معتز بالله عبد الفتاح
المصريون فكهون أي يحبون روح الفكاهة. ولا أحسبني استثناء. وأجد نفسي مع أسرتي وأصدقائي أسترجع عددا من مشاهد الأفلام المصرية وأربطها ربطا مفتعلا، لكن لا يخلو من طرافة، بواقع حياتنا السياسية. وقد استرجعت عددا من مشاهد الأعمال الفنية المصرية وأنا أتذكر وقائع التعديلات الدستورية الأخيرة وردود أفعال قطاع من المصريين بشأنها.
وأول هذه المشاهد كانت لأنور وجدي حينما كان يشتري من البقال قطعة جبنة ثم قطعة من الحلاوة ويعطي للبقال قطعة الحلاوة ثمنا للجبنة فيسأله البقال فين الفلوس؟ فيقول أنور وجدي، فلوس إيه؟ فيقول له فلوس الجبنة؟ ويرد أنور وجدي، ما أنا أعطيتك الحلاوة مكان الجبنة!! فيقول البقال، هو إنت كنت دفعت فلوس الحلاوة؟ فيرد أنور وجدي، هل أنا أخذت الحلاوة؟ تذكرت هذا المشهد، وانا أستمع لبعض خبراء الحزب الوطني الذين قالوا إن التعديلات أعادت التوازن بين مجلس الشعب والحكومة. كيف؟ لأنها أعطت مجلس الشعب الحق في طرح الثقة من الحكومة. لكن نحن نعلم أنها أيضا أعطت لرئيس الجمهورية الحق في حل المجلس دون استفتاء من انتخبوه، وهو الشعب. وكأن الرسالة هي: لو حل مجلس الشعب، المنتخب من الشعب، الحكومة المعينة من رئيس الجمهورية، فإن رئيس الجمهورية سوف يحل مجلس الشعب المنتخب من الشعب. ولا ضير فالشعب لم يأخذ الجبنة ولكنه دفع ثمن الحلاوة.
وكذا نجاح الموجي في فيلم "زيارة السيد الرئيس" الذي كان يقوم فيه بدور حلاق القرية. وكان بعد أن يحلق ذقن الفلاحين الغلابة يضع في يده بعضا من الماء ويقوم بوضعها على ذقن الزبون، كما لو أنها كولونيا ويخرج من فمه صوتا من قبيل (هااااا) وكأن الكولونيا قد بلغت من وجه الزبون مبلغا يؤدي إلى الشعور بالألم، فينتفض الزبون وكأن هناك كولونيا فعلا في مشهد كوميدي لا يخلو من مبالغة من قبل الحلاق والزبون، الأول بكمية "الكولونيا" السخية التي يضعها على وجه الزبون والثاني نتيجة ارتياحه لأن وجهه قد أخذ نصيبا وافرا من "الكولونيا".
لو تخيلنا الحزب الوطني هو الحلاق، والشعب المصري هو الزبون المنتفض من فيض الديمقراطية، عفوا الكولونيا، ألا يكون ذلك تشبيها لطيفا؟ ربما...
وأنتقل الآن إلى إسماعيل ياسين، وهو إجمالا لا يضحكني، لكن له مشهد لطيف إذ كان يمر على أحد المجانين في فيلم "إسماعيل ياسين في مستشفي المجانين" وكان الرجل الذي يضع أذنه على الحائط منهمكا في الاستماع إلى حوار هام وحين مر عليه إسماعيل ياسين وأحدث شيئا من الضوضاء، كعادته، زجره المنصت وعنفه قائلا "هوسسس، إسمع..." فأخذ إسماعيل ياسين الموضوع بجدية وأنصت مهتما لما قد ينقله له الحائط من أصوات، وبعد لحظات قال له "إيه ده، أنا مش سامع حاجة!!"، فقال الرجل بجدية لا تنطلق إلا من واع بما يقول: "ما هو ده اللي مجنني!!"
