك الحديدية، والنقل الخفيف، وغزل المحلة... ويعود ذلك إلي أن هذه القطاعات التي نجحت في تحقيق مطالبها، كما يشير تقرير مركز الأرض، «هي القطاعات ذات التأثير المباشر علي الجمهور»، كما كان لحسن تنظيم الإضرابات ووجود خبرات عمالية نقابية متميزة، وتماسك المشاركين فيها، أثر كبير في إنجاحها والتوصل إلي نتائج إيجابية. خامساً: أظهرت هذه الاحتجاجات «ضعف التنظيم النقابي وتبعيته للحكومة»، مثلما يشير نفس التقرير، ومهدت الأرضية لاكتساب فكرة النقابات والروابط المستقلة جمهوراً أوسع، كأساس لبناء التنظيمات النقابية الجماهيرية والمتحررة من سيطرة النظام. سادساً: عكست هذه الموجة الاحتجاجية وعياً أولياً بالمصالح الاقتصادية للمحتجين، دون أن تتطور إلي رؤية سياسية شاملة تربط أزمة كل قطاع من القطاعات المحتجة مع باقي أزمات المجتمع، وتطرح استراتيجية شاملة للمواجهة ذات أبعاد سياسية واقتصادية واجتماعية.وهذا المستوي الأوّلي من الوعي طبيعي وقابل للتطور، يعكس ـــ من منظور آخر ـــ انفصال الأحزاب السياسية عن هذه التحركات، فيما عدا بعض القيادات العمالية التقدمية، في بعض المواقع، التي تنتمي إلي أحزاب وحركات يسارية، فلم يكن للأحزاب بذاتها (والتقدمية منها أساساً) دور يذكر في تلك الهبّات الشعبية. سابعاً: أفرزت هذه التحركات الاحتجاجية جيلاً جديداً من القيادات العمالية الشابة، وكانت فرصة لأن يتمرس في النضال العمالي ومن أجل مصالح الطبقة العاملة، حتي يمكن الاعتماد عليه في المستقبل. ثامناً: كشفت هذه التحركات الاحتجاجية عن اضطرار السلطة للتراجع في الكثير من المواقع، والاستجابة لمطالب العمال المعتصمين، خشية امتداد الشرارة إلي أماكن أخري جاهزة للاشتعال. تاسعاً: وكما يقول تقرير مركز الأرض، فقد أوضحت الاحتجاجات الأخيرة «وحدة النسيج المصري في مواجهة الفقر والتعدي علي مصالحهم وحقوقهم. فلم نشاهد احتجاجات عمالية ظهرت فيها دعاوي خاصة بالعمال المسيحيين أو المسلمين»، وبالتالي كشفت عن زيف الدعاوي الحكومية بأن وراء الاحتجاجات جماعة «الإخوان المسلمين»، في محاولتها لعزل الحركة العمالية وضرب وحدة صفها وتشويه صورتها. عاشراً: في الكثير من هذه المعارك الاحتجاجية، تراجعت الحكومة تكتيكياً حانية رأسها للعاصفة، منتوية التحايل وعدم الالتزام بما قدمته من وعود، أو قدمت حلولاً لحظية مؤقتة، لا تعالج جوهر الأزمة أو تقضي علي الداء، وهو ما يشير إلي إمكانية كبيرة لتجدد موجات الاحتجاج في المستقبل، ويفتح الباب أمام احتمالات غير محدودة لنموها وتطورها.لقد وضح من الاستعراض السابق انقسام المجتمع المصري، حدياً، إلي قسمين لا جامع بينهما: «مصر العشة» و»مصر القصر». وهو ما يؤذن بنهاية عصر «تذويب الفوارق بين الطبقات» الذي حاول نظام الحكم بعد 23 يوليو أن يعتمده كبديل توافقي، افترض فيه أن يحل محل «صراع الطبقات» في المجتمع المصري.فمصر اليوم تشهد تفجراً غير مسبوق، لا في اتساع مداه ولا حدته، بين شرائح محدودة من طبقات المجتمع، بالغة الثراء، وبين الأغلبية العظمي من أبناء الشعب التي لا تملك قوت يومها، ولا تأمن علي حاضرها ولا مستقبلها.ولعلّ أخطر وأهم ما أشارت إليه هذه الموجة التي لا تزال مستمرة ـــ من الأنشطة الاحتجاجية التي تعمّ مصر من أقصاها إلي أقصاها ــ هو أنها تعكس نضج الشرط الموضوعي المناسب لعملية التغيير السياسي والاجتماعي في البلاد، مقابل غياب العامل الذاتي وتخلفه علي نحو ملحوظ. فالتحركات الاحتجاجية التي شملت أغلب قطاعات المجتمع ــ كما أشرنا ــ ينقصها تبلور القيادة المناضلة الواعية التي تمتلك مشروعاً مقنعاً، وخططاً تكتيكية واستراتيجية محددة، تستفيد من هذا الزخم الشعبي المتنامي، وتتفاعل معه إيجابياً من أجل إنجاز عملية التغيير السلمي، باستخدام أدوات النضال الجماهيري، ولبناء بديل ديموقراطي شعبي يعيد تشييد ما خربه تحالف الرأسمالية والبيروقراطية التابع، ويدفع مصر مجدداً إلي موقعها الطبيعي في قلب عالمها العربي، مركزاً للتقدم ورمزاً للتحرر والبناء.

No comments: