Wednesday, October 24, 2007

التعايش مع القمامة‏

بقلم سلامة أحمد سلامة

تطلب بعض السفارات والهيئات الأجنبية من موظفيها في القاهرة‏,‏ الالتزام بقضاء أجازة آخر الأسبوع أو كلما سنحت الظروف خارج المحروسة التي لم تعد محروسة‏,‏ بعيدا عن التلوث والهواء الفاسد والقذارة التي تقلل من قدرتهم علي العمل‏,‏ وتختصم من أعمارهم‏,‏ وتعوضهم دولهم عادة بزيادات معقولة في مرتباتهم لقاء مخاطر الخدمة في مصر‏.‏

وما يفعله الأجانب المقيمون في هذا البلد‏,‏ يفعله أيضا كبار المسئولين والأثرياء من الطبقات العليا‏,‏ بعد أن أصبحت القاهرة من أسوأ الأماكن الصالحة للسكني في العالم‏,‏ خاصة بعد أن تحولت شوارعها وضواحيها إلي مقالب للقمامة‏,‏ تولد عشرات الآلاف من الأطنان من المخلفات الصلبة والسائلة‏,‏ والتي تظل ملقاة علي قارعة الطريق أياما وأسابيع طبعا باستثناء بعض المستوطنات المغلقة علي اصحابها ولا تعرف هيئات النظافة التابعة للدولة‏,‏ والتي عادة ما تتقاضي مبالغ طائلة‏(9‏ جنيهات في المتوسط عن كل وحدة‏)‏ وسيلة أخري لرفع القمامة إلا بالطرق اليدوية العشوائية‏...‏ ثم تسرح عمالها للتسول بعد ذلك‏!!‏

ومنذ نحو عشرين سنة صدرت قوانين للبيئة ثم انشئت وزارة للبيئة‏,‏ ولكن ذلك لم يغير شيئا في حياة المصريين‏,‏ فمازالت مخلفات المصانع ومياه المجاري تتدفق في نهر النيل وتختلط بمياه الشرب‏,‏ ومازالت المسابك والورش تتزاحم في شوارع العاصمة‏,‏ ومازالت السحابة السوداء تخنق أنفاس الملايين كل مساء‏,‏ ويتكرر الحديث عن حرق قش الأرز وتقديم المزارعين لمحاكمات صورية‏,‏ دون أن تهيئ لهم السلطات أية بدائل فنية وعلمية لتدويره وتصنيعه كما تفعل سائر دول العالم‏,‏ ومازالت عشرات البعثات تذهب إلي المؤتمرات الدولية في اليابان وألمانيا والصين وغيرها للاستفادة من التكنولوجيا الجديدة في معالجة المخلفات والتخلص منها دون جدوي‏,‏ ومازالت المنح والمعونات تهبط علي مصر بالملايين للحفاظ علي البيئة أيضا دون جدوي‏.‏

ولم تعد المشكلة مقصورة علي ذلك‏,‏ فقد أدي الإهمال الشديد في توعية الناس والتخلف المعيب في تطبيق الأساليب الحديثة لجمع القمامة وتدويرها والتخلص منها إلي تفاقم ظاهرة انتشار الفئران والجرذان والحشرات والهوام من الناموس إلي الذباب‏,‏ ويكفي أن نعلم طبقا لدراسات موثقة أن شوارع وبيوت القاهرة يمرح فيها أكثر من‏100‏ مليون فأر‏,‏ أي بمعدل خمسة أو ستة فئران لكل مواطن‏,‏ يشاركون المصريين أرزاقهم ويستهلكون‏30%‏ من إنتاج الغذاء‏.‏

ما لم يهتم به أحد هو أن نوعية الحياة في مصر تدهورت بدرجة مخيفة‏,‏ رغم ما تحقق خلال السنوات الأخيرة من زيادة الدخل القومي ومعدلات الإنتاج والاستثمار‏,‏ بل أصبحت مشكلة كل مصري هي أن يجد الطريقة المثلي للتعايش والتكيف مع مصادر التلوث‏,‏ وسوء التهوية والتغذية والضوضاء وانتشار التسول وعدم الاكثرات بالنظافة داخل البيت وخارجه‏.‏

ويبدو أن مفهوم التكيف هنا هو التعود علي مداومة النظر إلي القبح‏,‏ والقدرة علي العيش جنبا الي جنب مع ما يلفظه الشارع من مخلفات وما تلقيه البيوت من قمامات‏,‏ وما يسلطه عليك جيرانك من إزعاج وضوضاء‏...‏ فلا تشتبك مع أحد‏,‏ ولا تشكو من مخالفة أو قذارة‏,‏ لأنك تعلم أنه لا جدوي ولا فائدة‏,‏ ولا من سميع أو مجيب‏....‏ وهي الدرجة التي تصبح ذهنية التعايش مع التلوث والقمامة وانعدام النظافة جزءا من التراث أو جزءا من الحالة النفسية لشعب بأكمله‏..‏ وهذه هي القضية الحقيقية في حماية البيئة‏.‏

No comments: