د. إبراهيم السايح
لا أحد في مصر أو خارجها يهتم بقياس درجة «الجبلنة» لدي أي شخص يقبل التواجد كوزير أو مسئول سياسي أو رئيس وزراء في دولة الرئيس حسني مبارك، فالسيد الرئيس سالف الذكر اعتاد طوال عهده ـ أو عهوده ـ عدم احترام السادة الوزراء والسادة رؤساء الحكومات كلما اتخذ أحدهم قراراً دون الرجوع إليه، وأحياناً يطيح سيادته
بقرارات اتخذوها تقرباً منه ونفاقاً له ولنظامه.رئيس الوزراء كمال الجنزوري ذهب إلي غير رجعة حين حاول ممارسة بعض اختصاصات منصبه دون الاسترشاد المباشر والصريح والمعلن بتوجيهات وأوامر السيد الرئيس السيد وزير العدل الحالي قام الرئيس بإلغاء بعض القرارات التي اتخذها تنكيلاً بالقضاة لصالح النظام!!
السيد وزير الزراعة السابق تمت إقالته لأنه حاول تنفيذ بعض السياسات التي تحقق مصالح الدولة والشعب علي حساب التوجهات الاستراتيجية لنظام حسني مبارك.السيد وزير التموين الأسبق أطاح به الرئيس لأنه كان يبدو منحازاً للفقراء حريصاً علي دعمهم ولو علي حساب إخوانه وأسياده المستثمرين والمحتكرين.السيد وزير المالية الأسبق لفقوا له قضية وسجنوه لأنه لم يكن متعاوناً مع الكبار وأصحاب الشأن بالقدر المطلوب.
السيد وزير الزراعة الحالي اتهمه الرئيس بالجهل والفشل ورغم هذا لم نسمع عن إقالته أو استقالته.والسيد رئيس الحكومة الحالي أعلن منذ عدة أيام أن حكومته سوف تنشئ عاصمة بديلة للقاهرة ثم أعلن الرئيس في اليوم التالي أن هذا الكلام غير صحيح وأن الحكومة مكلفة حالياً «بمشروع» العدل الاجتماعي دون سواه!!
لم تحدث طوال عهد الرئيس مبارك حالة غضب أو استقالة من جانب أي وزير أو مسئول ممن تعرضوا لإهانات معلنة من السيد الرئيس ولم يجرؤ مسئول واحد ـ باستثناء الدكتور يحيي الجمل ـ علي إعلان خلافه أو اختلافه مع الرئيس حتي بعد الإقالة والخروج النهائي من خدمة النظام.التعاون مع النظام المصري في عهد الرئيس مبارك يتطلب عقداً اجتماعياً فريداً يتنازل المسئول بمقتضاه عن شخصيته ومبادئه وأفكاره ورؤيته وجانب كبير من حريته وكرامته لصالح النظام. والمشكلة أن النظام المصري ليس الرئيس وحده، ولكنه يشمل إلي جانب الرئيس جهات سيادية أخري مثل الديوان الرئاسي والجهات الرقابية والأمنية والسياسية المتصلة مباشرة برئاسة الجمهورية، فضلاً عن الصحف القومية التي تخاطب الرئيس وأجهزته علي حساب أي شخص أو أي شيء آخر، هذا إلي جانب السادة كبار المستثمرين والسادة كبار السفراء والسادة كبار العائلة!!
وفي مثل هذه الأجواء عليك ـ أخي المواطن الكحيان ـ أن تقبل يديك وقدميك وتسجد شكراً لله لأنك خارج حسابات القصر الجمهوري، فالمواجهة مع ضابط أو أمين شرطة أهون بكثير من مواجهة أنصاف الآلهة!!
Monday, November 26, 2007
Saturday, November 24, 2007
كله دردشة وكلام
د.طارق الغزالى حرب
منذ ما يقرب من عشرين عاماً، والشعب المصري يطالع ويسمع يومياً تعبيرات ضخمة كبيرة وتنويهات عن خطط وعن برامج ودراسات في جميع أوجه الحياة علي أرض المحروسة.. في السياسة والاقتصاد والتعليم والصحة والنقل والمواصلات والإسكان وغيرها.. واعتمدت الحكومات المتعاقبة طوال السنين علي حالة التوهان وفقدان الذاكرة والسلبية التي أصابت الغالبية العظمي من جماهير الشعب المصري في العقود الأخيرة..
فصارت تكرر الكلام عن البرامج الطموحة والمستقبلية كل عدة سنوات حول نفس الموضوعات تقريباً ولا يلمس معظم الناس شيئاً حقيقياً علي أرض الواقع.. بل علي العكس ربما زادت أمورهم تدهوراً وانحداراً في مناح كثيرة يأتي علي رأسها التعليم بجميع أنواعه، ومعظم الخدمات وأساسيات الحياة الإنسانية السليمة كمياه الشرب والصرف الصحي والسكن والعلاج ووسائل النقل، وحظيت بالتأكيد قلة قليلة من أفراد هذا الشعب بمستوي من المعيشة والخدمات لا يقل عما تتمتع به مجتمعات الأغنياء في الغرب والشرق..
وكنت دائماً أسأل نفسي: تري ما سر عدم تنفيذ هذه الوعود البراقة والآمال العريضة التي ظل وزراؤنا المتعاقبون يشنفون بها آذاننا سنوات وسنوات ولم نر أثراً لها علي أرض الواقع، إلي أن حدث ما حدث في الأيام القليلة الماضية، ورأينا الصحف تنشر في صفحاتها الأولي بشري انتهاء حكومتنا السنية من دراساتها لإنشاء عاصمة جديدة لمصر.. تلك الأخبار التي استقبلها جميع أفراد الشعب، غنيهم وفقيرهم بقدر كبير من السعادة والارتياح، لأن الجميع يعيش يومياً حياة قاسية يندر أن يكون لها مثيل علي وجه الأرض في تلك العاصمة التي صارت بالفعل قاهرة للصحة والنظافة والجمال بل للعقل والنفس البشرية، استبشر الجميع خيراً ورأي البعض أنها ربما تكون نقطة البداية لمشروع قومي كبير يخلص الملايين من أبناء هذا الشعب المنكوبين من جحيم العيش علي أرض المحروسة..
ولكن لم تكد تمر ٤٨ ساعة حتي فاجأ الرئيس الجميع بكلمات صادقة، وجدت فيها التفسير لسؤالي، والتعبير الحقيقي عن كل ما كنا نسمعه طوال عقود مضت..
لقد قال الرئيس عما نقلته الصحف عن السيد صفوت الشريف رئيس مجلس الشوري وعما وصل إليه من دراسات أتمتها الحكومة، إنه «مجرد دردشة وكلام»!! لم أجد أصدق من هذا التعبير في وصف الوعود ومعسول الكلام الذي يتصدر عناوين صحفنا القومية وإعلامنا الحكومي مراراً وتكراراً.. لقد نقلت الصحف الحكومية منذ أسابيع قليلة أحاديث عن أحلام فئة ما في قمة السلطة حول عزمهم علي أن تكون القاهرة عاصمة الشرق وأفريقيا قبل منتصف هذا القرن..
ثم فوجئنا بأن هناك فئة أخري في قمة السلطة أيضاً تتحدث عن عاصمة جديدة!!، وأخيراً انجلت الحقيقة ناصعة بأن كله «دردشة وكلام»!! تحدثوا عن مشروع قومي للتعليم وعن أن التسعينيات ستكون «عقداً للتعليم»، وعن الإتاحة والجودة وعن.. وعن.. وليته ظل حال التعليم كما هو، بل يزداد سوءاً وانحداراً، وصرنا نجد الحاصل علي الشهادة ولا يجيد كتابة اسمه والذين يتخرجون ولا يعرفون شيئاً، وانحدرت اللغة العربية إلي الحضيض، واحتل المدرسون الخصوصيون البيوت في المدن والقري وصارت المدارس حجراً وبشراً أكذوبة كبري نخادع بها أنفسنا.. فأدركت بعد كلمات الرئيس أن ما كنا نسمعه طوال عشرين عاماً مضت لم يكن أكثر من «دردشة وكلام»!!
إن الأمثلة كثيرة وأكثر من أن تعد وتحصي، ولكني اخترت مجال التعليم كمثال، لأنه أساس البلوي وسرها!!، أخشي ما أخشاه أن يكون الحديث الذي ذاع صيته منذ عام مضي عن دخول عصر الطاقة النووية هو من قبيل هذه الدردشة، وأن يكون كذلك الحديث عن قانون جديد للتأمين الصحي يغطي أبناء الوطن كلهم، غنيهم وفقيرهم.. لأن بصراحة شديدة هذه المشروعات الكبيرة تحتاج لتمويل ضخم، ولجهد وتضحيات، لا يقدر عليها النظام الحالي.. فطموحاته مازالت - وبعد أكثر من نصف قرن من قيام ثورة يوليو - لا تزيد علي تحقيق العدالة الاجتماعية ومكافحة الفقر والجهل والمرض!! بالله عليكم ألم تكن هذه هي طموحاتنا في السنوات السابقة للثورة بالإضافة إلي تحقيق الاستقلال التام.. يا إلهي.. أكثر من نصف قرن ومازالت طموحاتنا وآمالنا عند الحد الأدني!! ليرحمنا الله..
منذ ما يقرب من عشرين عاماً، والشعب المصري يطالع ويسمع يومياً تعبيرات ضخمة كبيرة وتنويهات عن خطط وعن برامج ودراسات في جميع أوجه الحياة علي أرض المحروسة.. في السياسة والاقتصاد والتعليم والصحة والنقل والمواصلات والإسكان وغيرها.. واعتمدت الحكومات المتعاقبة طوال السنين علي حالة التوهان وفقدان الذاكرة والسلبية التي أصابت الغالبية العظمي من جماهير الشعب المصري في العقود الأخيرة..
فصارت تكرر الكلام عن البرامج الطموحة والمستقبلية كل عدة سنوات حول نفس الموضوعات تقريباً ولا يلمس معظم الناس شيئاً حقيقياً علي أرض الواقع.. بل علي العكس ربما زادت أمورهم تدهوراً وانحداراً في مناح كثيرة يأتي علي رأسها التعليم بجميع أنواعه، ومعظم الخدمات وأساسيات الحياة الإنسانية السليمة كمياه الشرب والصرف الصحي والسكن والعلاج ووسائل النقل، وحظيت بالتأكيد قلة قليلة من أفراد هذا الشعب بمستوي من المعيشة والخدمات لا يقل عما تتمتع به مجتمعات الأغنياء في الغرب والشرق..
وكنت دائماً أسأل نفسي: تري ما سر عدم تنفيذ هذه الوعود البراقة والآمال العريضة التي ظل وزراؤنا المتعاقبون يشنفون بها آذاننا سنوات وسنوات ولم نر أثراً لها علي أرض الواقع، إلي أن حدث ما حدث في الأيام القليلة الماضية، ورأينا الصحف تنشر في صفحاتها الأولي بشري انتهاء حكومتنا السنية من دراساتها لإنشاء عاصمة جديدة لمصر.. تلك الأخبار التي استقبلها جميع أفراد الشعب، غنيهم وفقيرهم بقدر كبير من السعادة والارتياح، لأن الجميع يعيش يومياً حياة قاسية يندر أن يكون لها مثيل علي وجه الأرض في تلك العاصمة التي صارت بالفعل قاهرة للصحة والنظافة والجمال بل للعقل والنفس البشرية، استبشر الجميع خيراً ورأي البعض أنها ربما تكون نقطة البداية لمشروع قومي كبير يخلص الملايين من أبناء هذا الشعب المنكوبين من جحيم العيش علي أرض المحروسة..
ولكن لم تكد تمر ٤٨ ساعة حتي فاجأ الرئيس الجميع بكلمات صادقة، وجدت فيها التفسير لسؤالي، والتعبير الحقيقي عن كل ما كنا نسمعه طوال عقود مضت..
لقد قال الرئيس عما نقلته الصحف عن السيد صفوت الشريف رئيس مجلس الشوري وعما وصل إليه من دراسات أتمتها الحكومة، إنه «مجرد دردشة وكلام»!! لم أجد أصدق من هذا التعبير في وصف الوعود ومعسول الكلام الذي يتصدر عناوين صحفنا القومية وإعلامنا الحكومي مراراً وتكراراً.. لقد نقلت الصحف الحكومية منذ أسابيع قليلة أحاديث عن أحلام فئة ما في قمة السلطة حول عزمهم علي أن تكون القاهرة عاصمة الشرق وأفريقيا قبل منتصف هذا القرن..
ثم فوجئنا بأن هناك فئة أخري في قمة السلطة أيضاً تتحدث عن عاصمة جديدة!!، وأخيراً انجلت الحقيقة ناصعة بأن كله «دردشة وكلام»!! تحدثوا عن مشروع قومي للتعليم وعن أن التسعينيات ستكون «عقداً للتعليم»، وعن الإتاحة والجودة وعن.. وعن.. وليته ظل حال التعليم كما هو، بل يزداد سوءاً وانحداراً، وصرنا نجد الحاصل علي الشهادة ولا يجيد كتابة اسمه والذين يتخرجون ولا يعرفون شيئاً، وانحدرت اللغة العربية إلي الحضيض، واحتل المدرسون الخصوصيون البيوت في المدن والقري وصارت المدارس حجراً وبشراً أكذوبة كبري نخادع بها أنفسنا.. فأدركت بعد كلمات الرئيس أن ما كنا نسمعه طوال عشرين عاماً مضت لم يكن أكثر من «دردشة وكلام»!!
إن الأمثلة كثيرة وأكثر من أن تعد وتحصي، ولكني اخترت مجال التعليم كمثال، لأنه أساس البلوي وسرها!!، أخشي ما أخشاه أن يكون الحديث الذي ذاع صيته منذ عام مضي عن دخول عصر الطاقة النووية هو من قبيل هذه الدردشة، وأن يكون كذلك الحديث عن قانون جديد للتأمين الصحي يغطي أبناء الوطن كلهم، غنيهم وفقيرهم.. لأن بصراحة شديدة هذه المشروعات الكبيرة تحتاج لتمويل ضخم، ولجهد وتضحيات، لا يقدر عليها النظام الحالي.. فطموحاته مازالت - وبعد أكثر من نصف قرن من قيام ثورة يوليو - لا تزيد علي تحقيق العدالة الاجتماعية ومكافحة الفقر والجهل والمرض!! بالله عليكم ألم تكن هذه هي طموحاتنا في السنوات السابقة للثورة بالإضافة إلي تحقيق الاستقلال التام.. يا إلهي.. أكثر من نصف قرن ومازالت طموحاتنا وآمالنا عند الحد الأدني!! ليرحمنا الله..
Friday, November 23, 2007
نصائح الرئيس مبارك ثمينة
د. محمد السيد سعيد
يجتمع الرؤساء والملوك العرب كثيرا ويصغون لنصائح الرئيس مبارك ويذهبون لحال سبيلهم ولا يفعلون شيئا حيال أزماتهم وعلاقاتهم الدولية المضطربة. وتصغر مصر في عيونهم علي نحو متواصل لأنهم لا يحصلون منها إلا علي النصائح كلما توقعوا منها قيادة حقيقية للعرب وسط عواصف السياسة الدولية.
ولابد أن نعترف بأن نصائح الرئيس مبارك ثمينة جدا. ومشكلتها الوحيدة أن السياسة الخارجية لا تتحرك بالنصائح وحدها. بل يجب أن يكون وراءها رؤية وقيم كبري وقوة حقيقية تساند أهداف السياسة الخارجية. وفي العالم العربي لدي الجميع نصائح وأحكام ثمينة جدا أيضا.. وغايتها جميعا: لا تفعلوا شيئا وخافوا من قوة الأمريكان.وبعض إخوتنا العرب يحبون نصائح الرئيس مبارك كثيرا لأنهم يخشون طائرات الأمريكان أو يحبون دولاراتهم.
والحمد لله أن بعض إخوتنا العرب لم يصغوا للنصائح الثمينة للرئيس مبارك وناضلوا ضد الظلم الأمريكي بقدر ما تسعفهم الإمكانيات. فحزب الله ألحق بإسرائيل الهزيمة الوحيدة التي تلقتها في حروبها ضد العرب حتي الآن. وإخوتنا العراقيون يلحقون بقوات الغزو الأمريكية خسائر يومية فادحة لن تضطرهم للانسحاب يوما ما فحسب بل قد تجبرهم علي إعادة صوغ سياساتهم الدولية المغرورة والعدوانية، ورغم أن الانتفاضة الفلسطينية هبطت قليلا بسبب تخلي العرب عنها فهي تثبت قدرة الشعب الفلسطيني علي النضال الشاق لمئات الأعوام.
وببساطة لم يصغ جميع العرب لنصائح الرئيس مبارك التي تنضح بالسلبية وتعترف بالعجز عن التأثير علي مجري السياسة الدولية وتشكك في المقاومة وتنتظر الفرج من أمريكان "عاقلين" يؤمنون بنصائح الرئيس مبارك!وفي حدود علمنا لم يتوافر هؤلاء الأمريكان بعد بأعداد كافية في مواقع اتخاذ القرار. فالكونجرس بأسره يؤيد إسرائيل تأييدا أعمي وأبرص وأكتع. والإدارة الديمقراطية المقبلة قد لا تكون أفضل كثيرا من الإدارة الجمهورية الحالية، والإعلام بقيادة "فوكس نيوز" يكن احتقارا شديدا للعرب. باختصار ليست هناك فرصة كبيرة في أن يستمع الأمريكان لنصائح الرئيس مبارك، ولا يهمهم سوي الحسابات المادية لموازين القوي.
ومشكلة السياسة الخارجية المصرية أنها ليس لديها موارد قوة تحولها من نصائح ورغبات إلي ضغوط ونضالات.
يجتمع الرؤساء والملوك العرب كثيرا ويصغون لنصائح الرئيس مبارك ويذهبون لحال سبيلهم ولا يفعلون شيئا حيال أزماتهم وعلاقاتهم الدولية المضطربة. وتصغر مصر في عيونهم علي نحو متواصل لأنهم لا يحصلون منها إلا علي النصائح كلما توقعوا منها قيادة حقيقية للعرب وسط عواصف السياسة الدولية.
ولابد أن نعترف بأن نصائح الرئيس مبارك ثمينة جدا. ومشكلتها الوحيدة أن السياسة الخارجية لا تتحرك بالنصائح وحدها. بل يجب أن يكون وراءها رؤية وقيم كبري وقوة حقيقية تساند أهداف السياسة الخارجية. وفي العالم العربي لدي الجميع نصائح وأحكام ثمينة جدا أيضا.. وغايتها جميعا: لا تفعلوا شيئا وخافوا من قوة الأمريكان.وبعض إخوتنا العرب يحبون نصائح الرئيس مبارك كثيرا لأنهم يخشون طائرات الأمريكان أو يحبون دولاراتهم.
والحمد لله أن بعض إخوتنا العرب لم يصغوا للنصائح الثمينة للرئيس مبارك وناضلوا ضد الظلم الأمريكي بقدر ما تسعفهم الإمكانيات. فحزب الله ألحق بإسرائيل الهزيمة الوحيدة التي تلقتها في حروبها ضد العرب حتي الآن. وإخوتنا العراقيون يلحقون بقوات الغزو الأمريكية خسائر يومية فادحة لن تضطرهم للانسحاب يوما ما فحسب بل قد تجبرهم علي إعادة صوغ سياساتهم الدولية المغرورة والعدوانية، ورغم أن الانتفاضة الفلسطينية هبطت قليلا بسبب تخلي العرب عنها فهي تثبت قدرة الشعب الفلسطيني علي النضال الشاق لمئات الأعوام.
وببساطة لم يصغ جميع العرب لنصائح الرئيس مبارك التي تنضح بالسلبية وتعترف بالعجز عن التأثير علي مجري السياسة الدولية وتشكك في المقاومة وتنتظر الفرج من أمريكان "عاقلين" يؤمنون بنصائح الرئيس مبارك!وفي حدود علمنا لم يتوافر هؤلاء الأمريكان بعد بأعداد كافية في مواقع اتخاذ القرار. فالكونجرس بأسره يؤيد إسرائيل تأييدا أعمي وأبرص وأكتع. والإدارة الديمقراطية المقبلة قد لا تكون أفضل كثيرا من الإدارة الجمهورية الحالية، والإعلام بقيادة "فوكس نيوز" يكن احتقارا شديدا للعرب. باختصار ليست هناك فرصة كبيرة في أن يستمع الأمريكان لنصائح الرئيس مبارك، ولا يهمهم سوي الحسابات المادية لموازين القوي.
ومشكلة السياسة الخارجية المصرية أنها ليس لديها موارد قوة تحولها من نصائح ورغبات إلي ضغوط ونضالات.
عزف منفرد علي أوتار وطن
مفيد فوزي
ـ هل نكتب لنسلي الناس أم لنملأ مساحات في الصحف أم لنعبر عن أنفسنا؟ وهل للكتابة جدوي؟ وهل مازال الناس يقرأون أم انصرفوا الي ما هو أكثر ابهارا.. من الحروف والكلمات؟ وهل يقرأ أولو الأمر ما نكتب اذا مس وترا في المجتمع؟ وهل بإمكان مقال اسقاط حكومة؟! ومتي نلصق تهمة( التقصير) لمسئول؟
ـ لماذا المجتمع في حالة تربص كل للآخر؟ لماذا النجاح متهم؟ لماذا الكراهية قبل الحب دائما؟ لماذا شهوة التنكيل بآخر؟ لماذا الود مشبوه؟ لماذا الصدق كاذب؟ لماذا لقمة العيش تذل أعناق الرجال؟ لماذا الأنانية تعشش في الصدور؟ لماذا نصافح بحذر ونصادق بحذر ونثق بحذر...؟!
ـ لماذا ندس أنوفنا في شئون الآخر؟ لماذا أحكامنا جزافية علي الناس؟ لماذا ذاكرتنا ضعيفة أمام الحسنات ويقظة للسيئات؟ لماذا صار جيراني في حالهم وأنا في حالي؟ لماذا الترابط الأسري تفكك, والتكافل الاجتماعي تصدع, واحترام الكبير تعثر؟ لماذا الزيارات العائلية قلت, والمراسلات علي الورق انقطعت وزهور المودة ذبلت؟ـ أين ذهبت البساطة في المعاملات؟ أين ذهب التسامح الذي نادي به السيد المسيح؟
أين ذهبت قيم الانتماء والعتاب والصفح والعفو عند المقدرة؟ أين ذهبت دقات الباب للاستئذان في الدخول؟ أين ذهب أدب التخلي عن مقعد لحامل أو لمعوق؟ أين ذهبت فضيلة الاجتماع حول المائدة والبدء بالشكر علي هذه النعمة؟ أين ذهبت عادة نوم الأطفال في الثامنة مساء بدلا من السهر مع الكبار للثامنة صباحا؟ أين ذهب احترام الأولاد الصبيان للآباء ولا أقول أين تقبيل اليد؟ أين ذهبت الأذن المصغية من البنات للأمهات؟ هل استغنين عن نصائح الأمهات النكدية؟ أين ضاعت اللمة في البيت المصري حين كان الآباء والأمهات يعرفون ملفات أولادهم وشئونهم الخاصة؟!
ـ أين ذهب الوعي بأمور وطن؟ لماذا انحصر اهتمامنا بذواتنا فقط؟ لماذا ضعف انتماؤنا الي ما تحت الصفر؟ هل ارتبك شبابنا وفقدوا البوصلة واختلط الحابل بالنابل في تاريخنا؟ من الوطني؟ من الانتهازي؟ من الأمين؟ من المقامر؟ ومن الذي باع ومن الذي اشتري؟ هل لدينا رؤية واضحة للغد؟ هل نتحسس مستقبل أيامنا واحفادنا بثقة؟ هل الأمان لبكرة وارد؟ هل هناك قوي ملثمة تسعي للوجود؟ هل نعرف نوع المولود في بطن المجهول؟ هل كرة الأيام تتدحرج دون لجام؟ هل حصان الزمن يجري بنا ونحن مستسلمون؟ هل أيامنا القادمة أقل تعاسة؟ هل هناك فرائض غائبة في منهجنا القومي؟ هل الأيام حبلي بالمفاجآت؟ هل نملك ثقافة إدارة أزمات الوطن؟ هل تأخذنا ـ الي حد الاستغراق ـ اللحظة الآنية؟ـ
من هو المثقف؟ هل المثقف هو الذي دفع بأوراقه الي مطبعة أخرجت له كتبا تحمل اسمه؟ هل المثقف تواصل مع هموم مجتمعه أم مع همومه الخاصة؟ هل هو الذي احترف الظهور علي الشاشات يدلي برأيه في كل قضية من الخلاف الفلسطيني ـ الفلسطيني الي طفشان الشباب الي السواحل الأوروبية الي انفلونزا الطيور؟ هل أدي المثقف واجبه نحو المجتمع أم اكتفي بتدبيج مقال أو خطبة مسجوعة؟ هل المثقف هو الذي يعشق أن يكون في الصورة؟ ما دور المثقف حين يري النقابات وقد مزقتها التيارات والمذاهب؟ ما دور المثقف لحماية( الهوية) في بلده؟ بالكلام؟ بالسفر في المؤتمرات والشوبنج؟
ـ في الحياة: هل نأخذ الأشياء بسطحية تجنبا لصدمات متوقعة؟ هل لدينا القدرة علي تهميش التوافه أم هي تسكن جدران عقلنا الباطن؟ هل نقدم للمجتمع أوراق اعتمادنا بالذكاء أم بالتذكي وبالغباء أم بالتغابي؟ هل نواجه( تحولات) الأصدقاء بقبول الواقع وأي دمعة حزن لا؟! هل نقبل ـ بصدر رحب ـ مشاعر الغيرة والحسد والحقد؟ هل نمضي في مشوارنا ولا نلتفت خلفنا لنداء أو استغاثة أو استجداء ويحكمنا( اتق شر من أحسنت إليه)؟ هل نقبل بصدر رحب معادلات الحياة كما هي أم نجهد النفس في التمحيص والتحليل؟ هل يحقق( الاستغناء) قدرا من الراحة بعيدا عن مهاترات وصراعات رخيصة؟ وماذا يفيد الانسان ـ كما جاء في الانجيل ـ لو ربح العالم كله وخسر نفسه؟!
ـ هل نكتب لنسلي الناس أم لنملأ مساحات في الصحف أم لنعبر عن أنفسنا؟ وهل للكتابة جدوي؟ وهل مازال الناس يقرأون أم انصرفوا الي ما هو أكثر ابهارا.. من الحروف والكلمات؟ وهل يقرأ أولو الأمر ما نكتب اذا مس وترا في المجتمع؟ وهل بإمكان مقال اسقاط حكومة؟! ومتي نلصق تهمة( التقصير) لمسئول؟
ـ لماذا المجتمع في حالة تربص كل للآخر؟ لماذا النجاح متهم؟ لماذا الكراهية قبل الحب دائما؟ لماذا شهوة التنكيل بآخر؟ لماذا الود مشبوه؟ لماذا الصدق كاذب؟ لماذا لقمة العيش تذل أعناق الرجال؟ لماذا الأنانية تعشش في الصدور؟ لماذا نصافح بحذر ونصادق بحذر ونثق بحذر...؟!
ـ لماذا ندس أنوفنا في شئون الآخر؟ لماذا أحكامنا جزافية علي الناس؟ لماذا ذاكرتنا ضعيفة أمام الحسنات ويقظة للسيئات؟ لماذا صار جيراني في حالهم وأنا في حالي؟ لماذا الترابط الأسري تفكك, والتكافل الاجتماعي تصدع, واحترام الكبير تعثر؟ لماذا الزيارات العائلية قلت, والمراسلات علي الورق انقطعت وزهور المودة ذبلت؟ـ أين ذهبت البساطة في المعاملات؟ أين ذهب التسامح الذي نادي به السيد المسيح؟
أين ذهبت قيم الانتماء والعتاب والصفح والعفو عند المقدرة؟ أين ذهبت دقات الباب للاستئذان في الدخول؟ أين ذهب أدب التخلي عن مقعد لحامل أو لمعوق؟ أين ذهبت فضيلة الاجتماع حول المائدة والبدء بالشكر علي هذه النعمة؟ أين ذهبت عادة نوم الأطفال في الثامنة مساء بدلا من السهر مع الكبار للثامنة صباحا؟ أين ذهب احترام الأولاد الصبيان للآباء ولا أقول أين تقبيل اليد؟ أين ذهبت الأذن المصغية من البنات للأمهات؟ هل استغنين عن نصائح الأمهات النكدية؟ أين ضاعت اللمة في البيت المصري حين كان الآباء والأمهات يعرفون ملفات أولادهم وشئونهم الخاصة؟!
ـ أين ذهب الوعي بأمور وطن؟ لماذا انحصر اهتمامنا بذواتنا فقط؟ لماذا ضعف انتماؤنا الي ما تحت الصفر؟ هل ارتبك شبابنا وفقدوا البوصلة واختلط الحابل بالنابل في تاريخنا؟ من الوطني؟ من الانتهازي؟ من الأمين؟ من المقامر؟ ومن الذي باع ومن الذي اشتري؟ هل لدينا رؤية واضحة للغد؟ هل نتحسس مستقبل أيامنا واحفادنا بثقة؟ هل الأمان لبكرة وارد؟ هل هناك قوي ملثمة تسعي للوجود؟ هل نعرف نوع المولود في بطن المجهول؟ هل كرة الأيام تتدحرج دون لجام؟ هل حصان الزمن يجري بنا ونحن مستسلمون؟ هل أيامنا القادمة أقل تعاسة؟ هل هناك فرائض غائبة في منهجنا القومي؟ هل الأيام حبلي بالمفاجآت؟ هل نملك ثقافة إدارة أزمات الوطن؟ هل تأخذنا ـ الي حد الاستغراق ـ اللحظة الآنية؟ـ
من هو المثقف؟ هل المثقف هو الذي دفع بأوراقه الي مطبعة أخرجت له كتبا تحمل اسمه؟ هل المثقف تواصل مع هموم مجتمعه أم مع همومه الخاصة؟ هل هو الذي احترف الظهور علي الشاشات يدلي برأيه في كل قضية من الخلاف الفلسطيني ـ الفلسطيني الي طفشان الشباب الي السواحل الأوروبية الي انفلونزا الطيور؟ هل أدي المثقف واجبه نحو المجتمع أم اكتفي بتدبيج مقال أو خطبة مسجوعة؟ هل المثقف هو الذي يعشق أن يكون في الصورة؟ ما دور المثقف حين يري النقابات وقد مزقتها التيارات والمذاهب؟ ما دور المثقف لحماية( الهوية) في بلده؟ بالكلام؟ بالسفر في المؤتمرات والشوبنج؟
ـ في الحياة: هل نأخذ الأشياء بسطحية تجنبا لصدمات متوقعة؟ هل لدينا القدرة علي تهميش التوافه أم هي تسكن جدران عقلنا الباطن؟ هل نقدم للمجتمع أوراق اعتمادنا بالذكاء أم بالتذكي وبالغباء أم بالتغابي؟ هل نواجه( تحولات) الأصدقاء بقبول الواقع وأي دمعة حزن لا؟! هل نقبل ـ بصدر رحب ـ مشاعر الغيرة والحسد والحقد؟ هل نمضي في مشوارنا ولا نلتفت خلفنا لنداء أو استغاثة أو استجداء ويحكمنا( اتق شر من أحسنت إليه)؟ هل نقبل بصدر رحب معادلات الحياة كما هي أم نجهد النفس في التمحيص والتحليل؟ هل يحقق( الاستغناء) قدرا من الراحة بعيدا عن مهاترات وصراعات رخيصة؟ وماذا يفيد الانسان ـ كما جاء في الانجيل ـ لو ربح العالم كله وخسر نفسه؟!
Thursday, November 22, 2007
مواقف
أنيس منصور
* لا حرب سعيدة ولا سلام تعيس
* من عاش بلا أمل أصبح الموت هو الأمل!
* القاموس به غلطة واحدة خطيرة: ان كلمة( نجاح) تجيء قبل كلمة( عمل)!
* التأمين علي الحياة: نظام يجعلك تعيش فقيرا وتموت غنيا!
* لا حرب سعيدة ولا سلام تعيس
* من عاش بلا أمل أصبح الموت هو الأمل!
* القاموس به غلطة واحدة خطيرة: ان كلمة( نجاح) تجيء قبل كلمة( عمل)!
* التأمين علي الحياة: نظام يجعلك تعيش فقيرا وتموت غنيا!
المحطات السبع الكبرى في انحطاط المسلمين
د. معتز بالله عبد الفتاح
يحاول هذا المقال أن يقف أمام بعض المحطات التاريخية التي شهدت تراجع الحضارة الإسلامية عن مكانتها الرائدة التي شغلتها في بداياتها. ودون الإغراق في المقدمات فلننفذ إلى محطات أربع في تاريخنا كان لكل منها أثره الممتد حتى يوم الناس هذا، ثم سأعقبها بمحطات ثلاث أخرى في مقال قادم ومعها نظرة على حلول مقترحة عسانا نصوب ما أخطأناه ونتجاوز ما فوتناه.
أولا تراجع الخلافة وسيادة الملك العضوض، تراجع عمر وسيادة معاوية:
لا شك أن منطق تداول الحكم على أساس من الوراثة عكس ما عمل له وعليه السابقون من الخلفاء كان نقطة التراجع الأولى في دولة الإسلام بحكم أنها نقلت موقع أحاد الناس من فاعلين سياسيين يشاركون في أمر الحكم عن طريق البيعة من ناحية والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر من ناحية إلى أخرى إلى رعايا لهم الأمان ما أمن الحكام مكرهم. ومن هنا كانت المقولة الشائعة لمعاوية: "لا نحول بين الناس وألسنتهم ما لم يحولوا بيننا وبين ملكنا." وقد سارت منهجا التزمه اللاحقون. وقد انتزعت الدولة الأموية من الفقهاء المسلمين أنذاك السند الشرعي لطاعة ولي الأمر بغض النظر عن مدى شرعية وصوله للسلطة طالما أنه يلتزم شكلا بقواعد الإسلام واحترامه لطقوسه مثل إقامة الصلاة والدعاء للخليفة على المنبر وتطبيق الحدود والتوسع في جهاد الدفع أي رد أعداء الدولة الإسلامية عنها وجهاد الطلب أي التوسع في حدود الدولة الإسلامية.
ورغما عن أن هذا التحول الخطير في شكل نظام الدولة وأسس شرعية القائمين عليها إلا أن أخطر ما فيه أنه كان مقدمة لتحول في علاقة الدولة بالمجتمع، فبدلا من منطق أن الحاكم خادم للمجتمع المسلم وموظف عام يقوم على شئونه باختيار المجتمع ورضاه، تحول المجتمع إلى تابع للدولة توجهه وتفرض عليه شروطها. فمن عمر الذي كان يقول: " إنما أرسل لكم الولاة خادمين ومعلمين" إلى معاوية الذي قال: "إن لم يكن هذا (أي ابنه يزيد) فهذا (أي السيف)."
مات عمر، ويجلس على عروش الحكم تلاميذ معاوية، رضي الله عنهما.
ثانيا تراجع العالم الناقد لصالح عالم التقية، تراجع ابن حنبل وتقدم ابن معين :
لقد كانت فتنة خلق القرآن الكريم أكثر كثيرا من مجرد اختلاف فلسفي بشأن هل القرآن الكريم مخلوق كرد فعل لحوادث الدنيا، وبالتالي كان من الممكن نظريا أن تتغير بعض آياته لو تصرف أبو لهب على عكس ما تصرف مثلا أم أنه قديم قدم الدهر وكأن الله خلقه أصلا قبل خلق البشر ثم سير الأمور كي تستقيم مع القرآن الكريم. أقول هذا النقاش الفلسفي نفسه كان يمكن أن يمر مرور الكرام كما مر غيره لكنه تحول إلى علامة فاصلة في تاريخ المسلمين من زاويتين على الأقل: فهو أولا قد رسخ نمط السلطة القاهرة في مواجهة عالم الدين المعارض. فكان تعذيب ابن حنبل على يد ثلاثة من خفاء العباسيين درسا وعاه معظم علماء الدين في عصر الفتنة وممن أتوا بعدها. وسار في الإسلام نمطان: نمط شجاعة ابن حنبل المعذب بسبب صلابته في الدفاع عما رآه الحق، وتقية يحي ابن معين الذي قال إن القرآن مخلوق حتى يريح نفسه من العذاب. ويذكر هنا أن يحي بن معين، وهو بحق عالم كبير، دخل على الإمام أحمد رحمه الله وهو مريض فسلم عليه فلم يرد السلام، فما زال يعتذر متعللا بقوله تعالى: {إِلاَّ مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالإِيمَانِ}، فقلب أحمد وجهه على الجانب الآخر ناكرا على ابن معين ما فعل. ويبدو أن الكثير من علماء الدين في الإسلام قد أخذوا عن ابن معين منطقه ونسوا الرسالة الأولى لكل نبي وهو أن يجاهد بالكلمة مهما كلفه الأمر، لأنه قائد رأي عام في مجتمعه وقدوة لمن يسيرون خلفه. وهذا هو ما فعله موسى النبي مع فرعون المستبد، بل فعله كل نبي مع كل جبار، بل هو ما فعله فلاسفة عصر النهضة في أوروبا مع حكامهم المستبدين، وكان بعض هؤلاء الفلاسفة ملحدين، وهو ما حاوله حديثا نساك وعباد بورما حينما سار منهم عشرة ألاف حفاة في الشوارع يقودون المجتمع وينشدون كلمة واحدة يكررونها بوعي وإصرار: "الديمقراطية... الديمقراطية." أما في حياتنا الإسلامية المعاصرة، فتكون كلمة الحق عالية ضد صغائر المواطن متى أخطأ ولا تتخطاه إلى كبائر الحكام متى وقعوا في الخطيئة. مات في الكثير من علمائنا ابن حنبل... ويحي بيننا ابن معين.
ثالثا تراجع العقل وازدهار النقل، تراجع ابن رشد وازدهار الغزالي:
وقد كان لمحنة خلق القرآن مع غيرها من التفاعلات الأخرى أثر آخر امتد طويلا حتى يومنا هذا. هذا الأثر نلمحه في غلبة النص دون اجتهاد في فهمه وتطبيقه على بعض مذاهبنا الفقهية، والتي جعلت الكثرة الغالبة تخشى الذهاب بعيدا عن الاجتهادات الفقهية التي خلفها الأقدمون. فترتب على ذلك نوع من المبالغة في تقدير النص والخوف من العقل المفضي إلى الفتنة بما أخذنا بعيدا عن التوازن المنطقي.. فتأخرنا في كثير من ابتكاراتنا بل وفي قبول الكثير من المبتكرات التي جاءت إلينا من الأمم الأخرى.
وبما أن العقل البشري قد أفضى للتفكير في هذه القضايا من قبيل القرآن قديم أم مخلوق فضلا عن ترجمة عشرات الكتابات من الفلسفة اليونانية القديمة وما ترتب على ذلك من طرح أسئلة لم تكن من السهل التفكير فيها من قبل العقل المسلم آنذاك فقد ساوى بعض الفقهاء بين الفلسفة والزندقة وكان الحل ذا شقين: الأول مزيد من التمسك بالأقوال المنسوبة للرسول (ص) والصحابة العظام والتابعين، ثم من ناحية أخرى ما عرف بغلق باب الاجتهاد.
فعلى مستوى التمسك بالنصوص المنسوبة للرسول (ص) وصحابته تبين لنا لاحقا أن الأغلبية الساحقة من هذا الأقوال ليست بأحاديث تنسب للرسول الكريم. فمثلا يروى أن الحسن البصري قد حفظ 600 ألف حديث، كما قيل إن الإمام أحمد كان يحفظ ألف ألف (أي مليون) حديث ولكنه وضع في مسنده أربعين ألفًا فقط، تكرر منها عشرة آلاف حديث في حين أننا نعرف الآن أن عدد الأحاديث التي يصح نسبتها للرسول (ص) وفقا للمحدث المعاصر الشهير ناصر الدين الألباني لا يزيدون عن ثمانية ألاف. أي أن العقل المسلم كان يسير لمدة طويلة من الزمن ومعه آلاف الأحاديث ظانا أنها تنسب للرسول الكريم، ثم تبين لنا أنها ليست كذلك؛ فتخيل معي أنك تسير في الشارع وعلى ظهرك مئات الكتب التي لا ينفعك منها إلا كتاب أو كتابان وأنت تظن خطأ أنها كلها مفيدة. وقد كان لهذا الكم المهول من الأحاديث المكذوبة دورها في تشويش العقل المسلم.
هذا على مستوى النصوص، لكن هناك رد فعل آخر على مستوى منهج التناول والذي تعامل مع قضايا الفقه بمنطق المتخوف من كل ما هو جديد أخذا بالأحوط واستنادا إلى مفهوم "سد الزرائع، وغلق مداخل الشيطان" وساد منهج ينسب في الأصل إلى الحنابلة والمالكية في سد الزرائع عند مجرد الظن وقوع المفسدة، حتى وإن لم تكن متيقنة.
وعلى هذا النهج كان الخلاف الشهير بين أبي حامد الغزالي الموصوف بـ "حجة الإسلام" وهو بالفعل عالم كبير، وبين واحد من رواد الفلسفة الغربية المسلم ابن رشد، الذي وجدت اسمه في العديد من الكتابات الغربية الكلاسيكية باعتباره من دعاة العقل والتنوير، وسببا من أسباب ازدهار الحضارة الإسلامية. وصح تحليل هؤلاء لأن وجود ابن رشد، حتى وإن كان تأثيره ضعيفا، كان مهما لتحريك المياه الراكدة. ولكن لما مات جسدا، وأمتناه فكرا، فقد ضاع التوازن بين العقل والنقل. وغلب منطق أبي حامد الغزالي الذي ضمن في كتبه آلاف الأحاديث التي عرفنا لاحقا أنها ضعيفة أو لا أصل لها. وساد عند كثيرين أن العقل "هوى" وأن النص مهما ضعف سنده، أفضل مما ينتجه العقل البشري. وأصبح ابن رشد ومدرسته بمثابة الشياطين والمارقين من الدين، وهو الموقف الذي ساد لدى شرائح المجتمع غير المثقفة حتى يومنا هذا. فيهتم العامة بحواديت وحكايات الدعاة الجدد عن الماضي التي لا نعرف مدى صحتها أكثر من اهتمامهم بأي حديث ديني أو فلسفي أو علمي جاد عن قضية من قضايا مجتمعنا المعاصر، فأصبحنا أمام ظاهرة المسلم الفخور بإسلامه الجاهل به وبواقعه.
وقد قرأت حديثا أن فقهاء الدولة العثمانية قد أفتوا بحرمة الشركات المساهمة (أي مثل الشركات التي تعمل في البورصة الآن) من باب سد الزرائع وأنها "فكرة شيطانية ربوية" في حين أن الغرب قد ابتكر هذا الاختراع واستفاد منه لمدة 200 عاما قبل أن يتبين لنا نحن المسلمين أن هذه الشركات لا حرام فيها وأنها مثلها مثل غيرها تكون حلالا إن عملت في إنتاج سلع وخدمات حلال. ولكن العقل المسلم كان قد تحجر وصعب عليه أن يتبين الفرق بين ضوء الشمس وظلام الكهوف.
ويذكر الشيخ عبد الوهاب خلاف بحق أن غلق باب الاجتهاد على ما أنتجه فقهاء المسلمين في قرون الإسلام الأولى يعني ضمنا غلق باب النظرة النقدية في كتب الأقدمين وترتب على ذلك انقسام المجتهدين إلى أحزاب، ولكلّ حزب مدرسته التشريعية وتلامذتها الذين يبالغون في تخريج النصوص وكأنها مباراة في البحث عن القديم وليس في النظر للمستقبل، فخلص ذلك إلى تعصب كل مدرسة لمبانيها الخاصة أصولا وفروعا. وهكذا انتشر المتطفلون على الفتوى والقضاء، فأدى ذلك إلى تقبّل سد باب الاجتهاد. وقد علق على ذلك الشيخ محمد الغزالي بقوله: إن إغلاق باب الاجتهاد هو اجتهاد، وهذا الاجتهاد بإغلاق باب الاجتهاد انتهى إلى ضرر، والضرر هو أن الأمة توقفت فعلاً عند التفكير القديم الذي كان سائداً في القرن الرابع تقريباً. وقد ترتب على هذا الغلق لباب الاجتهاد وغلبة النصوص التي كانت كالأشجار دون ثمار أن المسلم المعاصر يجد أنه من الأصلح له أن يستورد قانونا فرنسيا في الأمور التجارية عن أن يستند إلى قواعد المذهب الحنبلي أو المالكي أو الشافعي. لأن هؤلاء الأئمة العظام قالوا ما ناسب زمنهم، ولم نقل ما يناسب زماننا إلا بتحليل وتحريم ما نستورده من الغرب والشرق ولم نقم بدورنا في الاستحداث والإنشاء.
رابعا تراجع شرعية العدل، لصالح شرعية العسكر
في نفس الفترة التي ثار فيها الجدل بين الغزالي وابن رشد (القرن الثاني عشر الميلادي)، كان العالم الإسلامي يواجه خطر الحروب الصليبية وفي أعقابها غزوات التتار. وكلاهما خطر تتطلب عسكرة المجتمع بمعنى أن يعيش المسلمون لفترة طويلة من الزمن ستمتد إلى يومنا هذا، مع استثناءات قليلة، في حالة استعداد دائم لمعركة عسكرية قادمة. ومن هنا كان حكم الأيوبيين ثم المماليك ومن بعدهم العثمانيين للقيام بوظيفتين أساسيتين: منع الفتن الداخلية من جهة وحماية دار الإسلام من الخطر الخارجي من جهة ثانية. فلم يعد العلم الدنيوي والاجتهاد الشرعي إلا تابعين للوظيفة الأساسية وهي وظيفة درء الخطر الخارجي أساسا. وفي هذه الأحوال يبحث الإنسان عن شرعية القوي حتى وإن كان مخطئا جاهلا ظالما فاسدا وليس عن شرعية الضعيف حتى وإن كان مصيبا عالما عادلا نزيها، وحديثا قيل: "لا صوت يعلو على صوت المعركة." فكان المنطق الأسلم هو القبول بما سمي في الفقه ب "أمراء الاستيلاء" أو سموا لاحقا ب"أمراء التغلب" وانتهى الحال ببعض الفقهاء مثل الماوردي والجويني أن أعطوا لهؤلاء شرعية مستقلة عن شرعية الخليفة لأن سلاطين التغلب ينهضون بما نهض به الخلفاء قبلهم من حفظ الوحدة والدفاع عن دار الإسلام.
وهكذا بدلا من أن كانت شروط الخليفة أو ولي الأمر تجعل منه حاكما عالما مجتهدا عادلا حرا عاقلا قادرا على القيام بالتكاليف الشرعية والاستنباطات الفقهية، حاملا للرأي المفضي إلى سياسة الرعية وتدبير المصالح والكفاية الجسدية والقدرة على حماية البيضة وجهاد العدو، بدلا من كل هذه الشروط، تحول الأمر إلى "أصلح الله من أصبح" أي أصلح الله الحاكم الذي أصبح يحكمنا سواء وجدت فيه هذه الصفات أم لم توجد. وهو تطور خطير فبدلا من أن يزيد المسلمون من شروطهم في من يلي أمورهم، أصبحوا يقبلون من يحكمهم بنفس منطق قبولهم لنزول المطر أو غيابه، أو حدوث الزلازل أو امتناعها. أقصى ما يستطيعون هو الدعاء: "اللهم ول أمورنا خيارنا." وهي نظرة تواكلية ما أتى بها الإسلام ولكن ابتكرها الفقهاء المسلمون في عصور التخلف التي امتدت طويلا.
إذا نظرنا لهذه العوامل مجتمعة، فضلا عن المحطات ثلاث الأخرى التي سنتناولها في المقال القادم، يتبين أن بذور التخلف في مجتمعاتنا لها نصيب عميق الجذور، ولكن الحل لن يتطلب مئات السنين، فنهضة المجتمعات المعاصرة كانت سريعة بفعل عوامل العصر الذي نعيشه، على نحو ما سنرى، المهم أن نفهم أصل الداء وبدائل العلاج، والله المستعان.
يحاول هذا المقال أن يقف أمام بعض المحطات التاريخية التي شهدت تراجع الحضارة الإسلامية عن مكانتها الرائدة التي شغلتها في بداياتها. ودون الإغراق في المقدمات فلننفذ إلى محطات أربع في تاريخنا كان لكل منها أثره الممتد حتى يوم الناس هذا، ثم سأعقبها بمحطات ثلاث أخرى في مقال قادم ومعها نظرة على حلول مقترحة عسانا نصوب ما أخطأناه ونتجاوز ما فوتناه.
أولا تراجع الخلافة وسيادة الملك العضوض، تراجع عمر وسيادة معاوية:
لا شك أن منطق تداول الحكم على أساس من الوراثة عكس ما عمل له وعليه السابقون من الخلفاء كان نقطة التراجع الأولى في دولة الإسلام بحكم أنها نقلت موقع أحاد الناس من فاعلين سياسيين يشاركون في أمر الحكم عن طريق البيعة من ناحية والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر من ناحية إلى أخرى إلى رعايا لهم الأمان ما أمن الحكام مكرهم. ومن هنا كانت المقولة الشائعة لمعاوية: "لا نحول بين الناس وألسنتهم ما لم يحولوا بيننا وبين ملكنا." وقد سارت منهجا التزمه اللاحقون. وقد انتزعت الدولة الأموية من الفقهاء المسلمين أنذاك السند الشرعي لطاعة ولي الأمر بغض النظر عن مدى شرعية وصوله للسلطة طالما أنه يلتزم شكلا بقواعد الإسلام واحترامه لطقوسه مثل إقامة الصلاة والدعاء للخليفة على المنبر وتطبيق الحدود والتوسع في جهاد الدفع أي رد أعداء الدولة الإسلامية عنها وجهاد الطلب أي التوسع في حدود الدولة الإسلامية.
ورغما عن أن هذا التحول الخطير في شكل نظام الدولة وأسس شرعية القائمين عليها إلا أن أخطر ما فيه أنه كان مقدمة لتحول في علاقة الدولة بالمجتمع، فبدلا من منطق أن الحاكم خادم للمجتمع المسلم وموظف عام يقوم على شئونه باختيار المجتمع ورضاه، تحول المجتمع إلى تابع للدولة توجهه وتفرض عليه شروطها. فمن عمر الذي كان يقول: " إنما أرسل لكم الولاة خادمين ومعلمين" إلى معاوية الذي قال: "إن لم يكن هذا (أي ابنه يزيد) فهذا (أي السيف)."
مات عمر، ويجلس على عروش الحكم تلاميذ معاوية، رضي الله عنهما.
ثانيا تراجع العالم الناقد لصالح عالم التقية، تراجع ابن حنبل وتقدم ابن معين :
لقد كانت فتنة خلق القرآن الكريم أكثر كثيرا من مجرد اختلاف فلسفي بشأن هل القرآن الكريم مخلوق كرد فعل لحوادث الدنيا، وبالتالي كان من الممكن نظريا أن تتغير بعض آياته لو تصرف أبو لهب على عكس ما تصرف مثلا أم أنه قديم قدم الدهر وكأن الله خلقه أصلا قبل خلق البشر ثم سير الأمور كي تستقيم مع القرآن الكريم. أقول هذا النقاش الفلسفي نفسه كان يمكن أن يمر مرور الكرام كما مر غيره لكنه تحول إلى علامة فاصلة في تاريخ المسلمين من زاويتين على الأقل: فهو أولا قد رسخ نمط السلطة القاهرة في مواجهة عالم الدين المعارض. فكان تعذيب ابن حنبل على يد ثلاثة من خفاء العباسيين درسا وعاه معظم علماء الدين في عصر الفتنة وممن أتوا بعدها. وسار في الإسلام نمطان: نمط شجاعة ابن حنبل المعذب بسبب صلابته في الدفاع عما رآه الحق، وتقية يحي ابن معين الذي قال إن القرآن مخلوق حتى يريح نفسه من العذاب. ويذكر هنا أن يحي بن معين، وهو بحق عالم كبير، دخل على الإمام أحمد رحمه الله وهو مريض فسلم عليه فلم يرد السلام، فما زال يعتذر متعللا بقوله تعالى: {إِلاَّ مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالإِيمَانِ}، فقلب أحمد وجهه على الجانب الآخر ناكرا على ابن معين ما فعل. ويبدو أن الكثير من علماء الدين في الإسلام قد أخذوا عن ابن معين منطقه ونسوا الرسالة الأولى لكل نبي وهو أن يجاهد بالكلمة مهما كلفه الأمر، لأنه قائد رأي عام في مجتمعه وقدوة لمن يسيرون خلفه. وهذا هو ما فعله موسى النبي مع فرعون المستبد، بل فعله كل نبي مع كل جبار، بل هو ما فعله فلاسفة عصر النهضة في أوروبا مع حكامهم المستبدين، وكان بعض هؤلاء الفلاسفة ملحدين، وهو ما حاوله حديثا نساك وعباد بورما حينما سار منهم عشرة ألاف حفاة في الشوارع يقودون المجتمع وينشدون كلمة واحدة يكررونها بوعي وإصرار: "الديمقراطية... الديمقراطية." أما في حياتنا الإسلامية المعاصرة، فتكون كلمة الحق عالية ضد صغائر المواطن متى أخطأ ولا تتخطاه إلى كبائر الحكام متى وقعوا في الخطيئة. مات في الكثير من علمائنا ابن حنبل... ويحي بيننا ابن معين.
ثالثا تراجع العقل وازدهار النقل، تراجع ابن رشد وازدهار الغزالي:
وقد كان لمحنة خلق القرآن مع غيرها من التفاعلات الأخرى أثر آخر امتد طويلا حتى يومنا هذا. هذا الأثر نلمحه في غلبة النص دون اجتهاد في فهمه وتطبيقه على بعض مذاهبنا الفقهية، والتي جعلت الكثرة الغالبة تخشى الذهاب بعيدا عن الاجتهادات الفقهية التي خلفها الأقدمون. فترتب على ذلك نوع من المبالغة في تقدير النص والخوف من العقل المفضي إلى الفتنة بما أخذنا بعيدا عن التوازن المنطقي.. فتأخرنا في كثير من ابتكاراتنا بل وفي قبول الكثير من المبتكرات التي جاءت إلينا من الأمم الأخرى.
وبما أن العقل البشري قد أفضى للتفكير في هذه القضايا من قبيل القرآن قديم أم مخلوق فضلا عن ترجمة عشرات الكتابات من الفلسفة اليونانية القديمة وما ترتب على ذلك من طرح أسئلة لم تكن من السهل التفكير فيها من قبل العقل المسلم آنذاك فقد ساوى بعض الفقهاء بين الفلسفة والزندقة وكان الحل ذا شقين: الأول مزيد من التمسك بالأقوال المنسوبة للرسول (ص) والصحابة العظام والتابعين، ثم من ناحية أخرى ما عرف بغلق باب الاجتهاد.
فعلى مستوى التمسك بالنصوص المنسوبة للرسول (ص) وصحابته تبين لنا لاحقا أن الأغلبية الساحقة من هذا الأقوال ليست بأحاديث تنسب للرسول الكريم. فمثلا يروى أن الحسن البصري قد حفظ 600 ألف حديث، كما قيل إن الإمام أحمد كان يحفظ ألف ألف (أي مليون) حديث ولكنه وضع في مسنده أربعين ألفًا فقط، تكرر منها عشرة آلاف حديث في حين أننا نعرف الآن أن عدد الأحاديث التي يصح نسبتها للرسول (ص) وفقا للمحدث المعاصر الشهير ناصر الدين الألباني لا يزيدون عن ثمانية ألاف. أي أن العقل المسلم كان يسير لمدة طويلة من الزمن ومعه آلاف الأحاديث ظانا أنها تنسب للرسول الكريم، ثم تبين لنا أنها ليست كذلك؛ فتخيل معي أنك تسير في الشارع وعلى ظهرك مئات الكتب التي لا ينفعك منها إلا كتاب أو كتابان وأنت تظن خطأ أنها كلها مفيدة. وقد كان لهذا الكم المهول من الأحاديث المكذوبة دورها في تشويش العقل المسلم.
هذا على مستوى النصوص، لكن هناك رد فعل آخر على مستوى منهج التناول والذي تعامل مع قضايا الفقه بمنطق المتخوف من كل ما هو جديد أخذا بالأحوط واستنادا إلى مفهوم "سد الزرائع، وغلق مداخل الشيطان" وساد منهج ينسب في الأصل إلى الحنابلة والمالكية في سد الزرائع عند مجرد الظن وقوع المفسدة، حتى وإن لم تكن متيقنة.
وعلى هذا النهج كان الخلاف الشهير بين أبي حامد الغزالي الموصوف بـ "حجة الإسلام" وهو بالفعل عالم كبير، وبين واحد من رواد الفلسفة الغربية المسلم ابن رشد، الذي وجدت اسمه في العديد من الكتابات الغربية الكلاسيكية باعتباره من دعاة العقل والتنوير، وسببا من أسباب ازدهار الحضارة الإسلامية. وصح تحليل هؤلاء لأن وجود ابن رشد، حتى وإن كان تأثيره ضعيفا، كان مهما لتحريك المياه الراكدة. ولكن لما مات جسدا، وأمتناه فكرا، فقد ضاع التوازن بين العقل والنقل. وغلب منطق أبي حامد الغزالي الذي ضمن في كتبه آلاف الأحاديث التي عرفنا لاحقا أنها ضعيفة أو لا أصل لها. وساد عند كثيرين أن العقل "هوى" وأن النص مهما ضعف سنده، أفضل مما ينتجه العقل البشري. وأصبح ابن رشد ومدرسته بمثابة الشياطين والمارقين من الدين، وهو الموقف الذي ساد لدى شرائح المجتمع غير المثقفة حتى يومنا هذا. فيهتم العامة بحواديت وحكايات الدعاة الجدد عن الماضي التي لا نعرف مدى صحتها أكثر من اهتمامهم بأي حديث ديني أو فلسفي أو علمي جاد عن قضية من قضايا مجتمعنا المعاصر، فأصبحنا أمام ظاهرة المسلم الفخور بإسلامه الجاهل به وبواقعه.
وقد قرأت حديثا أن فقهاء الدولة العثمانية قد أفتوا بحرمة الشركات المساهمة (أي مثل الشركات التي تعمل في البورصة الآن) من باب سد الزرائع وأنها "فكرة شيطانية ربوية" في حين أن الغرب قد ابتكر هذا الاختراع واستفاد منه لمدة 200 عاما قبل أن يتبين لنا نحن المسلمين أن هذه الشركات لا حرام فيها وأنها مثلها مثل غيرها تكون حلالا إن عملت في إنتاج سلع وخدمات حلال. ولكن العقل المسلم كان قد تحجر وصعب عليه أن يتبين الفرق بين ضوء الشمس وظلام الكهوف.
ويذكر الشيخ عبد الوهاب خلاف بحق أن غلق باب الاجتهاد على ما أنتجه فقهاء المسلمين في قرون الإسلام الأولى يعني ضمنا غلق باب النظرة النقدية في كتب الأقدمين وترتب على ذلك انقسام المجتهدين إلى أحزاب، ولكلّ حزب مدرسته التشريعية وتلامذتها الذين يبالغون في تخريج النصوص وكأنها مباراة في البحث عن القديم وليس في النظر للمستقبل، فخلص ذلك إلى تعصب كل مدرسة لمبانيها الخاصة أصولا وفروعا. وهكذا انتشر المتطفلون على الفتوى والقضاء، فأدى ذلك إلى تقبّل سد باب الاجتهاد. وقد علق على ذلك الشيخ محمد الغزالي بقوله: إن إغلاق باب الاجتهاد هو اجتهاد، وهذا الاجتهاد بإغلاق باب الاجتهاد انتهى إلى ضرر، والضرر هو أن الأمة توقفت فعلاً عند التفكير القديم الذي كان سائداً في القرن الرابع تقريباً. وقد ترتب على هذا الغلق لباب الاجتهاد وغلبة النصوص التي كانت كالأشجار دون ثمار أن المسلم المعاصر يجد أنه من الأصلح له أن يستورد قانونا فرنسيا في الأمور التجارية عن أن يستند إلى قواعد المذهب الحنبلي أو المالكي أو الشافعي. لأن هؤلاء الأئمة العظام قالوا ما ناسب زمنهم، ولم نقل ما يناسب زماننا إلا بتحليل وتحريم ما نستورده من الغرب والشرق ولم نقم بدورنا في الاستحداث والإنشاء.
رابعا تراجع شرعية العدل، لصالح شرعية العسكر
في نفس الفترة التي ثار فيها الجدل بين الغزالي وابن رشد (القرن الثاني عشر الميلادي)، كان العالم الإسلامي يواجه خطر الحروب الصليبية وفي أعقابها غزوات التتار. وكلاهما خطر تتطلب عسكرة المجتمع بمعنى أن يعيش المسلمون لفترة طويلة من الزمن ستمتد إلى يومنا هذا، مع استثناءات قليلة، في حالة استعداد دائم لمعركة عسكرية قادمة. ومن هنا كان حكم الأيوبيين ثم المماليك ومن بعدهم العثمانيين للقيام بوظيفتين أساسيتين: منع الفتن الداخلية من جهة وحماية دار الإسلام من الخطر الخارجي من جهة ثانية. فلم يعد العلم الدنيوي والاجتهاد الشرعي إلا تابعين للوظيفة الأساسية وهي وظيفة درء الخطر الخارجي أساسا. وفي هذه الأحوال يبحث الإنسان عن شرعية القوي حتى وإن كان مخطئا جاهلا ظالما فاسدا وليس عن شرعية الضعيف حتى وإن كان مصيبا عالما عادلا نزيها، وحديثا قيل: "لا صوت يعلو على صوت المعركة." فكان المنطق الأسلم هو القبول بما سمي في الفقه ب "أمراء الاستيلاء" أو سموا لاحقا ب"أمراء التغلب" وانتهى الحال ببعض الفقهاء مثل الماوردي والجويني أن أعطوا لهؤلاء شرعية مستقلة عن شرعية الخليفة لأن سلاطين التغلب ينهضون بما نهض به الخلفاء قبلهم من حفظ الوحدة والدفاع عن دار الإسلام.
وهكذا بدلا من أن كانت شروط الخليفة أو ولي الأمر تجعل منه حاكما عالما مجتهدا عادلا حرا عاقلا قادرا على القيام بالتكاليف الشرعية والاستنباطات الفقهية، حاملا للرأي المفضي إلى سياسة الرعية وتدبير المصالح والكفاية الجسدية والقدرة على حماية البيضة وجهاد العدو، بدلا من كل هذه الشروط، تحول الأمر إلى "أصلح الله من أصبح" أي أصلح الله الحاكم الذي أصبح يحكمنا سواء وجدت فيه هذه الصفات أم لم توجد. وهو تطور خطير فبدلا من أن يزيد المسلمون من شروطهم في من يلي أمورهم، أصبحوا يقبلون من يحكمهم بنفس منطق قبولهم لنزول المطر أو غيابه، أو حدوث الزلازل أو امتناعها. أقصى ما يستطيعون هو الدعاء: "اللهم ول أمورنا خيارنا." وهي نظرة تواكلية ما أتى بها الإسلام ولكن ابتكرها الفقهاء المسلمون في عصور التخلف التي امتدت طويلا.
إذا نظرنا لهذه العوامل مجتمعة، فضلا عن المحطات ثلاث الأخرى التي سنتناولها في المقال القادم، يتبين أن بذور التخلف في مجتمعاتنا لها نصيب عميق الجذور، ولكن الحل لن يتطلب مئات السنين، فنهضة المجتمعات المعاصرة كانت سريعة بفعل عوامل العصر الذي نعيشه، على نحو ما سنرى، المهم أن نفهم أصل الداء وبدائل العلاج، والله المستعان.
Wednesday, November 21, 2007
إلي سلة المهملات
اسامة هيكل
لم يكلف الأمر الرئيس مبارك مجرد جرة قلم.. اكتفي بمجرد كلمتين في مؤتمر صحفي بالاسماعيلية ليلغي مشروع إنشاء عاصمة جديدة لمصر، وليحرج كل الذين شاركوا في المشروع، وكل الذين أيدوه وصفقوا له. منذ سنوات، والمصريون يستمعون لتصريحات عن عاصمة جديدة لمصر بدلاً من القاهرة التي أصبحت مكتظة بسكانها وسياراتها وعوادمها ومشاكلها.. ولكن خلال العام الماضي، زاد الحديث عن هذا الأمر بشكل ملحوظ،
وأعلن جمال مبارك الأمين المساعد وأمين سياسات الحزب الوطني عن مخطط عمراني جديد لتطوير القاهرة الكبري، ثم فجأة تحول الحديث علي المستوي التنفيذي إلي فكرة إنشاء عاصمة إدارية جديدة لمصر بدلاً من القاهرة، ولم يكن الأمر محل خلط أو سوء فهم.. فقد أعلن صفوت الشريف أمين عام الحزب الوطني ورئيس مجلس الشوري قبل أسبوع أنه تلقي خطاباً من رئيس الوزراء يطلب رأيه في موقع مجلسي الشعب والشوري الجديدين في التخطيط الذي انتهي للعاصمة الجديدة. وفي نفس اليوم، أكد الدكتور مفيد شهاب وزير الشئون القانونية والنيابية أهمية إنشاء عاصمة جديدة لمصر، وقال إن الحكومة تقوم بدراسات مستفيضة لحل مشكلة ازدحام العاصمة وتخفيف العبء السكاني بالقاهرة.
* وكان تقرير التنمية البشرية الصادر في 2006 بالتعاون بين الأمم المتحدة ومعهد التخطيط القومي قد طالب بخريطة عقارية جديدة لمصر، وركز علي ضرورة إنشاء عاصمة جديدة وإيجاد عناصر جذب السكان للمناطق الجديدة.
* كل هذه الدراسات التي أجرتها الحكومة المصرية مصيرها »سلة المهملات«.. كل الأموال التي أنفقتها الحكومة علي الدراسات المستفيضة للتخطيط الذي انتهي وفق التصريحات الرسمية، ضاعت هباء.. تماماً مثل مشروعات كثيرة بدأت وتوقفت.
* والحقيقية أن أسانيد الرئيس مبارك في رفضه للمشروع منطقيه.. فالعدالة الاجتماعية في حالة سيئة، ومصر ليست ذات اقتصاد منتعش لدرجة إنفاق عشرات المليارات علي عاصمة جديدة.. وبالتالي يجب توجيه الموارد لخدمة السكان.. ولكن السؤال، أليس الأجدر بالحكومة أنها تعلم حقيقة الوضع الاقتصادي ومعاناة الشعب وآلامه؟!
* الرأي النهائي في مشروع العاصمة الجديدة كان للرئيس مبارك.. ولكنني لا أعلم لماذا لم يعلن رأيه منذ بدء الحكومة في دراساتها التي تكلفت بالتأكيد مبالغ مالية ضخمة جداً؟! ولا أعلم هل بدأت الحكومة تلك الدراسات بمعرفة الرئيس أم بدون معرفته؟!
* المؤسف.. أن النموذج الذي ظهر به مستوي الأداء العام للدولة في هذه القضية يعكس أننا نعيش حالة من العشوائية.. ويؤكد أننا لانضع أمامنا هدفاً محدداً، وأن الحكومة تعمل بمزاجها بعيداً عن إستراتيجية محدده يعلمها الرئيس ويوافق عليها.. والنتيجة أن كل دراساتنا إلي سلة المهملات ومعها ملايين كثيرة يحتاجها المواطن.
لم يكلف الأمر الرئيس مبارك مجرد جرة قلم.. اكتفي بمجرد كلمتين في مؤتمر صحفي بالاسماعيلية ليلغي مشروع إنشاء عاصمة جديدة لمصر، وليحرج كل الذين شاركوا في المشروع، وكل الذين أيدوه وصفقوا له. منذ سنوات، والمصريون يستمعون لتصريحات عن عاصمة جديدة لمصر بدلاً من القاهرة التي أصبحت مكتظة بسكانها وسياراتها وعوادمها ومشاكلها.. ولكن خلال العام الماضي، زاد الحديث عن هذا الأمر بشكل ملحوظ،
وأعلن جمال مبارك الأمين المساعد وأمين سياسات الحزب الوطني عن مخطط عمراني جديد لتطوير القاهرة الكبري، ثم فجأة تحول الحديث علي المستوي التنفيذي إلي فكرة إنشاء عاصمة إدارية جديدة لمصر بدلاً من القاهرة، ولم يكن الأمر محل خلط أو سوء فهم.. فقد أعلن صفوت الشريف أمين عام الحزب الوطني ورئيس مجلس الشوري قبل أسبوع أنه تلقي خطاباً من رئيس الوزراء يطلب رأيه في موقع مجلسي الشعب والشوري الجديدين في التخطيط الذي انتهي للعاصمة الجديدة. وفي نفس اليوم، أكد الدكتور مفيد شهاب وزير الشئون القانونية والنيابية أهمية إنشاء عاصمة جديدة لمصر، وقال إن الحكومة تقوم بدراسات مستفيضة لحل مشكلة ازدحام العاصمة وتخفيف العبء السكاني بالقاهرة.
* وكان تقرير التنمية البشرية الصادر في 2006 بالتعاون بين الأمم المتحدة ومعهد التخطيط القومي قد طالب بخريطة عقارية جديدة لمصر، وركز علي ضرورة إنشاء عاصمة جديدة وإيجاد عناصر جذب السكان للمناطق الجديدة.
* كل هذه الدراسات التي أجرتها الحكومة المصرية مصيرها »سلة المهملات«.. كل الأموال التي أنفقتها الحكومة علي الدراسات المستفيضة للتخطيط الذي انتهي وفق التصريحات الرسمية، ضاعت هباء.. تماماً مثل مشروعات كثيرة بدأت وتوقفت.
* والحقيقية أن أسانيد الرئيس مبارك في رفضه للمشروع منطقيه.. فالعدالة الاجتماعية في حالة سيئة، ومصر ليست ذات اقتصاد منتعش لدرجة إنفاق عشرات المليارات علي عاصمة جديدة.. وبالتالي يجب توجيه الموارد لخدمة السكان.. ولكن السؤال، أليس الأجدر بالحكومة أنها تعلم حقيقة الوضع الاقتصادي ومعاناة الشعب وآلامه؟!
* الرأي النهائي في مشروع العاصمة الجديدة كان للرئيس مبارك.. ولكنني لا أعلم لماذا لم يعلن رأيه منذ بدء الحكومة في دراساتها التي تكلفت بالتأكيد مبالغ مالية ضخمة جداً؟! ولا أعلم هل بدأت الحكومة تلك الدراسات بمعرفة الرئيس أم بدون معرفته؟!
* المؤسف.. أن النموذج الذي ظهر به مستوي الأداء العام للدولة في هذه القضية يعكس أننا نعيش حالة من العشوائية.. ويؤكد أننا لانضع أمامنا هدفاً محدداً، وأن الحكومة تعمل بمزاجها بعيداً عن إستراتيجية محدده يعلمها الرئيس ويوافق عليها.. والنتيجة أن كل دراساتنا إلي سلة المهملات ومعها ملايين كثيرة يحتاجها المواطن.
نصائح ..نصائح
د.محمد السيد سعيد
الحمد لله أن السيد عمرو موسي ذهب إلي لبنان حتي لا يترك وزير الخارجية الفرنسي وحده محاولا دفع التوافق علي انتخاب رئيس جديد، فالدور الذي قام به الأمين العام للجامعة العربية هو الدليل الوحيد علي اهتمام مصر غير المباشر بالشأن اللبناني.
مصر غائبة في لبنان وهذا وضع تاريخي بدأ منذ بارك الرئيس السادات التدخل السوري الانفرادي في الحرب الأهلية اللبنانية عام 1976 .والواقع أن مصر غائبة عن مواقع الأزمات العربية جميعا ودون مبررات حقيقية، إذ لا يوجد ما يفسر غياب مصر العجيب في السودان. وسريعا ما قد يتدهور الوضع هناك وتعود الحرب بين الشمال والجنوب بما يفتح جميع الأسئلة والملفات القديمة، ويري البعض أن غياب مصر في العراق مفهوم بسبب الغزو والتطرف والفوضي. ولكن هذه الظروف لم تمنع دولا كثيرة من تأسيس حضور مباشر وغير مباشر في هذا البلد. ثم إن الحضور المصري في جميع البلاد العربية تراجع بصورة مخيفة حتي صرنا آخر من يهتم وآخر من يعلم وآخر من يفعل بل آخر من «تعمل له الحكومات العربية أي حساب». ومن هنا نفسر العدد الكبير من المصريين في السجون الكويتية وأكثرهم ضحايا شركات كويتية توردهم بالخديعة لقوات الاحتلال الأمريكية في العراق. ومن هنا نفسر أيضا القرارات التعسفية التي تصدرها السلطات الليبية بحق المصريين. التفسير الذي يقترح نفسه لفهم هذا الإهمال الجسيم للحضور المصري في العالم العربي هو شيخوخة النظام السياسي، فالقدرة علي صنع مبادرات مهيبة ومحترمة انتهت تقريبا.وهناك عامل مكمل وبالغ الأهمية وهو أن النظام السياسي في مصر لم يعد يمتلك وجهة نظر أو فلسفة أو رؤية لمستقبل المنطقة. كل ما دعا له الرئيس مبارك كبديل للفكرة القومية التي نادي بها ناصر هو مبدأ "عدم التدخل". وفي ظل هذا المبدأ تدخلت جميع القوي الدولية والإقليمية إلا مصر مما حرمها من الأوراق الضرورية للتأثير علي الأحداث في سائر البلاد العربية وضمان الحد الأدني من احترام المصالح المصرية. والطريف في سياسة عدم التدخل أن الفرقاء في مختلف الأزمات العربية وخاصة لبنان والسودان واليمن والعراق جاءوا يطلبون من مصر القيام بدورها. ولم يكن لدي مصر ما تقوله أو ما تفعله سوي النصائح!
الحمد لله أن السيد عمرو موسي ذهب إلي لبنان حتي لا يترك وزير الخارجية الفرنسي وحده محاولا دفع التوافق علي انتخاب رئيس جديد، فالدور الذي قام به الأمين العام للجامعة العربية هو الدليل الوحيد علي اهتمام مصر غير المباشر بالشأن اللبناني.
مصر غائبة في لبنان وهذا وضع تاريخي بدأ منذ بارك الرئيس السادات التدخل السوري الانفرادي في الحرب الأهلية اللبنانية عام 1976 .والواقع أن مصر غائبة عن مواقع الأزمات العربية جميعا ودون مبررات حقيقية، إذ لا يوجد ما يفسر غياب مصر العجيب في السودان. وسريعا ما قد يتدهور الوضع هناك وتعود الحرب بين الشمال والجنوب بما يفتح جميع الأسئلة والملفات القديمة، ويري البعض أن غياب مصر في العراق مفهوم بسبب الغزو والتطرف والفوضي. ولكن هذه الظروف لم تمنع دولا كثيرة من تأسيس حضور مباشر وغير مباشر في هذا البلد. ثم إن الحضور المصري في جميع البلاد العربية تراجع بصورة مخيفة حتي صرنا آخر من يهتم وآخر من يعلم وآخر من يفعل بل آخر من «تعمل له الحكومات العربية أي حساب». ومن هنا نفسر العدد الكبير من المصريين في السجون الكويتية وأكثرهم ضحايا شركات كويتية توردهم بالخديعة لقوات الاحتلال الأمريكية في العراق. ومن هنا نفسر أيضا القرارات التعسفية التي تصدرها السلطات الليبية بحق المصريين. التفسير الذي يقترح نفسه لفهم هذا الإهمال الجسيم للحضور المصري في العالم العربي هو شيخوخة النظام السياسي، فالقدرة علي صنع مبادرات مهيبة ومحترمة انتهت تقريبا.وهناك عامل مكمل وبالغ الأهمية وهو أن النظام السياسي في مصر لم يعد يمتلك وجهة نظر أو فلسفة أو رؤية لمستقبل المنطقة. كل ما دعا له الرئيس مبارك كبديل للفكرة القومية التي نادي بها ناصر هو مبدأ "عدم التدخل". وفي ظل هذا المبدأ تدخلت جميع القوي الدولية والإقليمية إلا مصر مما حرمها من الأوراق الضرورية للتأثير علي الأحداث في سائر البلاد العربية وضمان الحد الأدني من احترام المصالح المصرية. والطريف في سياسة عدم التدخل أن الفرقاء في مختلف الأزمات العربية وخاصة لبنان والسودان واليمن والعراق جاءوا يطلبون من مصر القيام بدورها. ولم يكن لدي مصر ما تقوله أو ما تفعله سوي النصائح!
عقائد كافرة
محمد البرغوثي
لا تكاد تخلو الصحف اليومية هذه الأيام من أخبار متلاحقة عن «إحباط محاولة تسفير عدد من الشباب إلي أوروبا بطرق غير شرعية».. و«القبض علي عصابة من عصابات تهجير الشباب في قوارب الموت».
والملاحظ أن أجهزة الأمن المختصة بإحباط هذه المحاولات ومراقبة الساحل الشمالي المصري، استنفرت كل إمكاناتها بعد حادث غرق قاربين قبل أسبوعين، ونشطت في مراقبة السواحل وتجميع المعلومات عن سماسرة الهجرة غير الشرعية،
والمؤكد أن هذا الاستنفار سينتهي بعد أيام قليلة، دون أن يعالج شيئًا، أو يخفف من هذا النشاط الكثيف الذي تشهده سوق تهريب الشباب المصري إلي إيطاليا وأفريقيا وإسرائيل.
الظاهرة إذن مستمرة، لأن الأسباب المنتجة لها مازالت كما هي، ومازالت القوي الطاردة للشاب من بيته وقريته وبلده، أقوي من كل الأجهزة الأمنية ووسائل الإعلام، التي تحاول إحباط محاولات التهريب، أو توعية الشباب بمخاطر الهجرة غير الشرعية.
واللافت في هذه الظاهرة أنها لم تترك قرية مصرية واحدة إلا دخلتها، وسيطرت تمامًا علي عدد من شبانها لايكاد يجمعهم شيء غير أنهم يحلمون بالسفر إلي أوروبا.. فبعض هؤلاء الشبان من الحاصلين علي مؤهلات عليا، وبعضهم لم يحصل إلا علي الابتدائية، واللافت أيضًا أن هؤلاء الشباب ليسوا جميعًا فقراء، فبعضهم ينتمي لأسر ريفية مستورة تمتلك عددًا من الأفدنة، وبعضهم لا يملك إلا صحته واستعداده للمقامرة بحياته.
ما الذي يدفع هؤلاء جميعًا إلي الاشتراك في حلم واحد؟
لقد قرأت معظم ما نشرته الصحف علي ألسنة الناجين من حادثي غرق القاربين، واستمعت إلي بعض أبناء القري التي استقبلت جثث أبنائها الغرقي، ولم أقتنع أبدأ بأن الفقر أو البطالة هما سبب تفشي هذه الظاهرة الرهيبة في معظم القري المصرية.
نعم، الفقر والبطالة، حاضران، ولا يمكن استبعادهما، ولكنهما يفسران فقط رغبة شاب فقير وعاطل في تجريب هذه المغامرة، التي قد تنتهي بالراحة الأبدية من فقره وبطالته ومهانته، أو قد تنتهي بالوصول إلي شاطئ الحلم الأوروبي.
ولكن الفقر والبطالة لا علاقة لهما بانضمام آلاف الشبان من الأسر المستورة إلي قوافل المغامرين بأرواحهم في قوارب الموت، ومن يتحدث - بعيدًا عن وسائل الإعلام - مع عدد من هؤلاء الشبان سيكتشف علي الفور أنهم ضحايا ثقافة كونية سائدة، أهدرت كل القيم الإنسانية النبيلة، وأشاعت في العالم كله ثقافة بديلة لا قيمة لشيء فيها غير «المال».
«المال» في الثقافة الرأسمالية السائدة هو القيمة والمهابة.. وهو الوطن والعائلة، وهو القوة والسلطة والمعرفة أيضًا، و«المال» هو النسب والحسب وفصيلة الدم، ولا شيء غيره يستحق الاحترام أو يجلب التقدير.. وليس أدل علي ذلك من مذلة العلماء في معاملهم، ووحشة المفكرين في غرفهم الكئيبة، وانهمار الأضواء والوجاهة والعظمة علي كل تافه رقيع.. تمكن في زمن قياسي من جمع الملايين، لا لشيء، إلا لأنه تافه ورقيع!
في الريف والمدن، في الدول النامية والمتخلفة، والدول الناهضة والمتقدمة، أصبحت «صلة المال» أقوي ملايين المرات من «صلة الدم».. وأصبح «قريبنا» الفقير عبئًا لا يمكن احتماله، وتراثًا لا تستوعبه غير المتاحف، وأصبح «الآخر» الثري - حتي لو كان عدوا - ثقافة جديدة ينبغي اكتسابها.
وفي ظل هذه العقيدة «المالية» فقد كل شيء آخر قيمته.. وفقدت الحياة - من دون المال - أهميتها. ولهذا سيستمر الهرب والغرق، إلي أن تغرب شمس هذه العقيدة الكافرة.
لا تكاد تخلو الصحف اليومية هذه الأيام من أخبار متلاحقة عن «إحباط محاولة تسفير عدد من الشباب إلي أوروبا بطرق غير شرعية».. و«القبض علي عصابة من عصابات تهجير الشباب في قوارب الموت».
والملاحظ أن أجهزة الأمن المختصة بإحباط هذه المحاولات ومراقبة الساحل الشمالي المصري، استنفرت كل إمكاناتها بعد حادث غرق قاربين قبل أسبوعين، ونشطت في مراقبة السواحل وتجميع المعلومات عن سماسرة الهجرة غير الشرعية،
والمؤكد أن هذا الاستنفار سينتهي بعد أيام قليلة، دون أن يعالج شيئًا، أو يخفف من هذا النشاط الكثيف الذي تشهده سوق تهريب الشباب المصري إلي إيطاليا وأفريقيا وإسرائيل.
الظاهرة إذن مستمرة، لأن الأسباب المنتجة لها مازالت كما هي، ومازالت القوي الطاردة للشاب من بيته وقريته وبلده، أقوي من كل الأجهزة الأمنية ووسائل الإعلام، التي تحاول إحباط محاولات التهريب، أو توعية الشباب بمخاطر الهجرة غير الشرعية.
واللافت في هذه الظاهرة أنها لم تترك قرية مصرية واحدة إلا دخلتها، وسيطرت تمامًا علي عدد من شبانها لايكاد يجمعهم شيء غير أنهم يحلمون بالسفر إلي أوروبا.. فبعض هؤلاء الشبان من الحاصلين علي مؤهلات عليا، وبعضهم لم يحصل إلا علي الابتدائية، واللافت أيضًا أن هؤلاء الشباب ليسوا جميعًا فقراء، فبعضهم ينتمي لأسر ريفية مستورة تمتلك عددًا من الأفدنة، وبعضهم لا يملك إلا صحته واستعداده للمقامرة بحياته.
ما الذي يدفع هؤلاء جميعًا إلي الاشتراك في حلم واحد؟
لقد قرأت معظم ما نشرته الصحف علي ألسنة الناجين من حادثي غرق القاربين، واستمعت إلي بعض أبناء القري التي استقبلت جثث أبنائها الغرقي، ولم أقتنع أبدأ بأن الفقر أو البطالة هما سبب تفشي هذه الظاهرة الرهيبة في معظم القري المصرية.
نعم، الفقر والبطالة، حاضران، ولا يمكن استبعادهما، ولكنهما يفسران فقط رغبة شاب فقير وعاطل في تجريب هذه المغامرة، التي قد تنتهي بالراحة الأبدية من فقره وبطالته ومهانته، أو قد تنتهي بالوصول إلي شاطئ الحلم الأوروبي.
ولكن الفقر والبطالة لا علاقة لهما بانضمام آلاف الشبان من الأسر المستورة إلي قوافل المغامرين بأرواحهم في قوارب الموت، ومن يتحدث - بعيدًا عن وسائل الإعلام - مع عدد من هؤلاء الشبان سيكتشف علي الفور أنهم ضحايا ثقافة كونية سائدة، أهدرت كل القيم الإنسانية النبيلة، وأشاعت في العالم كله ثقافة بديلة لا قيمة لشيء فيها غير «المال».
«المال» في الثقافة الرأسمالية السائدة هو القيمة والمهابة.. وهو الوطن والعائلة، وهو القوة والسلطة والمعرفة أيضًا، و«المال» هو النسب والحسب وفصيلة الدم، ولا شيء غيره يستحق الاحترام أو يجلب التقدير.. وليس أدل علي ذلك من مذلة العلماء في معاملهم، ووحشة المفكرين في غرفهم الكئيبة، وانهمار الأضواء والوجاهة والعظمة علي كل تافه رقيع.. تمكن في زمن قياسي من جمع الملايين، لا لشيء، إلا لأنه تافه ورقيع!
في الريف والمدن، في الدول النامية والمتخلفة، والدول الناهضة والمتقدمة، أصبحت «صلة المال» أقوي ملايين المرات من «صلة الدم».. وأصبح «قريبنا» الفقير عبئًا لا يمكن احتماله، وتراثًا لا تستوعبه غير المتاحف، وأصبح «الآخر» الثري - حتي لو كان عدوا - ثقافة جديدة ينبغي اكتسابها.
وفي ظل هذه العقيدة «المالية» فقد كل شيء آخر قيمته.. وفقدت الحياة - من دون المال - أهميتها. ولهذا سيستمر الهرب والغرق، إلي أن تغرب شمس هذه العقيدة الكافرة.
Tuesday, November 20, 2007
الحكومة.. الحزب.. الرئيس!
محمد أمين
أشعر بقلق شديد إزاء ما يجري في دائرة صنع القرار.. علي مستوي الحكومة والحزب والرئيس.. كل يوم يصدر قرار ثم يصدر نقيضه في اليوم التالي.. وأتحدث عن قرار نقل العاصمة.. وبرغم أن الحكومة هي التي اخترعت مشروع نقل العاصمة.. فإن الحكومة أيضاً هي التي شطبته بأستيكه.. ثم عادت إليه مرة أخري.. فألغاه الرئيس في رحلة الإسماعيلية بقرار منه.. وكلام الرئيس قرار جمهوري غير مكتوب.. ولكنه قابل للتنفيذ، فور صدوره، ولا يجرؤ أحد هنا أو هناك علي مخالفته.. وكنت حتي ساعات قليلة مضت أشعر بأن الحلم تحقق،
وأن نقل العاصمة أصبح حقيقة لا تحتمل الشك.. فهناك خطاب من »نظيف«، وهناك إعلان من »الشريف«.. ومانشيت في جريدة »روزاليوسف« الحكومية.. يبشر بأننا سوف ننتقل إلي عصر جديد مع عاصمة جديدة!!
** ومرجع القلق هنا أن الحكومة هي التي قررت ثم أخطرت الحزب عن طريق أمينه العام صفوت الشريف.. في بادرة تدل علي التعاون بين الحكومة والحزب، والتنسيق التام.. وهي إشارة تدل علي أنها لقيت موافقة من القيادة السياسية.. فإذا بكل ذلك ينهار فجأة.. فلا خطاب، ولا إعلان.. ولا أي قرار غير قرار الرئيس.. وقرار الرئيس مع العدالة الاجتماعية في الوقت الراهن.. ومع مساكن الفقراء.. وهو شيء مطلوب.. وإن كان نقل العاصمة أيضاً لا يقل أهمية، بعد أن تحولت القاهرة إلي جراج مفتوح.... وزاد الأمر تعقيداً مع كل زيارة للرئيس.. سواء لمجلس الشعب أو حتي لمدينة 6 أكتوبر!!.
** وكنت أتصور في البداية أن خطاب »نظيف« جاء كرد فعل لما حدث في زيارات الرئيس.. وربما يكون كذلك.. ولكني أتوقف أمام سؤال عن الميزانية المطلوبة للتنفيذ.. وكيف كان »نظيف« سيدبرها.. وكيف كان الحزب سيوافق عليها.. ثم كيف كان كل ذلك يحدث.. وهو ليس في برنامج الرئيس.. مع أنه أهم مشروع تقريباً.. لو كان في البرنامج الرئاسي.. كما أن حيثيات الإلغاء التي أوردها الرئيس.. إنها مجرد خطط.. وقد لا يتم تنفيذها إلا بعد 15 عاماً.. عندما تسمح الظروف..، وعندما يأتي من يعمل علي تنفيذها.. فيستفيد من التخطيط أو يعدله أو حتي يلغيه.. وبعد هذا لا يملك نظيف إلا أن يصمت.. ويصمت معه »الشريف« للأبد!!
أشعر بقلق شديد إزاء ما يجري في دائرة صنع القرار.. علي مستوي الحكومة والحزب والرئيس.. كل يوم يصدر قرار ثم يصدر نقيضه في اليوم التالي.. وأتحدث عن قرار نقل العاصمة.. وبرغم أن الحكومة هي التي اخترعت مشروع نقل العاصمة.. فإن الحكومة أيضاً هي التي شطبته بأستيكه.. ثم عادت إليه مرة أخري.. فألغاه الرئيس في رحلة الإسماعيلية بقرار منه.. وكلام الرئيس قرار جمهوري غير مكتوب.. ولكنه قابل للتنفيذ، فور صدوره، ولا يجرؤ أحد هنا أو هناك علي مخالفته.. وكنت حتي ساعات قليلة مضت أشعر بأن الحلم تحقق،
وأن نقل العاصمة أصبح حقيقة لا تحتمل الشك.. فهناك خطاب من »نظيف«، وهناك إعلان من »الشريف«.. ومانشيت في جريدة »روزاليوسف« الحكومية.. يبشر بأننا سوف ننتقل إلي عصر جديد مع عاصمة جديدة!!
** ومرجع القلق هنا أن الحكومة هي التي قررت ثم أخطرت الحزب عن طريق أمينه العام صفوت الشريف.. في بادرة تدل علي التعاون بين الحكومة والحزب، والتنسيق التام.. وهي إشارة تدل علي أنها لقيت موافقة من القيادة السياسية.. فإذا بكل ذلك ينهار فجأة.. فلا خطاب، ولا إعلان.. ولا أي قرار غير قرار الرئيس.. وقرار الرئيس مع العدالة الاجتماعية في الوقت الراهن.. ومع مساكن الفقراء.. وهو شيء مطلوب.. وإن كان نقل العاصمة أيضاً لا يقل أهمية، بعد أن تحولت القاهرة إلي جراج مفتوح.... وزاد الأمر تعقيداً مع كل زيارة للرئيس.. سواء لمجلس الشعب أو حتي لمدينة 6 أكتوبر!!.
** وكنت أتصور في البداية أن خطاب »نظيف« جاء كرد فعل لما حدث في زيارات الرئيس.. وربما يكون كذلك.. ولكني أتوقف أمام سؤال عن الميزانية المطلوبة للتنفيذ.. وكيف كان »نظيف« سيدبرها.. وكيف كان الحزب سيوافق عليها.. ثم كيف كان كل ذلك يحدث.. وهو ليس في برنامج الرئيس.. مع أنه أهم مشروع تقريباً.. لو كان في البرنامج الرئاسي.. كما أن حيثيات الإلغاء التي أوردها الرئيس.. إنها مجرد خطط.. وقد لا يتم تنفيذها إلا بعد 15 عاماً.. عندما تسمح الظروف..، وعندما يأتي من يعمل علي تنفيذها.. فيستفيد من التخطيط أو يعدله أو حتي يلغيه.. وبعد هذا لا يملك نظيف إلا أن يصمت.. ويصمت معه »الشريف« للأبد!!
لِف وارجع تاني
جمال الشاعر
أصدرت الحكومة قرارا إلي الناس بقانون السير الجديد، المشي للخلف، الناس تمشي للخلف والسيارات تمشي للخلف، حتي إن الأمهات بدأن في تدريب أبنائهن علي السير للخلف منذ مرحلة ما بعد الحبو، مع تعديل في الأغنية الفلكورية «تاتا تاتا خطي العتبة»، لتتحول إلي «تاتا تاتا ارجع عتبة»، وفي مواجهة هذه القرارات القراقوشية ظهرت حركة شعبية اسمها «أصدقاء الطريق»، لكي تعيد الأمور إلي نصابها وإلي المنطق السليم للحياة..
«المشي للخلف» هو عنوان آخر أعمال الأديب فؤاد حجازي، وهو فانتازيا قصصية لكننا نعيشها بشكل أو بآخر في مصر، التي تمشي الحياة فيها للخلف بدلا من أن تتقدم، نعيشها كوميديا سوداوية في الواقع، أيام الملكية كانت لدينا حياة حزبية وتعددية، والملك فاروق كان يعمل ألف حساب للنحاس باشا ووزرائه، وفي مقدمتهم فؤاد سراج الدين، أما نحن الآن فنعيش في زمن العشوائيات، فشلت الحكومات في تقديم تعليم حقيقي فظهر التعليم الموازي والدروس الخصوصية والعشوائيات الفكرية، فشلت الحكومات في التخطيط لشبكات الطرق والمواصلات،
فانحبس الناس في إشارات المرور وظهر «الميكروباظ» والتوك توك، فشلت الحكومات في حل مشكلة الإسكان فتم تبوير الأراضي الزراعية الرائعة، وظهرت الأحياء العشوائية في إمبابة وشق الثعبان وزينهم وقلعة الكبش، فشلت الحكومة في توجيه مدخرات الناس إلي استثمارات اقتصادية، فاتجه المواطن إلي تسقيع الأراضي وشراء الشقق وبيعها، وتحول الشعب المصري إلي شعب من السماسرة والمضاربين، راهنت الحكومات علي اقتصاد السياحة، فانهار الاقتصاد لفترات عدة بسبب عمليات إرهابية أو رصاصات طائشة،
منحت الحكومة تراخيص التليفون للشركات وجمعت المليارات، ولكن المواطن انخرب بيته من فواتير المحمول والأرضي، العشوائيات أصبحت هي الحل حتي إن البعض اقترح إنشاء وزارة للعشوائيات أو وزارتين إحداهما لإدارة الأزمات والأخري للعشوائيات،
خاصة أنه كانت لدينا وزارة اسمها وزارة التخطيط تم إلغاؤها في التشكيل الوزاري الأخير، وهو قرار صائب، لأنها لم تكن تقدم أي خطط استراتيجية لمستقبل مصر، في حين أننا في عصر محمد علي، وفي عصر توفيق كانت لدينا الخطط التوفيقية، وكان لدينا وزير فلاح اجتهد في رؤية علمية ومنهجية لمستقبل مصر.. لماذا تراجعنا؟ لماذا تخلفنا وتقدم غيرنا؟!
موريتانيا والسنغال اليوم أصبحتا مثلا يضرب في التوجه نحو الديمقراطية وتداول السلطة، حتي باكستان فيها حراك سياسي حيوي جدا بين بي نظير بوتو والرئيس برويز مشرف، ناهيك عن إيران التي نجح فيها أحمدي نجاد، القادم من المجهول، في الفوز بمنصب الرئاسة في منافسة مع عتويل اسمه رافسنجاني، تركيا تشهد نهضة سياسية واقتصادية طموحة أساسها التنافس وتكافؤ الفرص.. فلسفة بناء الدولة الحديثة الآن هي كما نعلم فلسفة قائمة علي التنافسية، فإذا انتفت التنافسية ضاع جوهر النهضة والحراك والحيوية..
انظر إلي ملاعب كرة القدم، تنافسية حرة بين الأندية واللاعبين والجماهير وشفافية في الحكم، وفي النهاية الكل يرتضي كلام حكم الملعب، وهذا يفسر لك لماذا يقبل الناس علي العضوية في الأندية الرياضية والحماس والتشجيع بكل جوارحهم، بينما لا يقبلون علي ملاعب السياسة في مصر، التي تفتقد أهم عنصرين: التنافسية والشفافية اللذين بدونهما سوف نجد مصر تواصل المشي للخلف، وكلما تقدمنا خطوة.. جاءنا هاتف يقول: «لِف وارجع تاني».
أصدرت الحكومة قرارا إلي الناس بقانون السير الجديد، المشي للخلف، الناس تمشي للخلف والسيارات تمشي للخلف، حتي إن الأمهات بدأن في تدريب أبنائهن علي السير للخلف منذ مرحلة ما بعد الحبو، مع تعديل في الأغنية الفلكورية «تاتا تاتا خطي العتبة»، لتتحول إلي «تاتا تاتا ارجع عتبة»، وفي مواجهة هذه القرارات القراقوشية ظهرت حركة شعبية اسمها «أصدقاء الطريق»، لكي تعيد الأمور إلي نصابها وإلي المنطق السليم للحياة..
«المشي للخلف» هو عنوان آخر أعمال الأديب فؤاد حجازي، وهو فانتازيا قصصية لكننا نعيشها بشكل أو بآخر في مصر، التي تمشي الحياة فيها للخلف بدلا من أن تتقدم، نعيشها كوميديا سوداوية في الواقع، أيام الملكية كانت لدينا حياة حزبية وتعددية، والملك فاروق كان يعمل ألف حساب للنحاس باشا ووزرائه، وفي مقدمتهم فؤاد سراج الدين، أما نحن الآن فنعيش في زمن العشوائيات، فشلت الحكومات في تقديم تعليم حقيقي فظهر التعليم الموازي والدروس الخصوصية والعشوائيات الفكرية، فشلت الحكومات في التخطيط لشبكات الطرق والمواصلات،
فانحبس الناس في إشارات المرور وظهر «الميكروباظ» والتوك توك، فشلت الحكومات في حل مشكلة الإسكان فتم تبوير الأراضي الزراعية الرائعة، وظهرت الأحياء العشوائية في إمبابة وشق الثعبان وزينهم وقلعة الكبش، فشلت الحكومة في توجيه مدخرات الناس إلي استثمارات اقتصادية، فاتجه المواطن إلي تسقيع الأراضي وشراء الشقق وبيعها، وتحول الشعب المصري إلي شعب من السماسرة والمضاربين، راهنت الحكومات علي اقتصاد السياحة، فانهار الاقتصاد لفترات عدة بسبب عمليات إرهابية أو رصاصات طائشة،
منحت الحكومة تراخيص التليفون للشركات وجمعت المليارات، ولكن المواطن انخرب بيته من فواتير المحمول والأرضي، العشوائيات أصبحت هي الحل حتي إن البعض اقترح إنشاء وزارة للعشوائيات أو وزارتين إحداهما لإدارة الأزمات والأخري للعشوائيات،
خاصة أنه كانت لدينا وزارة اسمها وزارة التخطيط تم إلغاؤها في التشكيل الوزاري الأخير، وهو قرار صائب، لأنها لم تكن تقدم أي خطط استراتيجية لمستقبل مصر، في حين أننا في عصر محمد علي، وفي عصر توفيق كانت لدينا الخطط التوفيقية، وكان لدينا وزير فلاح اجتهد في رؤية علمية ومنهجية لمستقبل مصر.. لماذا تراجعنا؟ لماذا تخلفنا وتقدم غيرنا؟!
موريتانيا والسنغال اليوم أصبحتا مثلا يضرب في التوجه نحو الديمقراطية وتداول السلطة، حتي باكستان فيها حراك سياسي حيوي جدا بين بي نظير بوتو والرئيس برويز مشرف، ناهيك عن إيران التي نجح فيها أحمدي نجاد، القادم من المجهول، في الفوز بمنصب الرئاسة في منافسة مع عتويل اسمه رافسنجاني، تركيا تشهد نهضة سياسية واقتصادية طموحة أساسها التنافس وتكافؤ الفرص.. فلسفة بناء الدولة الحديثة الآن هي كما نعلم فلسفة قائمة علي التنافسية، فإذا انتفت التنافسية ضاع جوهر النهضة والحراك والحيوية..
انظر إلي ملاعب كرة القدم، تنافسية حرة بين الأندية واللاعبين والجماهير وشفافية في الحكم، وفي النهاية الكل يرتضي كلام حكم الملعب، وهذا يفسر لك لماذا يقبل الناس علي العضوية في الأندية الرياضية والحماس والتشجيع بكل جوارحهم، بينما لا يقبلون علي ملاعب السياسة في مصر، التي تفتقد أهم عنصرين: التنافسية والشفافية اللذين بدونهما سوف نجد مصر تواصل المشي للخلف، وكلما تقدمنا خطوة.. جاءنا هاتف يقول: «لِف وارجع تاني».
Monday, November 19, 2007
عصر سرور النووي
على السيد
تعجبني مهارة الدكتور فتحي سرور في إدارة جلسات مجلس الشعب، وتدهشني قدرته علي جر الحقائق في الاتجاه الذي تريده الدولة، لكني أتوقف بكثير من التعجب أمام مقولاته التي لا تستقيم مع علمه وجلال منصبه. فالدكتور سرور القائل إن التعليم المصري فاشل، دون أن يدلنا علي كيفية أن يكون غير ذلك، وهو نفسه القائل أيضاً وقبل أيام، إن جميع النواب يباركون دخول مصر العصر النووي. قالها أمام رئيس الدولة، وكأن قراراً رئاسياً بإنشاء محطة نووية للأغراض السلمية يعني أننا دخلنا فعلياً إلي العصر النووي، وأصبحنا نقف رأساً برأس مع البلدان النووية، بفارق بسيط، وهو أننا اخترنا الشق السلمي الذي نعض عليه بالنواجذ.
وإذا كانت تلك العبارة المرسلة والفضفاضة تناسب موظفاً في الحكومة فإنها لا تليق برئيس برلمان ولا تتماشي مع دوره الرقابي والتشريعي، خصوصاً في موضوع يحمل الكثير من الغموض والتضارب، ومثلما نقرأ ونسمع عن مباركي المشروع نقرأ ونري الكثير من معارضي المشروع، ما يدل علي أن هناك ضبابية تلف الموضوع، وغشاوة تحتاج لمن يكشفها.
وليس غير البرلمان جهة يمكن أن تفعل ذلك، وبما أننا نتحدث عن مشروع سلمي، فلابد من مناقشته بجدية داخل أروقة البرلمان وتحت قبته، بما يزيح الغشاوة عن عيون الناس، وليس الترحيب والتأييد والتهليل والتصفيق، وإطلاق الشعارات والعبارات التي تنتهي بانتهاء اللحظة، وتدفعنا للتشكك في مشروع وطني كبير، إذ ليس صحيحاً أن مصر دخلت العصر النووي، ولن تدخله إلا إذا تم إنشاء محطة نووية. فالنية لا تصنع شيئاً، والأمل لا يعني النجاح، فنحن مازلنا غير قادرين علي اختيار المكان المناسب لإقامة المحطة، فكيف نكون من النوويين، وهكذا نفعل مثل الرجل الذي يسأل عن سعر طن الحديد ليشتري إبرة.
كنت أتمني أن يقول، سيد التشريع، كلاماً مغايراً وجديداً في تلك المناسبة، كلاماً لا يخرج به بعيداً عن دوره، ولا يضعه في مقعد غير ما يشغله، فما ينطق به يؤرشف ويوثق ويؤخذ به، كنت أتمني أن يقول إن المجلس اتخذ قراراً بتشكيل لجنة عليا تستعين بكل من تراه مناسباً لهذا الأمر من علماء وخبراء، من المؤيدين والمعارضين علي السواء، لاستجلاء الأمر واتخاذ ما يلزم من قرارات تدعم المشروع وتأخذ به إلي طريق النجاح.
كنت أتمني أن يأتي المجلس برئيس هيئة الطاقة النووية ويسأله: ماذا تريد من تشريعات تسهل لكم الحصول علي ما تريدون دون أن تمروا بعقبة القوانين الحالية، أو بجبال وهضاب الروتين؟. ما القوة التي تحتاجونها لكي تكون لكم الكلمة الفصل، ولا تجعلكم مجرد أداة في يد الحكومة تباهي بها إلي حين؟ ما التشريعات التي تناسبكم وتجعلكم أصحاب القرار الأول والأخير في اختيار الموقع أو الجهات التي تريدون التعامل معها؟ هل تحتاجون إلي هيكل مالي جديد؟ كيف نحمي صغاركم من الغواية؟ كيف نجعل عقولهم وقلوبهم خالصة للوطن؟ ما الوسائل التي تمكنكم من إنجاز المشروع في أسرع وقت وبأنجح طريقة؟ أو أن يجيء المجلس بأهل الاختصاص ليقولوا رأيهم بحيادية وشفافية عن جدوي المشروع وأهميته.
كنت أتمني أن يعلن رئيس البرلمان أن هذا الموضوع سيأخذ الكثير من وقت وجهد المجلس في الدورة الحالية، وأن قرار مصر العمل في هذا المشروع يستلزمه قوانين وتشريعات تدعمه وتسهل له طرق النجاح والتحقق، خصوصاً أننا لم نكن أصحاب تجربة سابقة في هذا المجال، فالأمر، يقيناً يحتاج لتشريعات تنقل مصر من مرحلة الأفكار والأحلام ثم مرحلة القرار، إلي مرحلة الفعل والتنفيذ والتحقق علي أرض الواقع.
كنت أتمني، وبعض التمني يتحقق، أن نسمع من الدكتور سرور ما يثلج الفؤاد وما يقر العين، وليس مجرد كلام احتفالي لا يناسب المكان ولا يليق بالحدث.
آخر سطر:
قال الإمام الشافعي:
احفظ لشيبك من عيب يدنسه
إن البياض قليل الحمل للدنس
كحامل لثياب الناس يغسلها
وثوبه غارق في الرجس والنجس
تعجبني مهارة الدكتور فتحي سرور في إدارة جلسات مجلس الشعب، وتدهشني قدرته علي جر الحقائق في الاتجاه الذي تريده الدولة، لكني أتوقف بكثير من التعجب أمام مقولاته التي لا تستقيم مع علمه وجلال منصبه. فالدكتور سرور القائل إن التعليم المصري فاشل، دون أن يدلنا علي كيفية أن يكون غير ذلك، وهو نفسه القائل أيضاً وقبل أيام، إن جميع النواب يباركون دخول مصر العصر النووي. قالها أمام رئيس الدولة، وكأن قراراً رئاسياً بإنشاء محطة نووية للأغراض السلمية يعني أننا دخلنا فعلياً إلي العصر النووي، وأصبحنا نقف رأساً برأس مع البلدان النووية، بفارق بسيط، وهو أننا اخترنا الشق السلمي الذي نعض عليه بالنواجذ.
وإذا كانت تلك العبارة المرسلة والفضفاضة تناسب موظفاً في الحكومة فإنها لا تليق برئيس برلمان ولا تتماشي مع دوره الرقابي والتشريعي، خصوصاً في موضوع يحمل الكثير من الغموض والتضارب، ومثلما نقرأ ونسمع عن مباركي المشروع نقرأ ونري الكثير من معارضي المشروع، ما يدل علي أن هناك ضبابية تلف الموضوع، وغشاوة تحتاج لمن يكشفها.
وليس غير البرلمان جهة يمكن أن تفعل ذلك، وبما أننا نتحدث عن مشروع سلمي، فلابد من مناقشته بجدية داخل أروقة البرلمان وتحت قبته، بما يزيح الغشاوة عن عيون الناس، وليس الترحيب والتأييد والتهليل والتصفيق، وإطلاق الشعارات والعبارات التي تنتهي بانتهاء اللحظة، وتدفعنا للتشكك في مشروع وطني كبير، إذ ليس صحيحاً أن مصر دخلت العصر النووي، ولن تدخله إلا إذا تم إنشاء محطة نووية. فالنية لا تصنع شيئاً، والأمل لا يعني النجاح، فنحن مازلنا غير قادرين علي اختيار المكان المناسب لإقامة المحطة، فكيف نكون من النوويين، وهكذا نفعل مثل الرجل الذي يسأل عن سعر طن الحديد ليشتري إبرة.
كنت أتمني أن يقول، سيد التشريع، كلاماً مغايراً وجديداً في تلك المناسبة، كلاماً لا يخرج به بعيداً عن دوره، ولا يضعه في مقعد غير ما يشغله، فما ينطق به يؤرشف ويوثق ويؤخذ به، كنت أتمني أن يقول إن المجلس اتخذ قراراً بتشكيل لجنة عليا تستعين بكل من تراه مناسباً لهذا الأمر من علماء وخبراء، من المؤيدين والمعارضين علي السواء، لاستجلاء الأمر واتخاذ ما يلزم من قرارات تدعم المشروع وتأخذ به إلي طريق النجاح.
كنت أتمني أن يأتي المجلس برئيس هيئة الطاقة النووية ويسأله: ماذا تريد من تشريعات تسهل لكم الحصول علي ما تريدون دون أن تمروا بعقبة القوانين الحالية، أو بجبال وهضاب الروتين؟. ما القوة التي تحتاجونها لكي تكون لكم الكلمة الفصل، ولا تجعلكم مجرد أداة في يد الحكومة تباهي بها إلي حين؟ ما التشريعات التي تناسبكم وتجعلكم أصحاب القرار الأول والأخير في اختيار الموقع أو الجهات التي تريدون التعامل معها؟ هل تحتاجون إلي هيكل مالي جديد؟ كيف نحمي صغاركم من الغواية؟ كيف نجعل عقولهم وقلوبهم خالصة للوطن؟ ما الوسائل التي تمكنكم من إنجاز المشروع في أسرع وقت وبأنجح طريقة؟ أو أن يجيء المجلس بأهل الاختصاص ليقولوا رأيهم بحيادية وشفافية عن جدوي المشروع وأهميته.
كنت أتمني أن يعلن رئيس البرلمان أن هذا الموضوع سيأخذ الكثير من وقت وجهد المجلس في الدورة الحالية، وأن قرار مصر العمل في هذا المشروع يستلزمه قوانين وتشريعات تدعمه وتسهل له طرق النجاح والتحقق، خصوصاً أننا لم نكن أصحاب تجربة سابقة في هذا المجال، فالأمر، يقيناً يحتاج لتشريعات تنقل مصر من مرحلة الأفكار والأحلام ثم مرحلة القرار، إلي مرحلة الفعل والتنفيذ والتحقق علي أرض الواقع.
كنت أتمني، وبعض التمني يتحقق، أن نسمع من الدكتور سرور ما يثلج الفؤاد وما يقر العين، وليس مجرد كلام احتفالي لا يناسب المكان ولا يليق بالحدث.
آخر سطر:
قال الإمام الشافعي:
احفظ لشيبك من عيب يدنسه
إن البياض قليل الحمل للدنس
كحامل لثياب الناس يغسلها
وثوبه غارق في الرجس والنجس
القيادة السياسية الرشيدة
خالد عزب
جاء اختيار مكتبة الإسكندرية ليتسلم فيها جواكيم شيسانو رئيس موزمبيق السابق، جائزة الحكم الرشيد، ليؤكد نجاح المكتبة في إثبات جديتها علي الساحة الدولية، خاصة في تناولها قضايا الإصلاح بجميع جوانبها السياسية والثقافية والاجتماعية والاقتصادية، إذن فنحن أمام رؤية لكيفية الإصلاح ونوعيته انطلقت من الإسكندرية، وجائزة دولية للحكم الرشيد تمنح لأحد كبار الساسة في أفريقيا جنوب الصحراء ممن نجحوا خلال حكمهم في إضافة الجديد لبلادهم، خاصة في مجال تحديات التنمية الاقتصادية والاجتماعية.
إن نسب الفقر المرتفعة وإهدار الثروات الاقتصادية والحروب الداخلية الطاحنة، والنزاعات القبلية، وموروث الاستعمار النفسي والتطاحن علي السلطة والإيدز وغيره من الأمراض، وتدمير البيئة الخلابة، والأمية، تحديات تواجه دول أفريقيا جنوب الصحراء، وكثيرًا ما فشل حكام هذه الدول في إضفاء، ولو سنوات قليلة من الاستقرار علي بلادهم، لذا بات تشجيع الاستقرار وتوفير العيش في مستوي آمن، ودرجة من العلم وتحقيق التنمية المستدامة، أحلامًا لإخواننا في أفريقيا تصل إلي حد السقف الأعلي لأحلامهم.
لذا كانت مبادرة أحد رجال الأعمال السودانيين، لمنح جائزة الحكم الرشيد لقادة أفريقيا جنوب الصحراء، وقدرها ٥ ملايين و٢٠٠ ألف دولار علي مدي ١٠ سنوات، يستخدمها هذا الزعيم لخدمة بلاده بمشاريع خيرية وتنموية، مبادرة غير مسبوقة، لاقت تشجيعاً من كوفي عنان السكرتير السابق للأمم المتحدة، ونيلسون مانديلا رئيس جنوب أفريقيا السابق، لإدراك كليهما أن مثل هذه الجوائز يعطي ولو شعاعًا من الأمل للقارة السمراء نحو مستقبل أفضل.
ولا تمنح هذه الجائزة إلا وفق قواعد حددها دليل علمي تم إعداده من قبل روبرت روتيبرج الأستاذ في كلية كيندي بجامعة هارفارد، يهدف هذا الدليل إلي تشجيع المناقشة، ليس في أفريقيا فحسب بل حول العالم، عن المعايير التي ينبغي بموجبها تقييم الحكومات.
وإذا كانت أولي دورات هذه الجائزة انطلقت من مكتبة الإسكندرية، فإن هذا تأكيد علي مكانة مصر في أفريقيا، هذه المكانة التي ظننا أننا فقدناها بعد صفر المونديال، لكن لاتزال لدينا مكانة رفيعة لدي الأفارقة، ممتدة من مكانة الرئيس جمال عبدالناصر الأب الروحي لحركات التحرر في أفريقيا، ومكانة بطرس غالي الذي لديه احترام كبير في هذه القارة بوصفه سياسيا مُحنكًا ملمًا بجميع الشؤون الأفريقية، والموروث التاريخي للأزهر الشريف والذي مازال ممتداً إلي اليوم في أفريقيا، جنوب الصحراء.
هل لنا أن نستعيد أفريقيا مرة أخري لمصر، وأن يعود اهتمامنا بها؟ إن انضمام مصر للكوميسا ليس كافياً، وضم وول سونيكا الأديب النيجيري لمجلس أمناء مكتبة الإسكندرية ليس كافياً، بل سيكون حضور مصر في أفريقيا، ببعث الاهتمام بجميع شؤون هذه القارة، ومد جسور التواصل مع المثقفين والمفكرين والمؤسسات في جميع أرجاء هذه القارة.
لابد من التفكير في مد طريق سريع عبر شاطئ البحر الأحمر إلي جنوب أفريقيا، ليكون بداية للتواصل السريع المستمر مع أفريقيا بلا عوائق ولا قيود.
جاء اختيار مكتبة الإسكندرية ليتسلم فيها جواكيم شيسانو رئيس موزمبيق السابق، جائزة الحكم الرشيد، ليؤكد نجاح المكتبة في إثبات جديتها علي الساحة الدولية، خاصة في تناولها قضايا الإصلاح بجميع جوانبها السياسية والثقافية والاجتماعية والاقتصادية، إذن فنحن أمام رؤية لكيفية الإصلاح ونوعيته انطلقت من الإسكندرية، وجائزة دولية للحكم الرشيد تمنح لأحد كبار الساسة في أفريقيا جنوب الصحراء ممن نجحوا خلال حكمهم في إضافة الجديد لبلادهم، خاصة في مجال تحديات التنمية الاقتصادية والاجتماعية.
إن نسب الفقر المرتفعة وإهدار الثروات الاقتصادية والحروب الداخلية الطاحنة، والنزاعات القبلية، وموروث الاستعمار النفسي والتطاحن علي السلطة والإيدز وغيره من الأمراض، وتدمير البيئة الخلابة، والأمية، تحديات تواجه دول أفريقيا جنوب الصحراء، وكثيرًا ما فشل حكام هذه الدول في إضفاء، ولو سنوات قليلة من الاستقرار علي بلادهم، لذا بات تشجيع الاستقرار وتوفير العيش في مستوي آمن، ودرجة من العلم وتحقيق التنمية المستدامة، أحلامًا لإخواننا في أفريقيا تصل إلي حد السقف الأعلي لأحلامهم.
لذا كانت مبادرة أحد رجال الأعمال السودانيين، لمنح جائزة الحكم الرشيد لقادة أفريقيا جنوب الصحراء، وقدرها ٥ ملايين و٢٠٠ ألف دولار علي مدي ١٠ سنوات، يستخدمها هذا الزعيم لخدمة بلاده بمشاريع خيرية وتنموية، مبادرة غير مسبوقة، لاقت تشجيعاً من كوفي عنان السكرتير السابق للأمم المتحدة، ونيلسون مانديلا رئيس جنوب أفريقيا السابق، لإدراك كليهما أن مثل هذه الجوائز يعطي ولو شعاعًا من الأمل للقارة السمراء نحو مستقبل أفضل.
ولا تمنح هذه الجائزة إلا وفق قواعد حددها دليل علمي تم إعداده من قبل روبرت روتيبرج الأستاذ في كلية كيندي بجامعة هارفارد، يهدف هذا الدليل إلي تشجيع المناقشة، ليس في أفريقيا فحسب بل حول العالم، عن المعايير التي ينبغي بموجبها تقييم الحكومات.
وإذا كانت أولي دورات هذه الجائزة انطلقت من مكتبة الإسكندرية، فإن هذا تأكيد علي مكانة مصر في أفريقيا، هذه المكانة التي ظننا أننا فقدناها بعد صفر المونديال، لكن لاتزال لدينا مكانة رفيعة لدي الأفارقة، ممتدة من مكانة الرئيس جمال عبدالناصر الأب الروحي لحركات التحرر في أفريقيا، ومكانة بطرس غالي الذي لديه احترام كبير في هذه القارة بوصفه سياسيا مُحنكًا ملمًا بجميع الشؤون الأفريقية، والموروث التاريخي للأزهر الشريف والذي مازال ممتداً إلي اليوم في أفريقيا، جنوب الصحراء.
هل لنا أن نستعيد أفريقيا مرة أخري لمصر، وأن يعود اهتمامنا بها؟ إن انضمام مصر للكوميسا ليس كافياً، وضم وول سونيكا الأديب النيجيري لمجلس أمناء مكتبة الإسكندرية ليس كافياً، بل سيكون حضور مصر في أفريقيا، ببعث الاهتمام بجميع شؤون هذه القارة، ومد جسور التواصل مع المثقفين والمفكرين والمؤسسات في جميع أرجاء هذه القارة.
لابد من التفكير في مد طريق سريع عبر شاطئ البحر الأحمر إلي جنوب أفريقيا، ليكون بداية للتواصل السريع المستمر مع أفريقيا بلا عوائق ولا قيود.
لماذا يهرب الناس من أوطانهم؟
د.محمود عمارة
قبل هدم سور برلين الفاصل بين ألمانيا الغربية، وألمانيا الشرقية في الثمانينيات لم يحدث مطلقًا القبض علي ألماني غربي حاول الهرب إلي ألمانيا الشرقية، وكان العكس هو الصحيح.. مئات بل آلاف من شباب ألمانيا الشرقية هم الذين كانوا يحاولون القفز إلي الغربية «طهقا» من النظام الديكتاتوري - الاستبدادي الشيوعي المتخلف.
ولم يحدث أبدًا أن سمعنا عن مواطن أمريكي هرب إلي المكسيك أو بنجلاديش، ولم تسجل حالة مواطن إسرائيلي واحد حاول الهرب إلي روسيا مثلاً، ولكن آلاف الروس والروسيات هم الذين يهربون إلي إسرائيل، ولم نقرأ عن مواطن إماراتي أو سعودي حاول الهرب إلي السودان أو اليمن أو سوريا - فلماذا «يطفش» المصريون إلي أي مكان خارج حدود هذا الوطن؟، حتي إلي إسرائيل فتصبح هناك جالية مصرية في تل أبيب تقارب الأربعين ألف شاب، إلي موريتانيا «٢٠٠٠ مصري»، إلي بوركينا فاسو «٨٠٠ مصري»، إلي موزمبيق «٣٥٠ مصرياً» باحثًا عن فرصة، عن وظيفة، أملاً في حياة أفضل، ومستقبل أضمن بعد أن وصل حجم البطالة الحقيقية إلي ما يزيد علي ٨ ملايين لعجز الدولة عن الاستثمار في الإنسان بتدريب وتأهيل الخريجين - وبعدم التخطيط لربط التعليم باحتياجات سوق العمل، «رغم أن هناك فرص عمل بالمصانع والمزارع تفوق ٢ مليون وظيفة براتب ٤٥٠ جنيهًا شهريًا للعامل، ٥٥٠ للمشرف، ٧٥٠ للمهندس، ٢٠٠٠ للمدير الإداري، ٥٠٠٠ للمدير المحترف».
ولكن معظم المتقدمين للوظيفة طامحون في الراتب، ومتصورون أن يعملوا في القطاع الخاص بنظام الحكومة «حضور وانصراف، وغياب» لان أحدًا لم يشرح أو يدرب أو يؤهل كما تفعل كل دول العالم للشباب أثناء الدراسة، وبعد التخرج، وقبل ضخه في سوق العمل ليفهم ما هو مطلوب منه.
وبما أن الحكومة أوقفت التعيين، تجد مئات الآلاف من الشباب «ملطوعين» علي المقاهي والنواصي، يسمعون عن الفساد للركب، وللحلقوم، ويرون الفاسدين واللصوص في الصفوف الأولي، وكل يوم مانشيتات كاذبة، ووعود زائفة، وأرض الواقع شاهدة أمام عيونهم علي الظلم، وعدم المساواة، وغياب العدالة، وتحطيم القوانين و... و... المهم أن الشباب المصري «كفر» و«طهق» و«مل»، و«زهق» من هذه الكآبة، ولا يجد أمامه سوي التفكير في الهجرة إلي أي بلد آخر، فالحال هناك بالنسبة له لن يكون أسوأ مما هو فيه، وفي أسوأ الحالات فالموت في عرض البحر لن يستغرق أكثر من ساعات أفضل من العيش طوال العمر في ذل ومهانة!
والسؤال: كيف نقنع الشباب بالبقاء، وكيف نعيد إليهم الثقة في الحاضر، والأمل في المستقبل؟
أولاً، علينا أن نفهم أن القبض علي بعض السماسرة، ومنع بعض السفن، وتشديد الحراسة الليلية لن توقف نزيف الانتحار، ولن يعجز الوسطاء ولن تختفي العصابات، ولن يقبل الشباب هذا الطوق.. لأنه «يتوق» إلي الحرية.. إلي النجاح.. إلي الأمل.. إلي تحقيق الذات.. إلي العدالة والكرامة، ولهذا يجب ألا نعتمد علي الإجراءات البوليسية وحدها.. فماذا نفعل علي المديين القصير، والبعيد؟
١- مراكز للتأهيل والتدريب والتشغيل في كل مركز، ومدينة، وحي.. حتي لو احتاج الأمر المساعدة من جهاز الخدمة الوطنية الأكثر تنظيمًا، لتأهيل ٢ مليون كل عام يحتاجهم القطاع الخاص بالمصانع والمزارع والفنادق والخدمات.
٢- فتح الأبواب والنوافذ للاستثمارات المصرية والعربية والأجنبية بضوابط واضحة وصريحة وشفافة، لجذب الاستثمارات في قطاعي الزراعة والصناعة كثيفة التشغيل، وخلق فرص العمل بعيدًا عن البيروقراطية العقيمة والروتين العفن والبطء في اتخاذ القرارات.
٣- وزارة للهجرة: علي رأسها شخصية قوية، فاهمة، لديها استراتيجية لجذب مليون مغترب راغبين في العودة غدًا، وكل واحد منهم لديه مدخرات تكفي لافتتاح مشروع يخلق ٥ فرص عمل = ٥ ملايين وظيفة في ظرف عامين علي الأكثر.
٤- البدء فورًا في الحوار، والتفاوض مع كل الدول الأوروبية، وعلي رأسها إيطاليا، لتصدير مائة ألف شاب مصري سنويا - تحتاجهم سوق العمل هناك نظرًا لقلة الإنجاب، ونقص الأيدي العاملة في سن الشيبوبة «متوسط إنجاب الإيطالية طفل واحد في العمر» وعام ٢٠٣٠ هناك أزمة محققة في إيطاليا وفرنسا ومعظم الدول الأوروبية حيث سيصل عدد من هم في سن المعاش إلي أكثر بكثير من الشباب العامل، مما يعصف بصناديق التأمينات والمعاشات، ويسبب خللا جسيمًا في سوق العمل.
ولكن بعد أحداث سبتمبر ومدريد ولندن.. أصبح «العربي» في نظرهم إرهابيا محتملاً، أو علي الأقل مشكوكا فيه.. ولهذا يلزم التفاوض معهم «وهم مستعدون للحوار».. ليتقبلوا أعدادًا كبيرة من المصريين للإقامة والعمل هناك، وشروطهم:
١- إعادة تأهيل وتدريب الراغبين في السفر علي نفقاتهم «أي الدول المستوردة» بما يتلاءم مع احتياجات سوق العمل هناك.
٢- تعليم اللغة الإيطالية أو الفرنسية أو غيرهما حسب البلد المتعاقد معه في هذا البرنامج.
٣- «غسيل مخ» بالمعني الإيجابي، وهو إعادة تفهيم وتعليم ثقافة البلد «المضيف».. مبادئ الثقافة الغربية من احترام القوانين.. الالتزام في العمل.. وكل المبادئ والقيم المتحضرة من احترام الآخر، والقناعة بأن «العلمانية» (أي فصل الدين عن الدولة) هي سبب التطور والتقدم، ومن يرغب في ممارسة شعائره فليذهب إلي المسجد أو الكنيسة بعيدًا عن خلط الأوراق.
باختصار: الدول الغربية في حاجة إلي عمال مدربين، وحرفيين مهرة.. راغبين في العمل.. يندمجون في الثقافة الغربية (ولكم دينكم ولي دين).. وهذا ما لم يعرضه أحد من مسؤولينا، ولم يطرحه أي وزير مختص.
وكل ما فعلناه، أن اتفقت الوزيرة «عائشة» مع السفارة الإيطالية علي تسفير ١٠٧ شباب مصريين للعمل في إيطاليا.. ولم يطرح أحد فكرة «برنامج» متكامل، ومستمر لتصدير مائة ألف سنويا مؤهلين بشروطهم ومواصفاتهم.. فهل يتقدم أحد يهمه الأمر للحوار والتفاوض، وبعدها نستطيع أن نمنع السماسرة ونقطع رؤوس مافيا تهريب البشر. هناك أفكار كثيرة لا يتسع لها المكان ومستعد لمناقشتها بالتفصيل مع أي مسؤول مهتم بهذه القضية إذا كان هناك أحد يهمه الأمر!
قبل هدم سور برلين الفاصل بين ألمانيا الغربية، وألمانيا الشرقية في الثمانينيات لم يحدث مطلقًا القبض علي ألماني غربي حاول الهرب إلي ألمانيا الشرقية، وكان العكس هو الصحيح.. مئات بل آلاف من شباب ألمانيا الشرقية هم الذين كانوا يحاولون القفز إلي الغربية «طهقا» من النظام الديكتاتوري - الاستبدادي الشيوعي المتخلف.
ولم يحدث أبدًا أن سمعنا عن مواطن أمريكي هرب إلي المكسيك أو بنجلاديش، ولم تسجل حالة مواطن إسرائيلي واحد حاول الهرب إلي روسيا مثلاً، ولكن آلاف الروس والروسيات هم الذين يهربون إلي إسرائيل، ولم نقرأ عن مواطن إماراتي أو سعودي حاول الهرب إلي السودان أو اليمن أو سوريا - فلماذا «يطفش» المصريون إلي أي مكان خارج حدود هذا الوطن؟، حتي إلي إسرائيل فتصبح هناك جالية مصرية في تل أبيب تقارب الأربعين ألف شاب، إلي موريتانيا «٢٠٠٠ مصري»، إلي بوركينا فاسو «٨٠٠ مصري»، إلي موزمبيق «٣٥٠ مصرياً» باحثًا عن فرصة، عن وظيفة، أملاً في حياة أفضل، ومستقبل أضمن بعد أن وصل حجم البطالة الحقيقية إلي ما يزيد علي ٨ ملايين لعجز الدولة عن الاستثمار في الإنسان بتدريب وتأهيل الخريجين - وبعدم التخطيط لربط التعليم باحتياجات سوق العمل، «رغم أن هناك فرص عمل بالمصانع والمزارع تفوق ٢ مليون وظيفة براتب ٤٥٠ جنيهًا شهريًا للعامل، ٥٥٠ للمشرف، ٧٥٠ للمهندس، ٢٠٠٠ للمدير الإداري، ٥٠٠٠ للمدير المحترف».
ولكن معظم المتقدمين للوظيفة طامحون في الراتب، ومتصورون أن يعملوا في القطاع الخاص بنظام الحكومة «حضور وانصراف، وغياب» لان أحدًا لم يشرح أو يدرب أو يؤهل كما تفعل كل دول العالم للشباب أثناء الدراسة، وبعد التخرج، وقبل ضخه في سوق العمل ليفهم ما هو مطلوب منه.
وبما أن الحكومة أوقفت التعيين، تجد مئات الآلاف من الشباب «ملطوعين» علي المقاهي والنواصي، يسمعون عن الفساد للركب، وللحلقوم، ويرون الفاسدين واللصوص في الصفوف الأولي، وكل يوم مانشيتات كاذبة، ووعود زائفة، وأرض الواقع شاهدة أمام عيونهم علي الظلم، وعدم المساواة، وغياب العدالة، وتحطيم القوانين و... و... المهم أن الشباب المصري «كفر» و«طهق» و«مل»، و«زهق» من هذه الكآبة، ولا يجد أمامه سوي التفكير في الهجرة إلي أي بلد آخر، فالحال هناك بالنسبة له لن يكون أسوأ مما هو فيه، وفي أسوأ الحالات فالموت في عرض البحر لن يستغرق أكثر من ساعات أفضل من العيش طوال العمر في ذل ومهانة!
والسؤال: كيف نقنع الشباب بالبقاء، وكيف نعيد إليهم الثقة في الحاضر، والأمل في المستقبل؟
أولاً، علينا أن نفهم أن القبض علي بعض السماسرة، ومنع بعض السفن، وتشديد الحراسة الليلية لن توقف نزيف الانتحار، ولن يعجز الوسطاء ولن تختفي العصابات، ولن يقبل الشباب هذا الطوق.. لأنه «يتوق» إلي الحرية.. إلي النجاح.. إلي الأمل.. إلي تحقيق الذات.. إلي العدالة والكرامة، ولهذا يجب ألا نعتمد علي الإجراءات البوليسية وحدها.. فماذا نفعل علي المديين القصير، والبعيد؟
١- مراكز للتأهيل والتدريب والتشغيل في كل مركز، ومدينة، وحي.. حتي لو احتاج الأمر المساعدة من جهاز الخدمة الوطنية الأكثر تنظيمًا، لتأهيل ٢ مليون كل عام يحتاجهم القطاع الخاص بالمصانع والمزارع والفنادق والخدمات.
٢- فتح الأبواب والنوافذ للاستثمارات المصرية والعربية والأجنبية بضوابط واضحة وصريحة وشفافة، لجذب الاستثمارات في قطاعي الزراعة والصناعة كثيفة التشغيل، وخلق فرص العمل بعيدًا عن البيروقراطية العقيمة والروتين العفن والبطء في اتخاذ القرارات.
٣- وزارة للهجرة: علي رأسها شخصية قوية، فاهمة، لديها استراتيجية لجذب مليون مغترب راغبين في العودة غدًا، وكل واحد منهم لديه مدخرات تكفي لافتتاح مشروع يخلق ٥ فرص عمل = ٥ ملايين وظيفة في ظرف عامين علي الأكثر.
٤- البدء فورًا في الحوار، والتفاوض مع كل الدول الأوروبية، وعلي رأسها إيطاليا، لتصدير مائة ألف شاب مصري سنويا - تحتاجهم سوق العمل هناك نظرًا لقلة الإنجاب، ونقص الأيدي العاملة في سن الشيبوبة «متوسط إنجاب الإيطالية طفل واحد في العمر» وعام ٢٠٣٠ هناك أزمة محققة في إيطاليا وفرنسا ومعظم الدول الأوروبية حيث سيصل عدد من هم في سن المعاش إلي أكثر بكثير من الشباب العامل، مما يعصف بصناديق التأمينات والمعاشات، ويسبب خللا جسيمًا في سوق العمل.
ولكن بعد أحداث سبتمبر ومدريد ولندن.. أصبح «العربي» في نظرهم إرهابيا محتملاً، أو علي الأقل مشكوكا فيه.. ولهذا يلزم التفاوض معهم «وهم مستعدون للحوار».. ليتقبلوا أعدادًا كبيرة من المصريين للإقامة والعمل هناك، وشروطهم:
١- إعادة تأهيل وتدريب الراغبين في السفر علي نفقاتهم «أي الدول المستوردة» بما يتلاءم مع احتياجات سوق العمل هناك.
٢- تعليم اللغة الإيطالية أو الفرنسية أو غيرهما حسب البلد المتعاقد معه في هذا البرنامج.
٣- «غسيل مخ» بالمعني الإيجابي، وهو إعادة تفهيم وتعليم ثقافة البلد «المضيف».. مبادئ الثقافة الغربية من احترام القوانين.. الالتزام في العمل.. وكل المبادئ والقيم المتحضرة من احترام الآخر، والقناعة بأن «العلمانية» (أي فصل الدين عن الدولة) هي سبب التطور والتقدم، ومن يرغب في ممارسة شعائره فليذهب إلي المسجد أو الكنيسة بعيدًا عن خلط الأوراق.
باختصار: الدول الغربية في حاجة إلي عمال مدربين، وحرفيين مهرة.. راغبين في العمل.. يندمجون في الثقافة الغربية (ولكم دينكم ولي دين).. وهذا ما لم يعرضه أحد من مسؤولينا، ولم يطرحه أي وزير مختص.
وكل ما فعلناه، أن اتفقت الوزيرة «عائشة» مع السفارة الإيطالية علي تسفير ١٠٧ شباب مصريين للعمل في إيطاليا.. ولم يطرح أحد فكرة «برنامج» متكامل، ومستمر لتصدير مائة ألف سنويا مؤهلين بشروطهم ومواصفاتهم.. فهل يتقدم أحد يهمه الأمر للحوار والتفاوض، وبعدها نستطيع أن نمنع السماسرة ونقطع رؤوس مافيا تهريب البشر. هناك أفكار كثيرة لا يتسع لها المكان ومستعد لمناقشتها بالتفصيل مع أي مسؤول مهتم بهذه القضية إذا كان هناك أحد يهمه الأمر!
الذهاب الى اوروبا يستحق المغامرة. حتى لو عوما :)))
اقيم احدث سجن في هولندا في قلب منطقة صناعية في زاندام شمال العاصمة امستردام. والسجن عائم فوق سطح احد الممرات المائية العديدة في هولندا.
ونزلاء ذلك السجن ليسوا من المساجين الجنائيين، بل هم مهاجرون غير شرعيين من مرتكبي ما يسميه الهولنديون "جرم اداري".
ويعد ذلك حلا لمشكلة واجهتها السلطات في نهاية التسعينيات مع سعيها لفصل المهاجرين غير الشرعيين عن المجرمين العاديين في وقت تشهد فيه السجون تكدسا.
ونقلت البي بي سي عن اريك نيجمان من وزارة العدل الهولندية قوله : "من السهل توفير مكان على سطح المياه عن الحصول على ارض، كما انه سهل البناء"، ويضيف ان السجن العائم اكثر مرونة "فاذا كانت لدينا مشكلة في امستردام مثلا يمكن نقلهم بحرا".
بني السجن على جدارين من الخرسانة مثبتين على رصيفين من الحديد، وبجوار حوض للخشب، ويتم الوصول اليه عبر جسر صغير.
وملحق به ملاعب خارجية كما يضم ملاعب للتنس وكرة الطاولة.
وتضم كل زنزانة سريرين ومكتبا وثلاجة وتلفزيون وحتى ماكينة للقهوة، وبكل زنزانة حمام ومرحاض. ويتسع السجن لعدد 576 من النزلاء.
ورغم كل تلك التجهيزات ويبل الراحة، يبقى السجن سجنا. فالزنازين تغلق من الخامسة مساء الى الثامنة صباحا، ويمكن ان يقضي النزلاء ستة اشهر او اكثر بينما تعمل السلطات على تحديد اوضاعهم واقناعهم بالعودة الى بلادهم طوعا.
وتلعب المنظمة الدولية للهجرة دورا رئيسيا في ذلك بمحاولة اغراء هؤلاء بالعودة لاوطانهم وتوفر لهم بطاقات وجوازات السفر وحتى الاموال.
ورغم انهم لا يحبذون سجن المهاجرين غير الشرعيين، الا انهم يريدون فصلهم عن المجرمين. ولا تتعقب الشرطة الهولندية المهاجرين عمدا، لكن اذا استجوب شخص ولم تكن لديه الاوراق المناسبة يحتجز.
ونزلاء ذلك السجن ليسوا من المساجين الجنائيين، بل هم مهاجرون غير شرعيين من مرتكبي ما يسميه الهولنديون "جرم اداري".
ويعد ذلك حلا لمشكلة واجهتها السلطات في نهاية التسعينيات مع سعيها لفصل المهاجرين غير الشرعيين عن المجرمين العاديين في وقت تشهد فيه السجون تكدسا.
ونقلت البي بي سي عن اريك نيجمان من وزارة العدل الهولندية قوله : "من السهل توفير مكان على سطح المياه عن الحصول على ارض، كما انه سهل البناء"، ويضيف ان السجن العائم اكثر مرونة "فاذا كانت لدينا مشكلة في امستردام مثلا يمكن نقلهم بحرا".
بني السجن على جدارين من الخرسانة مثبتين على رصيفين من الحديد، وبجوار حوض للخشب، ويتم الوصول اليه عبر جسر صغير.
وملحق به ملاعب خارجية كما يضم ملاعب للتنس وكرة الطاولة.
وتضم كل زنزانة سريرين ومكتبا وثلاجة وتلفزيون وحتى ماكينة للقهوة، وبكل زنزانة حمام ومرحاض. ويتسع السجن لعدد 576 من النزلاء.
ورغم كل تلك التجهيزات ويبل الراحة، يبقى السجن سجنا. فالزنازين تغلق من الخامسة مساء الى الثامنة صباحا، ويمكن ان يقضي النزلاء ستة اشهر او اكثر بينما تعمل السلطات على تحديد اوضاعهم واقناعهم بالعودة الى بلادهم طوعا.
وتلعب المنظمة الدولية للهجرة دورا رئيسيا في ذلك بمحاولة اغراء هؤلاء بالعودة لاوطانهم وتوفر لهم بطاقات وجوازات السفر وحتى الاموال.
ورغم انهم لا يحبذون سجن المهاجرين غير الشرعيين، الا انهم يريدون فصلهم عن المجرمين. ولا تتعقب الشرطة الهولندية المهاجرين عمدا، لكن اذا استجوب شخص ولم تكن لديه الاوراق المناسبة يحتجز.
عملا سفليا
أحمد المسلماني
كنا طلبة في كلية الاقتصاد والعلوم السياسية في جامعة القاهرة، وفي إحدي المحاضرات الخاصة بالنظام السياسي العربي سألنا الأستاذ: ما السبب الرئيسي في أزمة النظام العربي؟ وقد قلت وقال زملائي كلاما كثيرا وكبيرا.. ثم سكت الأستاذ وقال: أهذه كل الأسباب؟ ألا يوجد أي سبب آخر؟ وكان ذلك تحديا لطلبة بارعين ومغرورين يستعد العامة فيهم لمنصب السفير، ويتجاوز الخاصة فيهم حلم الوزير، وانطلقنا نقول قولا عظيما في أسباب الأزمة.
صمت الأستاذ مبتسما ثم قال: لماذا تفكرون دوما علي أساس المنطق؟ ولماذا تقصرون تحليلاتكم علي علم السياسة؟ لماذا تتصورون أن وراء كل قرار سياسي حكمة بالغة أو حسابات معقدة؟ ثم قال ضاحكا: إن أزمة النظام العربي تتجاوز علم السياسة، وهي أصعب من علم النفس وعلم الاجتماع.. إن حال العالم العربي كله خارج العلم، إنني أتصور أن الأساس في أزمة العالم العربي هو «عمل سُفلي من أعمال السحر»، ربما تكون هناك دولة شيطانية قد ذهبت إلي كبار السحرة «وعملت (عمل) للعالم العربي»، وألقت هذا العمل في قاع المحيط، وربما لا نكون في احتياج لعلماء سياسة، يشرحون لنا كيفية الحل، وربما نكون في حاجة إلي مشعوذين كبار يمكنهم الإتيان بـ«العمل» من قاع المحيط!
لقد كانت هذه الواقعة دافعا دائما لي، للنظر أحيانا فيما وراء العلم.. وكنت كلما وجدت عجزا في فهم أداء السياسة المصرية، وهو عجز نابع من عجز علم السياسة عن فهم ما الذي يجري في مصر ـ كنت كلما وجدت ذلك تذكرت محاضرة أستاذنا، لماذا لا تكون الإجابة خارج نطاق العلم.
إن علم السياسة لا يستطيع أن يشرح الحالة المصرية، ما الذي يقوله العلم في دولة بدأت تجربة النهضة فيها قبل اليابان، ثم انتهت إلي قرب الصومال؟ ما الذي يقوله العلم في عصر عبدالناصر أو عصر السادات أو عصر الرئيس مبارك؟ ما الذي يقوله في جماعة الحكومة وفي الإخوان المسلمين، في فريقين يلعبان بوطن كامل، بالنقابات والجامعات والمؤسسات، وطن جري اختصاره بين من يتاجرون بالدنيا ومن يتاجرون بالآخرة؟!
ما الذي يقوله العلم في حكومة تطلق علي محطات الكهرباء «العصر النووي»، وتناضل ضد «ضغوط الخارج»، بينما يتنافس «الموردون النوويون»، وقد يقدمون رشاوي للفوز بمناقصات المشروع؟
ما الذي يقوله العلم في بلد ينشغل شهرا بقضية «بول الرسول» وشهرا بقضية «إرضاع الكبير» وشهرا «بالرسومات الدنماركية» وشهرا بقوائم الأمن والإخوان في انتخابات الجامعات، وشهرا بالقوائم ذاتها في انتخابات النقابات، وشهرا بتوحيد الرؤية لهلال شهر رمضان، وشهرا بمؤتمر الحزب الجمهوري الحاكم، ودهرا بفتاوي أصحاب الفضيلة من مفتي الديار إلي الإمام الأكبر؟!
ما الذي يقوله العلم في علامات الساعة الصغري والكبري والوسيطة، قيادات صحفية لا تجيد الكتابة، وقيادات تعليمية لم تحصل تعليما مفيدا، وقيادات اقتصادية، قال وزير الزراعة فيها إنه فشل في زراعة أرضه وقيادات دبلوماسية، تعرف القليل عن الدبلوماسية ولا تعرف القليل ولا الكثير عن السياسة الخارجية، وقيادات سياسية تفكر ألف مرة قبل أن تتخذ القرار الخطأ؟
ثمة شخص يكره هذا الوطن، وقد استطاع أن يقنع كبير السحرة بأن يكتب له «عملا سفليا»، ثم ألقاه في غياهب البحر.. لقد أضحت مصر خارج علم السياسة!
كنا طلبة في كلية الاقتصاد والعلوم السياسية في جامعة القاهرة، وفي إحدي المحاضرات الخاصة بالنظام السياسي العربي سألنا الأستاذ: ما السبب الرئيسي في أزمة النظام العربي؟ وقد قلت وقال زملائي كلاما كثيرا وكبيرا.. ثم سكت الأستاذ وقال: أهذه كل الأسباب؟ ألا يوجد أي سبب آخر؟ وكان ذلك تحديا لطلبة بارعين ومغرورين يستعد العامة فيهم لمنصب السفير، ويتجاوز الخاصة فيهم حلم الوزير، وانطلقنا نقول قولا عظيما في أسباب الأزمة.
صمت الأستاذ مبتسما ثم قال: لماذا تفكرون دوما علي أساس المنطق؟ ولماذا تقصرون تحليلاتكم علي علم السياسة؟ لماذا تتصورون أن وراء كل قرار سياسي حكمة بالغة أو حسابات معقدة؟ ثم قال ضاحكا: إن أزمة النظام العربي تتجاوز علم السياسة، وهي أصعب من علم النفس وعلم الاجتماع.. إن حال العالم العربي كله خارج العلم، إنني أتصور أن الأساس في أزمة العالم العربي هو «عمل سُفلي من أعمال السحر»، ربما تكون هناك دولة شيطانية قد ذهبت إلي كبار السحرة «وعملت (عمل) للعالم العربي»، وألقت هذا العمل في قاع المحيط، وربما لا نكون في احتياج لعلماء سياسة، يشرحون لنا كيفية الحل، وربما نكون في حاجة إلي مشعوذين كبار يمكنهم الإتيان بـ«العمل» من قاع المحيط!
لقد كانت هذه الواقعة دافعا دائما لي، للنظر أحيانا فيما وراء العلم.. وكنت كلما وجدت عجزا في فهم أداء السياسة المصرية، وهو عجز نابع من عجز علم السياسة عن فهم ما الذي يجري في مصر ـ كنت كلما وجدت ذلك تذكرت محاضرة أستاذنا، لماذا لا تكون الإجابة خارج نطاق العلم.
إن علم السياسة لا يستطيع أن يشرح الحالة المصرية، ما الذي يقوله العلم في دولة بدأت تجربة النهضة فيها قبل اليابان، ثم انتهت إلي قرب الصومال؟ ما الذي يقوله العلم في عصر عبدالناصر أو عصر السادات أو عصر الرئيس مبارك؟ ما الذي يقوله في جماعة الحكومة وفي الإخوان المسلمين، في فريقين يلعبان بوطن كامل، بالنقابات والجامعات والمؤسسات، وطن جري اختصاره بين من يتاجرون بالدنيا ومن يتاجرون بالآخرة؟!
ما الذي يقوله العلم في حكومة تطلق علي محطات الكهرباء «العصر النووي»، وتناضل ضد «ضغوط الخارج»، بينما يتنافس «الموردون النوويون»، وقد يقدمون رشاوي للفوز بمناقصات المشروع؟
ما الذي يقوله العلم في بلد ينشغل شهرا بقضية «بول الرسول» وشهرا بقضية «إرضاع الكبير» وشهرا «بالرسومات الدنماركية» وشهرا بقوائم الأمن والإخوان في انتخابات الجامعات، وشهرا بالقوائم ذاتها في انتخابات النقابات، وشهرا بتوحيد الرؤية لهلال شهر رمضان، وشهرا بمؤتمر الحزب الجمهوري الحاكم، ودهرا بفتاوي أصحاب الفضيلة من مفتي الديار إلي الإمام الأكبر؟!
ما الذي يقوله العلم في علامات الساعة الصغري والكبري والوسيطة، قيادات صحفية لا تجيد الكتابة، وقيادات تعليمية لم تحصل تعليما مفيدا، وقيادات اقتصادية، قال وزير الزراعة فيها إنه فشل في زراعة أرضه وقيادات دبلوماسية، تعرف القليل عن الدبلوماسية ولا تعرف القليل ولا الكثير عن السياسة الخارجية، وقيادات سياسية تفكر ألف مرة قبل أن تتخذ القرار الخطأ؟
ثمة شخص يكره هذا الوطن، وقد استطاع أن يقنع كبير السحرة بأن يكتب له «عملا سفليا»، ثم ألقاه في غياهب البحر.. لقد أضحت مصر خارج علم السياسة!
Sunday, November 18, 2007
الريس في إشارة قصر العيني
د. سحر الموجي
تابعت باهتمام شديد أخبار خطاب الرئيس في البرلمان منذ قبل موعد الخطاب. و علي هنا أن أقدم اعترافا مؤلما وهو أن السبب الرئيسي لمتابعتي أخبار الخطاب كان برجماتياً بحتاً وغير نبيل بالمرة ذلك أنني للأسف الشديد أعطي محاضرة في يوم الأربعاء الذي سيصادف نفس يوم الخطاب.
كان قراري واضحا بالذهاب إلي الجامعة ذلك اليوم. وددت لو منحت نفسي إجازة مثلما حدث مع موظفي الديوان العام لوزارة الصحة فلم يشتغلوا ذلك اليوم (اللهم لا حسد) ولكن لم يحدث طبعا. كيف سأذهب إلي الجامعة والإدارة العامة لمرور القاهرة تعلن إعداد محاور مرورية جديدة لتكون بديلا لشارع قصر العيني وللعروبة وكوبري ٦ أكتوبر!
ورغم قلقي وعزمي علي تنفيذ خطتي بالنط من فوق السور والوصول إلي الجامعة، فإنني أيضا شعرت بالتسلي وأنا أقرأ أخبار الاستعدادات الحربية.. أقصد الأمنية المكثفة لهذا اليوم: شوارع بديلة وإجازات رسمية لبعض الإدارات الحكومية في المنطقة وأمن مركزي وإزالة مخالفات طرق وإلغاء انتظار السيارات وإغلاق شوارع جانبية...... ياه يا جدعان ما هذه الشطارة والهمة. ولماذا لا تتجلي في كل الأوقات ولخدمة ملايين المصريين المعذبين يوميا في هذه الشوارع.
وبعد وقت طويل تفحصت فيه جوانب المشكلة لم أصل إلي أي يقين فقررت التوكل علي الله وإلقاء نفسي في شارع قصر العيني شخصيا مع التأكد من التحرك قبل موعد التدريس بثلاث أو أربع ساعات. وعندما وقفت مع باقي المواطنين في مدخل قصر العيني وأطفأنا مواتير السيارات سرحت بذهني بعيدا عما يحدث حولي ودخلت قاصدة إلي عالم خيالي (يكفيكم شر الداء الروائي البطال). قررت أن أرسم سيناريو للرئيس في إشارة مرور.
يبدأ الرئيس يومه بابتسامة عريضة ويفاجئ من حوله بقراره أن يعيش يوما عاديا لمواطن مصري عادي و ليس بـ«شَرطة»، فيلغي المواكب ويأمر الأمن أن يترك البلد كما هي لأنه يريد أن يعيش هذه التجربة. يترك وراءه الهليكوبتر ويركب سيارة يقودها أشطر سائق لديه. . وبعد الرحلة المريرة خروجا من نفق العروبة ومرورا بكوبري أكتوبر وفوقه تشكيلة من مشاهد متناثرة لسائقين تتلامس سياراتهم فتندلع نيران الشتائم والسباب ولا مانع من مشهد ضرب سريع.
وفي لطعة طويلة علي كوبري أكتوبر يشاهد الرئيس الميكروباصات التي تبخ سموما سوداء مرة الطعم في أوجه البشر ويتأمل سحنة الكآبة التي أصبحت ترتسم فوق ملامح المصريين، مولد كلاكسات ودوشة وأطفال شوارع بعلب الكلينكس وعربات كارو تسير عكس الاتجاه، يصل الرئيس إلي مجلس الشعب وبدلا من التحدث عن إنجازات الحكومة خلال الدورة البرلمانية المنتهية فإنه يسأل الحكومة عن شكل الشارع المصري وكيف تتوقع الحكومة من الناس أداء أعمالهم بكفاءة بعد ساعات من المرمطة في الشوارع.
كما يسألها أيضا عن كل أطفال الشوارع الذين يرتعون في الإشارات ولماذا نسيت حل مشكلة هؤلاء الملايين الذي لم تر مصر حجما كبيرا لهم مثل الآن بعد أن كانت الحكومة منذ شهور قليلة تتحدث باستمرار عن هذه المشكلة. سيسأل الرئيس ألف سؤال يتماس مع هواجس كل مواطن مصري.
لو عاش الرئيس يوما قاهريا تماما في شكل مروره لغير من وجهة نظره في العديد من القضايا ولتقلص في عينيه حجم الإنجازات الحكومية. لو وصل إلي المجلس متعبا يكاد لا يملك طاقة الحديث لفهم تضاؤل حجم إنتاجيتنا كشعب، ولعرف أحد أسباب اكتئابنا وعدوانيتنا وقسوتنا علي بعضنا البعض.
لكن إن ظل يذهب إلي مكان إلقاء خطابه في هليكوبتر ومنها إلي موكب مهيب لا تتعدي مسيرته دقائق بسيطة وعندما ينظر حوله يري ساحات انتظار سيارات هادئة لأنها شاغرة (لا عدة صفوف من السيارات علي جانبي الشوارع) ويمتع عينيه بأصص زرع وحاجات جميلة (كأنها مصر منذ خمسين عاما) من البديهي أن يحدثنا عن إنجازات الحكومة.. استمتعت بالسيناريو لدرجة أنني قاربت علي تصديقه وتمنيت من كل قلبي أن يحدث «مش كتير علي ربنا؟».
تلفت حولي فرأيت نظرات الامتعاض النارية توجه إلي كالقذائف من سائقي السيارات القريبين مني بسبب الابتسامة التي تسربت رغما عني كأن عيونهم تسألني بدهشة «إنت شايفة حاجة تبسط في اللي إحنا فيه؟».
استعدت التكشيرة تضامنا مع إخوتي المواطنين وانتقلت إلي التفكير في سيناريو آخر أتفنن في رسمه إلي أن تتحرك السيارات.
تابعت باهتمام شديد أخبار خطاب الرئيس في البرلمان منذ قبل موعد الخطاب. و علي هنا أن أقدم اعترافا مؤلما وهو أن السبب الرئيسي لمتابعتي أخبار الخطاب كان برجماتياً بحتاً وغير نبيل بالمرة ذلك أنني للأسف الشديد أعطي محاضرة في يوم الأربعاء الذي سيصادف نفس يوم الخطاب.
كان قراري واضحا بالذهاب إلي الجامعة ذلك اليوم. وددت لو منحت نفسي إجازة مثلما حدث مع موظفي الديوان العام لوزارة الصحة فلم يشتغلوا ذلك اليوم (اللهم لا حسد) ولكن لم يحدث طبعا. كيف سأذهب إلي الجامعة والإدارة العامة لمرور القاهرة تعلن إعداد محاور مرورية جديدة لتكون بديلا لشارع قصر العيني وللعروبة وكوبري ٦ أكتوبر!
ورغم قلقي وعزمي علي تنفيذ خطتي بالنط من فوق السور والوصول إلي الجامعة، فإنني أيضا شعرت بالتسلي وأنا أقرأ أخبار الاستعدادات الحربية.. أقصد الأمنية المكثفة لهذا اليوم: شوارع بديلة وإجازات رسمية لبعض الإدارات الحكومية في المنطقة وأمن مركزي وإزالة مخالفات طرق وإلغاء انتظار السيارات وإغلاق شوارع جانبية...... ياه يا جدعان ما هذه الشطارة والهمة. ولماذا لا تتجلي في كل الأوقات ولخدمة ملايين المصريين المعذبين يوميا في هذه الشوارع.
وبعد وقت طويل تفحصت فيه جوانب المشكلة لم أصل إلي أي يقين فقررت التوكل علي الله وإلقاء نفسي في شارع قصر العيني شخصيا مع التأكد من التحرك قبل موعد التدريس بثلاث أو أربع ساعات. وعندما وقفت مع باقي المواطنين في مدخل قصر العيني وأطفأنا مواتير السيارات سرحت بذهني بعيدا عما يحدث حولي ودخلت قاصدة إلي عالم خيالي (يكفيكم شر الداء الروائي البطال). قررت أن أرسم سيناريو للرئيس في إشارة مرور.
يبدأ الرئيس يومه بابتسامة عريضة ويفاجئ من حوله بقراره أن يعيش يوما عاديا لمواطن مصري عادي و ليس بـ«شَرطة»، فيلغي المواكب ويأمر الأمن أن يترك البلد كما هي لأنه يريد أن يعيش هذه التجربة. يترك وراءه الهليكوبتر ويركب سيارة يقودها أشطر سائق لديه. . وبعد الرحلة المريرة خروجا من نفق العروبة ومرورا بكوبري أكتوبر وفوقه تشكيلة من مشاهد متناثرة لسائقين تتلامس سياراتهم فتندلع نيران الشتائم والسباب ولا مانع من مشهد ضرب سريع.
وفي لطعة طويلة علي كوبري أكتوبر يشاهد الرئيس الميكروباصات التي تبخ سموما سوداء مرة الطعم في أوجه البشر ويتأمل سحنة الكآبة التي أصبحت ترتسم فوق ملامح المصريين، مولد كلاكسات ودوشة وأطفال شوارع بعلب الكلينكس وعربات كارو تسير عكس الاتجاه، يصل الرئيس إلي مجلس الشعب وبدلا من التحدث عن إنجازات الحكومة خلال الدورة البرلمانية المنتهية فإنه يسأل الحكومة عن شكل الشارع المصري وكيف تتوقع الحكومة من الناس أداء أعمالهم بكفاءة بعد ساعات من المرمطة في الشوارع.
كما يسألها أيضا عن كل أطفال الشوارع الذين يرتعون في الإشارات ولماذا نسيت حل مشكلة هؤلاء الملايين الذي لم تر مصر حجما كبيرا لهم مثل الآن بعد أن كانت الحكومة منذ شهور قليلة تتحدث باستمرار عن هذه المشكلة. سيسأل الرئيس ألف سؤال يتماس مع هواجس كل مواطن مصري.
لو عاش الرئيس يوما قاهريا تماما في شكل مروره لغير من وجهة نظره في العديد من القضايا ولتقلص في عينيه حجم الإنجازات الحكومية. لو وصل إلي المجلس متعبا يكاد لا يملك طاقة الحديث لفهم تضاؤل حجم إنتاجيتنا كشعب، ولعرف أحد أسباب اكتئابنا وعدوانيتنا وقسوتنا علي بعضنا البعض.
لكن إن ظل يذهب إلي مكان إلقاء خطابه في هليكوبتر ومنها إلي موكب مهيب لا تتعدي مسيرته دقائق بسيطة وعندما ينظر حوله يري ساحات انتظار سيارات هادئة لأنها شاغرة (لا عدة صفوف من السيارات علي جانبي الشوارع) ويمتع عينيه بأصص زرع وحاجات جميلة (كأنها مصر منذ خمسين عاما) من البديهي أن يحدثنا عن إنجازات الحكومة.. استمتعت بالسيناريو لدرجة أنني قاربت علي تصديقه وتمنيت من كل قلبي أن يحدث «مش كتير علي ربنا؟».
تلفت حولي فرأيت نظرات الامتعاض النارية توجه إلي كالقذائف من سائقي السيارات القريبين مني بسبب الابتسامة التي تسربت رغما عني كأن عيونهم تسألني بدهشة «إنت شايفة حاجة تبسط في اللي إحنا فيه؟».
استعدت التكشيرة تضامنا مع إخوتي المواطنين وانتقلت إلي التفكير في سيناريو آخر أتفنن في رسمه إلي أن تتحرك السيارات.
بلد المليون غريق
الآن يمكنني الافتخار بقريتي «برج مغيزل»، أقدم القري المصرية والتي ورد ذكرها في كتاب عجائب الآثار في التراجم والأخبار للجبرتي ثلاث مرات، ثم كاد يطويها النسيان ويحطمها الإهمال الذي قضي علي أحلام شبابها، فتحطمت معه جميع الأرقام القياسية في الفقر والمرض، في الجوع والعطش، في سوء الخدمات، وأيضا في حوادث الغرق التي جعلتها لا تكاد تخلع ملابس الحداد.
هذه القرية صارت بلا مبالغة قرية الفرص المعدومة، لا يعرف أهلها وظيفة إلا الصيد الذي انعدمت جدواه تماما الآن، ورغم ذلك ليس أمام شباب هذه القرية، والذين يحمل معظمهم أعلي الشهادات إلا مهنة الصيد وركوب البحر ليبتلع أحلامهم المتواضعة.
وأخيرا قررت هذه القرية أن تثور علي هذا الواقع، وتفرض نفسها بقوة علي الساحة المحلية بل والعالمية كي تسترجع شهرتها من جديد بالمساهمة في فوز مصر بلقب بلد المليون غريق، وذلك برحلات الموت التي تنطلق منها كل يوم، حتي أطلقوا عليها قرية الموت.
هذه القرية لم تقم كغيرها بثورة ضد البطالة أو الفقر أو العطش.. فهي لا تري فائدة من نظام لا يري ولا يسمع ولا يتحرك إلا لمتابعة الكوارث ونثر كلمات العزاء، ومن هنا قام هؤلاء بثورتهم علي الحياة نفسها، ورفعوا شعار اطلب الموت توهب لك الحياة.
ولا يكاد يمر يوم الآن إلا ونسمع عن رحلة بهدف النجاة من جحيم الواقع بحثا عمن يمنحهم وسام الإنسانية، ويمن عليهم بفرصة لحياة آدمية، أو الاستقرار في قاع البحر فربما كانت حيتانه أكثر رحمة من الحيتان الآدمية الذين نعيش بينهم الآن، والذين هم يملكون كل شيء بينما بقية الشعب لا يملكون شيئا.
أذهب كل يوم لبائع الصحف أتطلع إلي المانشيتات السوداء التي تنعي زملاء الطفولة، وأسترجع هذه الذكريات التي جمعتني بهؤلاء الشباب ،هذه الأحلام التي كانت تكبر معنا كل يوم ،نقفز بها من نوافذ المدرسة قبل أن ينهار سقفها علينا، هذه الأحلام التي كانت شمعة نذاكر عليها دروسنا عندما ينقطع التيار الكهربائي بعد كل عاصفة ونتحدي بها قسوة الحياة وليالي الشتاء الطويلة التي كانت تعني انعدام الدخل بسبب النوات المستمرة والتي تمنع رحلات الصيد، أنعي أحلامنا التي كانت شامخة كأشجار النخيل التي تملأ القرية، قبل أن تحطمها الأمواج العاتية، وقبل أن تصادرها فتوي فضيلة المفتي ليخسر هؤلاء أخراهم، بعد أن حرموا من دنياهم هذه الفتوي التي مثلت بالقتيل تطييبا لخاطر الجناة، كي لا تنزعج ضمائرهم المعدومة.
مهندس ـ علي درويش
هذه القرية صارت بلا مبالغة قرية الفرص المعدومة، لا يعرف أهلها وظيفة إلا الصيد الذي انعدمت جدواه تماما الآن، ورغم ذلك ليس أمام شباب هذه القرية، والذين يحمل معظمهم أعلي الشهادات إلا مهنة الصيد وركوب البحر ليبتلع أحلامهم المتواضعة.
وأخيرا قررت هذه القرية أن تثور علي هذا الواقع، وتفرض نفسها بقوة علي الساحة المحلية بل والعالمية كي تسترجع شهرتها من جديد بالمساهمة في فوز مصر بلقب بلد المليون غريق، وذلك برحلات الموت التي تنطلق منها كل يوم، حتي أطلقوا عليها قرية الموت.
هذه القرية لم تقم كغيرها بثورة ضد البطالة أو الفقر أو العطش.. فهي لا تري فائدة من نظام لا يري ولا يسمع ولا يتحرك إلا لمتابعة الكوارث ونثر كلمات العزاء، ومن هنا قام هؤلاء بثورتهم علي الحياة نفسها، ورفعوا شعار اطلب الموت توهب لك الحياة.
ولا يكاد يمر يوم الآن إلا ونسمع عن رحلة بهدف النجاة من جحيم الواقع بحثا عمن يمنحهم وسام الإنسانية، ويمن عليهم بفرصة لحياة آدمية، أو الاستقرار في قاع البحر فربما كانت حيتانه أكثر رحمة من الحيتان الآدمية الذين نعيش بينهم الآن، والذين هم يملكون كل شيء بينما بقية الشعب لا يملكون شيئا.
أذهب كل يوم لبائع الصحف أتطلع إلي المانشيتات السوداء التي تنعي زملاء الطفولة، وأسترجع هذه الذكريات التي جمعتني بهؤلاء الشباب ،هذه الأحلام التي كانت تكبر معنا كل يوم ،نقفز بها من نوافذ المدرسة قبل أن ينهار سقفها علينا، هذه الأحلام التي كانت شمعة نذاكر عليها دروسنا عندما ينقطع التيار الكهربائي بعد كل عاصفة ونتحدي بها قسوة الحياة وليالي الشتاء الطويلة التي كانت تعني انعدام الدخل بسبب النوات المستمرة والتي تمنع رحلات الصيد، أنعي أحلامنا التي كانت شامخة كأشجار النخيل التي تملأ القرية، قبل أن تحطمها الأمواج العاتية، وقبل أن تصادرها فتوي فضيلة المفتي ليخسر هؤلاء أخراهم، بعد أن حرموا من دنياهم هذه الفتوي التي مثلت بالقتيل تطييبا لخاطر الجناة، كي لا تنزعج ضمائرهم المعدومة.
مهندس ـ علي درويش
عندما يتوحش «الفساد»
هل يعلم الذين يتحدثون عن مكافحة الفساد عن طريق لجنة وزارية إدارية أن تلك المزاعم لا تثير في نفوس المواطنين سوي مشاعر الاستخفاف وعدم التصديق؟ إن مكافحة الفساد تعني فرض احترام القوانين والتصدي لمخالفيها.. فهل بقيت في مصر قوانين تحترم ويفرض تنفيذها علي الجميع؟ انظروا لما يجري في الواقع المصري من فوضي ضاربة وسط أحراش قوانين البلطجة الموازية التي أنتجها واقع الفوضي وانسحاب دولة القانون.
الفساد أصبح هو القانون بعد أن تهاوت ـ بفعل فاعل معلوم ـ الثقة العامة في هيبة القوانين ووجوب احترامها، وفي جدوي اللجوء للقضاء كوسيلة ناجزة لاقتضاء الحقوق..
وفي هذه الجزئية لا نستطيع أن نبخس سلطاتنا التنفيذية حقها في تحقيق ذلك الإنجاز المخزي بمساهمتها الفعالة في إضعاف مرفق القضاء وعدم الاهتمام برفع كفاءته كماً أو نوعاً ابتداء، وبالاعتداء علي أحكام القضاء بالامتناع عن تنفيذها انتهاء.
ولا ننسي دور سلطة التشريع التي حرصت، علي تحنيط تشريعاتنا الأثرية العقيمة المتعلقة بالتنفيذ الجبري للأحكام وحمايتها من تسرب أي نصوص محترمة مستوردة من الخارج، كالتي تنزل أشد العقاب الأدبي والمادي والجنائي علي المعتدين علي الحقوق والممتنعين عن تنفيذ أحكام القضاء، سواء كانوا من آحاد الناس أو من الموظفين العموميين لا فرق!
إننا نعيش منظومة سياسية تنفيذية تشريعية لا يمكن أن تقود إلا إلي دعم وتكريس الفساد، وكفالة حمايته، وإفلاته من المحاسبة، من خلال ثقوب ثوب تشريعي مهلهل يخلو نسيجه من أي خيوط للرقابة الشعبية المستقلة التي تملك محاسبة جهات الرقابة الرسمية في حالة تقاعسها أو انحرافها وتواطئها مع الفساد. مطلوب جهاز رقابة إدارية مستقل وغير تابع للسلطة التنفيذية ولا غيرها، فالتابع لا يملك الرقابة علي المتبوع.. مطلوب نيابة عامة خاضعة للرقابة والمحاسبة تخضع للقانون ولا تعلوه، وذلك بإنهاء جمعها غير الصحي بين الصفتين التنفيذية والقضائية.
نريدها جهة اتهام تنفيذية تمثل المجتمع في خصومته مع الأفراد، كما هو الحال في العديد من الدول الديمقراطية العريقة، لا أن تكون خصماً وحكماً ذا سلطة قضائية.. أو نطلب علي أقل تقدير إخضاعها للقانون بإلغاء أي نص يحصن أي قرار إداري أو قضائي للنيابة العامة من الطعن أمام القضاء. فالحصانة من المحاسبة هي جوهر الاستبداد وهي منبع كل فساد.
القضاء علي الفساد ممكن دون إعادة اختراع العجلة.. فقط لو صحت النوايا وتوافرت الإرادة.. فهل من سميع؟ أم نحن نؤذن في مالطة؟
هشام المهندس ـ المحامي
الفساد أصبح هو القانون بعد أن تهاوت ـ بفعل فاعل معلوم ـ الثقة العامة في هيبة القوانين ووجوب احترامها، وفي جدوي اللجوء للقضاء كوسيلة ناجزة لاقتضاء الحقوق..
وفي هذه الجزئية لا نستطيع أن نبخس سلطاتنا التنفيذية حقها في تحقيق ذلك الإنجاز المخزي بمساهمتها الفعالة في إضعاف مرفق القضاء وعدم الاهتمام برفع كفاءته كماً أو نوعاً ابتداء، وبالاعتداء علي أحكام القضاء بالامتناع عن تنفيذها انتهاء.
ولا ننسي دور سلطة التشريع التي حرصت، علي تحنيط تشريعاتنا الأثرية العقيمة المتعلقة بالتنفيذ الجبري للأحكام وحمايتها من تسرب أي نصوص محترمة مستوردة من الخارج، كالتي تنزل أشد العقاب الأدبي والمادي والجنائي علي المعتدين علي الحقوق والممتنعين عن تنفيذ أحكام القضاء، سواء كانوا من آحاد الناس أو من الموظفين العموميين لا فرق!
إننا نعيش منظومة سياسية تنفيذية تشريعية لا يمكن أن تقود إلا إلي دعم وتكريس الفساد، وكفالة حمايته، وإفلاته من المحاسبة، من خلال ثقوب ثوب تشريعي مهلهل يخلو نسيجه من أي خيوط للرقابة الشعبية المستقلة التي تملك محاسبة جهات الرقابة الرسمية في حالة تقاعسها أو انحرافها وتواطئها مع الفساد. مطلوب جهاز رقابة إدارية مستقل وغير تابع للسلطة التنفيذية ولا غيرها، فالتابع لا يملك الرقابة علي المتبوع.. مطلوب نيابة عامة خاضعة للرقابة والمحاسبة تخضع للقانون ولا تعلوه، وذلك بإنهاء جمعها غير الصحي بين الصفتين التنفيذية والقضائية.
نريدها جهة اتهام تنفيذية تمثل المجتمع في خصومته مع الأفراد، كما هو الحال في العديد من الدول الديمقراطية العريقة، لا أن تكون خصماً وحكماً ذا سلطة قضائية.. أو نطلب علي أقل تقدير إخضاعها للقانون بإلغاء أي نص يحصن أي قرار إداري أو قضائي للنيابة العامة من الطعن أمام القضاء. فالحصانة من المحاسبة هي جوهر الاستبداد وهي منبع كل فساد.
القضاء علي الفساد ممكن دون إعادة اختراع العجلة.. فقط لو صحت النوايا وتوافرت الإرادة.. فهل من سميع؟ أم نحن نؤذن في مالطة؟
هشام المهندس ـ المحامي
عيب هذا الرجل
سليمان جودة
تكره الدولة في مصر، أن يكون لأحد من أبنائها وزن عالمي.. فإذا حدث، فإنها تحاربه، وتتجاهله، وتطارده، وتكاد تطرده.. وعندما اقترح الدكتور أحمد زويل، إنشاء جامعة مختلفة في البلد، عومل كأنه عدو، ولايزال، حتي هرب بحاله وماله وجامعته إلي قطر.. ولايزال كلما جاء اسمه، أمام المسؤولين، أصيب بعضهم بالحساسية، وراح يتحسس رأسه!!..
وهو الشيء نفسه، الذي حدث، من قبل، مع الدكتور إبراهيم شحاتة ـ يرحمه الله ـ فقد كان اقتصادياً من المعدودين علي مستوي العالم، فضلاً عن المناصب الدولية التي تقلدها.. ولكن لأنه أخرج كتاباً، سماه «وصيتي لبلادي» فقد انقلب،
فجأة، إلي شيطان لا يريد أحد في الحكومة، أن ينصت إلي كلامه، ولا يطيق له وجوداً، لا لشيء، إلا لأنه استهل الكتاب، بأن أي إصلاح حقيقي، لن يكون بغير وضع دستور مصري يليق بمصر، بدلاً من هذا المسخ الموجود حالياً!.
وكان الدكتور سعيد النجار ـ يرحمه الله هو الآخر ـ واحداً من رجال الاقتصاد الأفذاذ، ولكنه مات شبه مقهور، فقد كان معدوداً، عند الدولة، من الخصوم الذين يجب ألا يطمئن إليهم أحد، والذين يجب أن يواجهوا حرباً، في كل مكان يذهبون إليه.. ولم يكن ذنبه، سوي أنه أنشأ جمعية اسمها «النداء الجديد»، كان يريد، من خلالها، أن يؤسس لفكر ليبرالي حقيقي، في وقت تسود فيه الغوغائية، في التفكير، كما لم يحدث، من قبل، خصوصاً علي مستويات رسمية كثيرة!.. فمات الرجل، بينما صدره يتمزق علي حال الوطن!.
ومنذ يومين، حذر الدكتور مصطفي كمال طلبة، أحد القلائل المتخصصين في أنحاء الكون، في مسائل البيئة، من أن المناخ علي ظهر الأرض، يتغير عاماً بعد عام، وأن هذا يؤدي في حصيلته النهائية إلي ارتفاع منسوب الماء في البحر الأبيض المتوسط، وحين يتواصل الارتفاع بهذا المعدل، ويصل إلي ٤٠ سنتيمتراً، فإن ربع الدلتا، سوف يغرق،
بما في ذلك ـ بالطبع ـ قري الساحل الشمالي.. وقد نشرت الصحف، كلام الرجل، في صفحاتها الأولي، فكان صداه بيننا، كأنه يتحدث عن غرق شواطئ إيطاليا!.. فلا حس، ولا خبر، من جانب الذين يعنيهم الأمر، ولا أحد قال للدكتور مصطفي إنه مخطئ، أو إنه أصاب فيما قال، ولا حاجة علي الإطلاق!!.
ومنذ عدة أيام، انعقد مؤتمر عن البيئة في «فالنسيا» بإسبانيا، وفيه أجمع ألف عالم حضروه، بما يشبه إجماع مؤتمرات الحزب الوطني، علي أن الاحتباس الحراري يتسبب في ارتفاع درجة الحرارة سنوياً، ما بين ٢ و٤ درجات، وأن هذا علي المدي البعيد سوف يؤدي إلي هلاك ثلث الثروة الحيوانية في العالم، وسوف يؤدي إلي مجاعات وكوارث، من النوعية التي تقع في أعماق أفريقيا، ونتطلع إليها، بأعصاب باردة علي شاشات الفضائيات!.
لا جدال، بطبيعة الحال، في أن هذا التلوث في طقس الأرض، ناتج عن الاستخدام الواسع للطاقة المحترقة، علي امتداد قارات الدنيا، وأن المسؤول الأول عن ذلك، هو الدول الصناعية الكبري، خصوصاً الولايات المتحدة، ومن بعدها دول أوروبا، ثم تأتي من بعد ذلك الصين، وإلي جوارها الهند.. ولكن التراكمات الملوثة للحياة جاءت في الأساس،
من أمريكا ومعها أوروبا، وهما بالتالي مسؤولتان بالدرجة الأولي عن إيجاد حل لهذه المأساة، بالبحث السريع عن وسائل طاقة بديلة، تستخدم الشمس والرياح وغيرهما، بما لا يتسبب في غاية المطاف، في تلويث العالم، وغرق شواطئه، وهلاك ثرواته.