ويبدو موقع الكثيرين من المواطنين المصريين من التعديلات الدستورية الأخيرة كموقع إسماعيل ياسين الذي دعي إلى الانصات وبعدما أنصت باهتمام اكتشف "لا شيء" وحينما تعجب وجد نفسه بلا قضية. ولسان حال الكثيرين من المصريين يقول ما هو ده اللي مجننا!!
وأتذكر كذلك مشهد عبد السلام النابولسي بعد أن وقع على رأسه طبق الملوخية من زينات صدقي في فيلم شارع الحب بعد أن أكثر من الدعاء: "ابسطها يا باسط"، فكان قوله بعد الطبق الشهي على رأسه: "ما تبسطهاش أكثر من كده." فأجد نفسي، وبكل سخرية وأذى، ألمح المعارضة التي كانت تدعو لتعديل الدستور تقول بعد أن تم تعديله وبنفس نزعة الأسى في صوت عبد السلام النابلسي وهو يرفع يده اليمنى قائلا: "بس ما تعدلهوش أكثر من كده."
ولعبد الفتاح القصري نصيب وهو يشير إلى "عنكب" تلك الخلطة الغريبة من الشومة والشاكوش والذي سأله عنه نجيب الريحاني فقال له ده من مخلفات الوالد الله يرحمه، ثم سأله عن مطرقة ضخمة فقال له بصوته الأجش وعينيه الجاحظتين، هذه الحاجة زهرة. فسأله نجيب الريحاني ودي من مخلفات مين؟ فقال له: لأ، دي من منشآتي أنا.
ويبدو الأمر مثيرا للتأمل والدولة تقول إنها ورثت حالة الطواريء عن عهود سابقة، فهي ليست مسؤولة عنها، كما ورث عبد الفتاح القصري عنكب، ولكنها استحدثت معها قانون الإرهاب، كما استحدث صاحبنا الحاجة زهرة. وفي ظل التركيبة الحالية والمتوقعة لمجلس الشعب ما أسهل أن تعلن الدولة حالة الطواريء في ظل وجود قانون الإرهاب أيضا. وهنا يكون السؤال: إذا كانت الدولة تريد أن تحمي المجتمع من إرهاب الخارجين على القانون، لكن من الذي يحمي المجتمع من إرهاب بعض القائمين على تنفيذ القانون مع يقيننا بأنهم قلة، لاسيما مع وجود أحكام قضائية كثيرة لا تنفذ، ومجلس شعب لا يستطيع طرح الثقة بالحكومة حتى لا يحله الرئيس؟
ويحضرني عادل إمام في مسرحية الزعيم وهو يوضح أهمية حضور "علي هابالو" إلى حفل رئاسي هام. ويرى عادل إمام في المسرحية أن علي هابالو شخصية مهمة بحكم أنه بطل العالم في اللعب في المناخير، على حد قوله، لأنه وضع إيده في مناخيره فجاب مخه من جوه، لكن الواد الروسي غلبه، حط إيده في مناخيره فجاب الغسيل من فوق السطوح!! هكذا يبالغ عادل إمام في أهمية هذه الشخصية "الأسطورية من الدرجة الثالثة" كما يصفها.
والحقيقة أنني كنت أخشى أن يلعب الواد الروسي لعبته في مصر، بأن يعلن أن نسبة الحضور إلى الاستفتاء 90% ونسبة من قالوا نعم 95% مثلا على نمط ما فعل صدام حسين حينما جاب الغسيل من فوق السطوح بأن جعل نتيجة آخر استفتاء 100% حضورا و100% صوتوا بنعم لبقائه في السلطة. أي أن أحدا من المواطنين العراقيين لم يصب بأي عائق يمنعه عن المشاركة في يوم الاستفتاء ولا يوجد بينهم شخص واحد له وجهة نظر معارضة.
ولمحمد صبحي نصيبه من الكوميديا في مسرحية تخاريف التي تنفع في التندر على واقعنا السياسي المثير للتأمل حين قرر أن يطبق "الرأسماكية" وهي خلطة من الاشتراكية والرأسمالية يعمل بموجبها الجميع عند الحكومة، والحكومة "تلم الفلوس"، وحين وجد قنبلة مشتعلة في الدرج صرخ قائلا: "ارميها على الشعب" وحين طلب "ابن الشعب" أن يتحدث إلى الناس في المايكروفون فرفض الديكتاتور إعطاءه إياه قائلا: "عايز المايكروفون علشان تفكه وتبيعه." وقد خاف التليفزيون الرسمي في مصر من أن يستضيف أيا من المعارضين للاستفتاء على أي من قنواته خلال الأيام الستة بين موافقة مجلس الشعب على التعديلات وبين الاستفتاء بل ووجه ضيوف التليفزيون الرسمي للمعارضين فيضا من الاتهامات بالتخاذل والإرهاب الفكري وعدم احترام الديمقراطية وغيرها دون أن يعطوا للمعارضين المايكرفون حتى لا يفكوه ويبيعوه، والله أعلم باللي في ضميرهم أثناء تعاملهم مع أبناء "الشششعب". وهو استمرار لحقيقة أن الحزب الوطني يخشى من أن يكون للأحزاب الأخرى قنواتها التليفزيونية والإذاعية حتى لا يكون للمعارضة فرصة في إفساد عقول الناس في ظل سيطرة الثقافة السمعية والبصرية على مجتمع ليس مشهودا له بعشق القراءة.
ولمحمد صبحي في شخصية عم أيوب عبرة لفهم الواقع المصري. فالرجل الذي يبدو بطيئا جدا لدرجة الملل في مشيه يدعوه الناس لكي يسرع في المشي، فيقول لهم بوضوح إن عملية المشي مستمرة من أول لحظة دخل فيها المسرح لكنه "يمشي في الجزمة الأول". وفجأة يهرول عم أيوب وكأن تباطاؤه السابق لم يكن لأي سبب واضح. وهكذا وجدت مصر نفسها في حالة انتظار تعديلات دستورية لسنوات طويلة وحينما تأتي التعديلات، تناقش في مجلس الشعب في أقل من يومين ويتم التصويت عليها خلال ستة أيام. ويخرج علينا من يقول إن التعديلات كانت بتناقش من زماااااااااان بس إحنا اللي ما كناش واخدين بالنا، وأترينا كنا بنمشي في الجزمة الأول.
وقد كانت قمة الإذعان حين ذهب العديد من المصريين إلى صناديق الاستفتاء وهم لا يعرفون على ماذا يُستفتون وكانت تُعطى لبعضهم، كما سجلت كاميرات التليفزيون، الورقة فيها الإجابة بنعم وفقا لنظرية الوفاء الثوري التي قال بها عادل إمام في مسرحية الزعيم. ولكن قمة الملهاة حين علقت إحدى المواطنات على مشاركتها في الاستفتاء بأنها قالت: "نعم للتعديلات، يمكن يرخصوا العيش". وكأنها تقول لهم: أنا ما عنديش تليفون لكنني سأدفع الفاتورة خوفا من أن يشيلوا العدة، وفقا لنظرية المواطن الأرنب الذي جسدته شخصية البطل في "شاهد ماشفش حاجة."
وهناك كذلك المواطن "أبو العريف" الذي يفتي في أي شيء وكل شيء مادام ضامنا أنه يحقق مكسبا ما، كأن يعتقد فيه أقرانه أو المحيطون به أنه ممن أوتوا جوامع الكلم. فتجد بعض الذين سُئلوا عن التعديلات الدستورية يبذلون مجهودا كبيرا في تبرير لماذا ذهبوا، ومن الواضح أنهم أجبروا على ذلك، أو لماذا لم يذهبوا ومن الممكن أن نجيب الإجابة البسيطة التي يقول بها كل ذي عقل: "لا أدري." وهو ما يذكرني بالحوار الطريف بين جورج سيدهم وسمير غانم في مسرحية المتزوجون بشأن الفراولة. فيسأل جورج: هل أكلت الفراولة؟ وكان يمكن أن يرد سمير ببساطة: لأ. ولكنه قال: مش البتاعة الحمرة الصغيرة دي؟ دي مقلب... اسمع كلامي دي مقلب... كلها نوى (أي فيها نواة مثل البلح). وهي إجابة مضحكة لكنها كاشفة عن أن بعضنا لا يكتفي بجهله ولكنه يجتهد في نشره على الآخرين. والمشكلة هنا أن هذه النزعة للرغي بلا أساس تضيع قيمة العلم والمعرفة والاطلاع من باب "أهو كله كلام!" و"حد عارف حاجة؟"
ورغما عن أنها ليست كوميدية لكنها مثيرة للتأمل تلك الأبيات التي قالها فؤاد نجم عن الشعب المصري، "فاهمين وبنتغابى... خيخة لا ناب ولا فم." وكان ذلك في قصيدته المشهورة "غابة". وهي نظرية متكاملة في عدة أسطر. المصريون ليسوا أغبياء، حتى لو قابلنا بعض غير المبالين والمتواكلين أو المبالغين في الاستخفاف بمشاعر ومصالح الآخرين، لكنهم يختارون أن يتصرفوا بغباء مصطنع كوسيلة للدفاع عن النفس أو لتحقيق مصالح غير مبررة. لماذا؟ لأنهم خيخة لا ناب ولا فم، أي بلا قدرة على التغيير الفعلي، ألفوا الكسل واعتادوا اللامبالاة وأصبح جزءا من شخصية المصري أن يتكيف مع واقعه، لكنه لا ينسى أن يلعنه.
فالموظف الذي يرفض إعطاء المواطن حقه إلا بعد دفع "الشاي" أي الرشوة المحرمة شرعا ليس غبيا لكنه من الممكن أن يتصرف بغباء وظيفي (أي له وظيفة مباشرة) كي يعطل مصالح المواطنين من قبيل الحاجة إلى طابع أو أن الختم غير واضح أو هات شهادة تثبت أنك لم تزل حيا. أي فوضى لغوية ... المهم الزبون يدفع.
وهذا النقد ليس المقصود منه اليأس، وإنما هذه هي نقطة البداية الحقيقية في أي نهضة. وسأشير فقط إلى النقد الحاد الذي وجهه مهاتير محمد لمسلمي ماليزيا لتكاسلهم وتواضع أدائهم المهني والعلمي مقارنة بالأقليات الأخرى في ماليزيا. وقد يكون هذا موضوعا لمقالات قادمة إن شاء الله.
وفي آخر مسرحية الزعيم، أبيات شعر غير كوميدية لكنها ذات دلالة هامة... حيث يقول جمع الناس لزينهم، الزعيم الجديد: إنت الفارس، إنت الحارس، إنت مفجر ثورة مارس، ابني لنا مستشتفيات ومدارس... وقول للعفاريت حابس حابس. فيرفض زينهم ويرد بلسان من وعي الدرس: لأ لأ، تاني هانبدأ، الشعب اللي مصيره في إيده هو الفارس هو الحارس... الأحلام مش عاوزة فوارس... الأحلام بالناس تتحقق. نعم، الأحلام بالناس تتحقق.
وأختم هذه النكتة الطويلة بمقولة نجاح الموجي في إحدى المسلسلات حيث كان يعمل سباكا، وكان يختم كل حوراته بهز كتفيه ثم يقول: "هاتسلك... هاتسلك" وهي نظرة تفاؤلية تذكرنا بأنه طالما أن الماسورة الأم في مصر مسدودة فإن شاء الله هاتسلك...
هل نحن نضحك فرحا؟ لا، ولكنه كضحك من لا يريد البكاء. وكما قال الشاعر:
لا تحسبن أني أرقص فرحا *** فالطير يرقص مذبوحا من الألم
أخيرا أقول: اضحكوا حتى نتجنب الموت... وفكروا حتى نجد الحل ... وشاركوا حتى لا نفقد الأمل...
Subscribe to:
Post Comments (Atom)
No comments:
Post a Comment