غير أن ما يخصنا، في الموضوع، هو كلام الدكتور طلبة.. فما قاله، ولايزال يقوله، جزء مما قيل في إسبانيا بإجماع، وليس أغلبية ألف رجل من علماء الأرض، كما أن الشيء المؤكد أن الدكتور طلبة، لا عنده جامعة يريد أن ينشئها لينافس بها آخرين، ويخطف منهم الأضواء، ولا عنده جمعية نداء جديد أو قديم، ولا هو يطالب بدستور عصري، أو غير عصري..
ولكنه مشفق علي مستقبل الساحل والدلتا، من فيضان تقول الحسابات العلمية، إنه قادم لا محالة.. وهو لا يريد من الذين يحكمون البلد، ويتحكمون فيه، إلا أن يقولوا لنا، ماذا بالضبط سوف يفعلون، لمواجهة ما سوف يحدث وقتها..
ولكن عيب الدكتور مصطفي، الوحيد، فيما يبدو، أنه رجل عالمي، وأن هناك من لا يحب بيننا أن يستجيب لنداءات رجال من هذا النوع، الذين هم علي درجة من طول القامة، تكشف بالضرورة قصر قامة غالبية القائمين علي الأمر داخل البلد!!.
تكره الدولة في مصر، أن يكون لأحد من أبنائها وزن عالمي.. فإذا حدث، فإنها تحاربه، وتتجاهله، وتطارده، وتكاد تطرده.. وعندما اقترح الدكتور أحمد زويل، إنشاء جامعة مختلفة في البلد، عومل كأنه عدو، ولايزال، حتي هرب بحاله وماله وجامعته إلي قطر.. ولايزال كلما جاء اسمه، أمام المسؤولين، أصيب بعضهم بالحساسية، وراح يتحسس رأسه!!..
وهو الشيء نفسه، الذي حدث، من قبل، مع الدكتور إبراهيم شحاتة ـ يرحمه الله ـ فقد كان اقتصادياً من المعدودين علي مستوي العالم، فضلاً عن المناصب الدولية التي تقلدها.. ولكن لأنه أخرج كتاباً، سماه «وصيتي لبلادي» فقد انقلب،
فجأة، إلي شيطان لا يريد أحد في الحكومة، أن ينصت إلي كلامه، ولا يطيق له وجوداً، لا لشيء، إلا لأنه استهل الكتاب، بأن أي إصلاح حقيقي، لن يكون بغير وضع دستور مصري يليق بمصر، بدلاً من هذا المسخ الموجود حالياً!.
وكان الدكتور سعيد النجار ـ يرحمه الله هو الآخر ـ واحداً من رجال الاقتصاد الأفذاذ، ولكنه مات شبه مقهور، فقد كان معدوداً، عند الدولة، من الخصوم الذين يجب ألا يطمئن إليهم أحد، والذين يجب أن يواجهوا حرباً، في كل مكان يذهبون إليه.. ولم يكن ذنبه، سوي أنه أنشأ جمعية اسمها «النداء الجديد»، كان يريد، من خلالها، أن يؤسس لفكر ليبرالي حقيقي، في وقت تسود فيه الغوغائية، في التفكير، كما لم يحدث، من قبل، خصوصاً علي مستويات رسمية كثيرة!.. فمات الرجل، بينما صدره يتمزق علي حال الوطن!.
ومنذ يومين، حذر الدكتور مصطفي كمال طلبة، أحد القلائل المتخصصين في أنحاء الكون، في مسائل البيئة، من أن المناخ علي ظهر الأرض، يتغير عاماً بعد عام، وأن هذا يؤدي في حصيلته النهائية إلي ارتفاع منسوب الماء في البحر الأبيض المتوسط، وحين يتواصل الارتفاع بهذا المعدل، ويصل إلي ٤٠ سنتيمتراً، فإن ربع الدلتا، سوف يغرق،
بما في ذلك ـ بالطبع ـ قري الساحل الشمالي.. وقد نشرت الصحف، كلام الرجل، في صفحاتها الأولي، فكان صداه بيننا، كأنه يتحدث عن غرق شواطئ إيطاليا!.. فلا حس، ولا خبر، من جانب الذين يعنيهم الأمر، ولا أحد قال للدكتور مصطفي إنه مخطئ، أو إنه أصاب فيما قال، ولا حاجة علي الإطلاق!!.
ومنذ عدة أيام، انعقد مؤتمر عن البيئة في «فالنسيا» بإسبانيا، وفيه أجمع ألف عالم حضروه، بما يشبه إجماع مؤتمرات الحزب الوطني، علي أن الاحتباس الحراري يتسبب في ارتفاع درجة الحرارة سنوياً، ما بين ٢ و٤ درجات، وأن هذا علي المدي البعيد سوف يؤدي إلي هلاك ثلث الثروة الحيوانية في العالم، وسوف يؤدي إلي مجاعات وكوارث، من النوعية التي تقع في أعماق أفريقيا، ونتطلع إليها، بأعصاب باردة علي شاشات الفضائيات!.
لا جدال، بطبيعة الحال، في أن هذا التلوث في طقس الأرض، ناتج عن الاستخدام الواسع للطاقة المحترقة، علي امتداد قارات الدنيا، وأن المسؤول الأول عن ذلك، هو الدول الصناعية الكبري، خصوصاً الولايات المتحدة، ومن بعدها دول أوروبا، ثم تأتي من بعد ذلك الصين، وإلي جوارها الهند.. ولكن التراكمات الملوثة للحياة جاءت في الأساس،
من أمريكا ومعها أوروبا، وهما بالتالي مسؤولتان بالدرجة الأولي عن إيجاد حل لهذه المأساة، بالبحث السريع عن وسائل طاقة بديلة، تستخدم الشمس والرياح وغيرهما، بما لا يتسبب في غاية المطاف، في تلويث العالم، وغرق شواطئه، وهلاك ثرواته.
غير أن ما يخصنا، في الموضوع، هو كلام الدكتور طلبة.. فما قاله، ولايزال يقوله، جزء مما قيل في إسبانيا بإجماع، وليس أغلبية ألف رجل من علماء الأرض، كما أن الشيء المؤكد أن الدكتور طلبة، لا عنده جامعة يريد أن ينشئها لينافس بها آخرين، ويخطف منهم الأضواء، ولا عنده جمعية نداء جديد أو قديم، ولا هو يطالب بدستور عصري، أو غير عصري..
ولكنه مشفق علي مستقبل الساحل والدلتا، من فيضان تقول الحسابات العلمية، إنه قادم لا محالة.. وهو لا يريد من الذين يحكمون البلد، ويتحكمون فيه، إلا أن يقولوا لنا، ماذا بالضبط سوف يفعلون، لمواجهة ما سوف يحدث وقتها..
ولكن عيب الدكتور مصطفي، الوحيد، فيما يبدو، أنه رجل عالمي، وأن هناك من لا يحب بيننا أن يستجيب لنداءات رجال من هذا النوع، الذين هم علي درجة من طول القامة، تكشف بالضرورة قصر قامة غالبية القائمين علي الأمر داخل البلد!!.
« كتالوج» الحكم الرشيد
د. معتز بالله عبد الفتاح
أصل التقدم واحد وله كتالوج عالمي يحتوي علي مبادئ عامة نعرفها استنباطا من الهدي السماوي أو استقراء بالخبرة والتجربة ولابد في النهاية أن يلتقيا لأن صحيح المنقول لابد وأن يتفق مع صحيح المعقول. ولنتأمل العبارات التالية ومدي تشابهها:
1- قال الله تعالي: "وإذا قلتم فاعدلوا ولو كان ذا قربي وبعهد الله أوفوا"
2- ابن خلدون: "الظلم مؤذن بخراب العمران."
3- فرانسيس بيكون: "إذا لم تحترم الدولة قواعد العدالة، فإن العدالة لن تحترم قواعد الدولة.
"4- أبو حامد الغزالي: "العدل أساس الملك."
5- مارتن لوثر كنج: "إن الظلم في أي مكان أو مجال تهديد مباشر للعدل في كل مكان وكل مجال.
"6- ابن تيمية: "إن الله يقيم الدولة العادلة وإن كانت كافرة، ولا يقيم الدولة الظالمة وإن كانت مؤمنة."
7- رينهولد نيبور: "إن نزعة الإنسان نحو العدل هو ما يجعل الديمقراطية ممكنة، ونزعة الإنسان نحو الظلم هو ما يجعل الديمقراطية ضرورية.
"8- برنامج الحكم الرشيد ومكافحة الفساد التابع للبنك الدولي: "إن وجود قواعد شفافة وقوانين محترمة من الجميع تصدر عن جهات منتخبة بكل نزاهة وعدالة ناجزة وسريعة يعد من أهم مؤشرات الحكم الرشيد بما يعنيه ذلك من سرعة إنجاز العمل، وإشاعة ثقافة من الثقة بين جهاز الدولة والمجتمعين المحلي والعالمي وقابلية الاقتصاد لاستقبال الاستثمارات الأجنبية."
ولنتأمل الشروط الثلاثة التي يوردها المتخصصون في الحكم الرشيد، وهي: أولا: وجود قواعد قانونية نزيهة تصدر عن جهة تحظي بمصداقية، وهذه القواعد ليست قواعد مثالية عليا فقط (مثل كرامة الإنسان واحترام حق الملكية الخاصة) وإنما لابد أن يكون فيها من التحديد الذي لا يتناقض مع خاصيتي العمومية والتجريد. ويصاب المجتمع بآفة هائلة إن لم توجد هذه القواعد، أو أن تكون غير مكتملة، أو أن تكون حمالة أوجه، أو أن تكون الجهة المسئولة عن إصدار هذه القواعد لا يعرف عنها النزاهة. وفي مصر يوجد ما يثير التأمل في هذا الصدد، فقد أحال الدستور إلي مجلس الشعب مسئولية إصدار قانون لمحاكمة الوزراء ولكن لم يقدم مجلس الشعب علي سن هذا التشريع حتي الآن. ثانيا: احترام جميع المؤسسات لجميع القواعد. تقول الكتب المتخصصة في الحكم الرشيد إنه لا ينبغي أن يكون هناك احترام انتقائي لبعض القواعد علي حساب البعض الآخر، وهو ما يؤدي عادة إلي أن تكبر كرة الثلج حتي يكون احترام القواعد هو الاستثناء، فلا تكون هذه القواعد نوعا من الشعارات السياسية وإنما أن تكون جزءا من قواعد الجهاز الإداري والتنفيذي ويراقبها الجهاز القضائي، وتكون الدولة ذاتها أول من يحترمها، والمشكلة التي تواجهنا في مصر وجود العديد من أحكام المحاكم التي لم تنفذ والتي تبدو معها السلطة التنفيذية كأول من لا يحترم القانون، كل القانون. ولكن المشكلة تتمثل أيضا في عدم حرص مجلس الشعب علي أن يكون فوق مستوي الشبهات أمام الشعب، فالأولي باحترام قواعد العدالة هم القائمون علي التشريع باسم العدالة نفسها، وهذا ما يضع مجلس الشعب المصري في مأزق المادة 93 الخاصة بحق مجلس الشعب في الفصل في صحة عضويته بعد الاطلاع علي تقارير محكمة النقض، وعلي هذا يكون المجلس خصما وحكما في صحة عضوية أعضائه علي نحو يتيح للأغلبية الحق في التخلص من القوي النابضة في المعارضة ومن ثم تدجين الكثير من العناصر التي لها حصانة برلمانية بحكم المنصب وفقا للدستور. بل إن الإبقاء علي هذه المادة دون تعديل يعطي للأغلبية في المجلس ضمنا الحق في الاحتفاظ بأعضاء نعلم يقينا أن هناك مؤاخذات كثيرة علي الطريقة التي انتخبوا بها بحكم صدور تقارير قضائية تدينهم، فيصبح المشرع الحكيم المسئول عن إصدار قوانين نزيهة تحكم المجتمع في موقع مؤاخذة بحكم عدم نزاهته في الوصول إلي مقعد البرلمان. ولست مغاليا إن قلت إن تعديل هذه المادة وحدها بحيث يكون اختصاص محكمة النقض أو غيرها من المحاكم العليا هو الفيصل في استمرار عضوية عضو مجلس الشعب كانت كفيلة بأن تعيد لقيمة العدالة مكانتها في النظام السياسي المصري. فالتزوير وشراء الأصوات ما كان ليضمن لمرشح مقعدا لو أن كل مزيف أو مزور يفقد مقعده بعد افتضاح أمره وثبوت التزوير عليه بحكم قضائي. ثالثا: ثقافة عامة تضمن ثقة المواطنين في القواعد واحترام القائمين عليها. والآفة الكبري حينما تكون الجهة التي تسن القوانين «مجلس الشعب»، ينظر إليها من قبل البعض علي أنها "كومبارس" مع اعتذارنا لحدة التعبير الذي استخدمه مثقفون آخرون لكن مجلس الشعب في سلوكه أعطي الدليل، وليس فقط القرينة - علي أن إرادته لا تحظي بالاستقلال عن إرادة رئيس الدولة. ويكفي الإشارة إلي الاتصال التليفوني الرئاسي في 14 يونيو 2005 حينما كان يناقش المجلس قانون تنظيم الانتخابات الرئاسية. وكان مطلب المعارضة والمستقلين أن يكون من ضمن شروط الترشح لمنصب الرئاسة تأدية الخدمة العسكرية وألا يكون مزدوج الجنسية وأن يقدم إقرار الذمة المالية. وقد تباري أعضاء من حزب الأغلبية في الدفاع عن القانون كما هو وكأنه قرآن نزل من السماء عليهم رغم أن التعديلات المقترحة كلها تصب في مصلحة الوطن بأي تعريف ممكن لمصلحة الوطن، لكن مصلحة شخص النائب و/أو مصلحة الحزب كانت لها الأولوية. وقد احتاج المجلس الموقر اتصالا تليفونيا من السيد الرئيس كي يذكرهم، فيما يشبه أمرا رئاسيا، بأن لمصلحة الوطن اعتبارا أيضا.
فأنا أسأل: لو قرر رئيس الجمهورية - وهو ما لا يتوقعه عاقل في ظل الرئاسة الحالية - أن يبيع الدلتا أو أن يؤجر سيناء، هل سيظل حزب الأغلبية يؤيد قراراته من قبيل الطاعة؟
أصل التقدم واحد وله كتالوج عالمي يحتوي علي مبادئ عامة نعرفها استنباطا من الهدي السماوي أو استقراء بالخبرة والتجربة ولابد في النهاية أن يلتقيا لأن صحيح المنقول لابد وأن يتفق مع صحيح المعقول. ولنتأمل العبارات التالية ومدي تشابهها:
1- قال الله تعالي: "وإذا قلتم فاعدلوا ولو كان ذا قربي وبعهد الله أوفوا"
2- ابن خلدون: "الظلم مؤذن بخراب العمران."
3- فرانسيس بيكون: "إذا لم تحترم الدولة قواعد العدالة، فإن العدالة لن تحترم قواعد الدولة.
"4- أبو حامد الغزالي: "العدل أساس الملك."
5- مارتن لوثر كنج: "إن الظلم في أي مكان أو مجال تهديد مباشر للعدل في كل مكان وكل مجال.
"6- ابن تيمية: "إن الله يقيم الدولة العادلة وإن كانت كافرة، ولا يقيم الدولة الظالمة وإن كانت مؤمنة."
7- رينهولد نيبور: "إن نزعة الإنسان نحو العدل هو ما يجعل الديمقراطية ممكنة، ونزعة الإنسان نحو الظلم هو ما يجعل الديمقراطية ضرورية.
"8- برنامج الحكم الرشيد ومكافحة الفساد التابع للبنك الدولي: "إن وجود قواعد شفافة وقوانين محترمة من الجميع تصدر عن جهات منتخبة بكل نزاهة وعدالة ناجزة وسريعة يعد من أهم مؤشرات الحكم الرشيد بما يعنيه ذلك من سرعة إنجاز العمل، وإشاعة ثقافة من الثقة بين جهاز الدولة والمجتمعين المحلي والعالمي وقابلية الاقتصاد لاستقبال الاستثمارات الأجنبية."
ولنتأمل الشروط الثلاثة التي يوردها المتخصصون في الحكم الرشيد، وهي: أولا: وجود قواعد قانونية نزيهة تصدر عن جهة تحظي بمصداقية، وهذه القواعد ليست قواعد مثالية عليا فقط (مثل كرامة الإنسان واحترام حق الملكية الخاصة) وإنما لابد أن يكون فيها من التحديد الذي لا يتناقض مع خاصيتي العمومية والتجريد. ويصاب المجتمع بآفة هائلة إن لم توجد هذه القواعد، أو أن تكون غير مكتملة، أو أن تكون حمالة أوجه، أو أن تكون الجهة المسئولة عن إصدار هذه القواعد لا يعرف عنها النزاهة. وفي مصر يوجد ما يثير التأمل في هذا الصدد، فقد أحال الدستور إلي مجلس الشعب مسئولية إصدار قانون لمحاكمة الوزراء ولكن لم يقدم مجلس الشعب علي سن هذا التشريع حتي الآن. ثانيا: احترام جميع المؤسسات لجميع القواعد. تقول الكتب المتخصصة في الحكم الرشيد إنه لا ينبغي أن يكون هناك احترام انتقائي لبعض القواعد علي حساب البعض الآخر، وهو ما يؤدي عادة إلي أن تكبر كرة الثلج حتي يكون احترام القواعد هو الاستثناء، فلا تكون هذه القواعد نوعا من الشعارات السياسية وإنما أن تكون جزءا من قواعد الجهاز الإداري والتنفيذي ويراقبها الجهاز القضائي، وتكون الدولة ذاتها أول من يحترمها، والمشكلة التي تواجهنا في مصر وجود العديد من أحكام المحاكم التي لم تنفذ والتي تبدو معها السلطة التنفيذية كأول من لا يحترم القانون، كل القانون. ولكن المشكلة تتمثل أيضا في عدم حرص مجلس الشعب علي أن يكون فوق مستوي الشبهات أمام الشعب، فالأولي باحترام قواعد العدالة هم القائمون علي التشريع باسم العدالة نفسها، وهذا ما يضع مجلس الشعب المصري في مأزق المادة 93 الخاصة بحق مجلس الشعب في الفصل في صحة عضويته بعد الاطلاع علي تقارير محكمة النقض، وعلي هذا يكون المجلس خصما وحكما في صحة عضوية أعضائه علي نحو يتيح للأغلبية الحق في التخلص من القوي النابضة في المعارضة ومن ثم تدجين الكثير من العناصر التي لها حصانة برلمانية بحكم المنصب وفقا للدستور. بل إن الإبقاء علي هذه المادة دون تعديل يعطي للأغلبية في المجلس ضمنا الحق في الاحتفاظ بأعضاء نعلم يقينا أن هناك مؤاخذات كثيرة علي الطريقة التي انتخبوا بها بحكم صدور تقارير قضائية تدينهم، فيصبح المشرع الحكيم المسئول عن إصدار قوانين نزيهة تحكم المجتمع في موقع مؤاخذة بحكم عدم نزاهته في الوصول إلي مقعد البرلمان. ولست مغاليا إن قلت إن تعديل هذه المادة وحدها بحيث يكون اختصاص محكمة النقض أو غيرها من المحاكم العليا هو الفيصل في استمرار عضوية عضو مجلس الشعب كانت كفيلة بأن تعيد لقيمة العدالة مكانتها في النظام السياسي المصري. فالتزوير وشراء الأصوات ما كان ليضمن لمرشح مقعدا لو أن كل مزيف أو مزور يفقد مقعده بعد افتضاح أمره وثبوت التزوير عليه بحكم قضائي. ثالثا: ثقافة عامة تضمن ثقة المواطنين في القواعد واحترام القائمين عليها. والآفة الكبري حينما تكون الجهة التي تسن القوانين «مجلس الشعب»، ينظر إليها من قبل البعض علي أنها "كومبارس" مع اعتذارنا لحدة التعبير الذي استخدمه مثقفون آخرون لكن مجلس الشعب في سلوكه أعطي الدليل، وليس فقط القرينة - علي أن إرادته لا تحظي بالاستقلال عن إرادة رئيس الدولة. ويكفي الإشارة إلي الاتصال التليفوني الرئاسي في 14 يونيو 2005 حينما كان يناقش المجلس قانون تنظيم الانتخابات الرئاسية. وكان مطلب المعارضة والمستقلين أن يكون من ضمن شروط الترشح لمنصب الرئاسة تأدية الخدمة العسكرية وألا يكون مزدوج الجنسية وأن يقدم إقرار الذمة المالية. وقد تباري أعضاء من حزب الأغلبية في الدفاع عن القانون كما هو وكأنه قرآن نزل من السماء عليهم رغم أن التعديلات المقترحة كلها تصب في مصلحة الوطن بأي تعريف ممكن لمصلحة الوطن، لكن مصلحة شخص النائب و/أو مصلحة الحزب كانت لها الأولوية. وقد احتاج المجلس الموقر اتصالا تليفونيا من السيد الرئيس كي يذكرهم، فيما يشبه أمرا رئاسيا، بأن لمصلحة الوطن اعتبارا أيضا.
فأنا أسأل: لو قرر رئيس الجمهورية - وهو ما لا يتوقعه عاقل في ظل الرئاسة الحالية - أن يبيع الدلتا أو أن يؤجر سيناء، هل سيظل حزب الأغلبية يؤيد قراراته من قبيل الطاعة؟
Saturday, November 17, 2007
من يتحمل مسؤولية توشكي وأخواتها؟
أسامة هيكل
لا خلاف علي ضرورة إنشاء محطات نووية مصرية لتوليد الكهرباء. بل إن الفكرة تأخرت كثيرا عن موعدها الطبيعي، الذي كان مقررا له الثمانينيات من القرن الماضي. وليس مهما إذا كان الرئيس مبارك يهدف من قراره إلي السعي لمجد شخصي، أو تسجيل فقرة في سجل التاريخ باسمه، فلا مانع أن يأخذ الرئيس حقه في هذا، مادام أنه الذي اتخذ القرار الاستراتيجي، الخاص بإنشاء المحطات النووية لتوليد الكهرباء.
وليس مهما إذا كانت الفكرة قد نشأت من فكر الرئيس شخصيا، أو من فكر أمانة السياسات بالحزب الوطني. وليس مهما إذا كانت الولايات المتحدة هي التي أعطت الضوء الأخضر لمصر، أو أن مصر هي التي اتخذت القرار أولاً، ثم باركتها الولايات المتحدة. وليس مهما مصدر الوقود النووي المستخدم في المحطات النووية المصرية، أو إلي من سيتم تسليمه بعد تشغيله.
المهم فقط أن الفكرة خرجت.. وأنها أعلنت كضرورة استراتيجية لمصر، في ظل أزمة الطاقة العالمية، المتوقعة خلال السنوات المقبلة والتي ستتأثر بها مصر سلبا.. والمهم أيضا أن تكون الفكرة مدروسة دراسة وافية ومحكمة ودقيقة، وألا تكون مجرد مغامرة فاشلة يصفق لها الناس، ثم لايجدون شيئا في أيديهم مثلما حدث في مشروعات توشكي وشرق التفريعة وشمال غرب خليج السويس.
وقد لفت نظري الأسلوب، الذي ألقي به الرئيس مبارك خطابه يوم ٢٩ أكتوبر الماضي بمحطة كهرباء شمال القاهرة.. فقد أعلن بحزم وحسم ووضوح أنه يتحمل مسؤوليته كرئيس للجمهورية عن هذا القرار الاستراتيجي.. وهذا يعني ببساطة أن الرئيس درس وناقش واطلع علي مختلف الآراء ثم اتخذ القرار، الذي يوصف بأنه استراتيجي، والذي نؤيده تماما.. ولكن السؤال: من الذي يتحمل المسؤولية الوطنية والتاريخية عن مشروعات توشكي وشرق التفريعة وخليج السويس؟
لقد أهدرت مصر مليارات لم يكن الحصول عليها سهلا علي الإطلاق.. وتبين أنها أنفقت علي مغامرات غير محسوبة.. رفضها الخبراء وأعلنوا رأيهم القاطع في هذه المشروعات، وفق دراسات علمية.. ولكن القرار كان متخذا، والتراجع كان عيبا من وجهة نظر الحكومة آنذاك.. وأصرت الحكومة علي التنفيذ.. فجاء الفشل المتوقع وأصبح حليفا لهذه المشروعات، التي لم تضف مليما لخزينة الدولة، وبدلا من أن تكون هذه المشروعات دافعة للاقتصاد المصري، أصبحت عبئا علي الميزانيات المتتالية، وتلجأ الحكومات لتدبير العجز عن طريق فرض ضرائب جديدة علي المواطنين، الذين يعانون أصلا من الغلاء ونقص الرواتب والدخول.. أي أن الفشل يدفع ثمنه المواطن وليس المسؤول عن هذا الفشل.
والتاريخ لا يسجل مرحلة حكومة الدكتور الجنزوري أو حكومة الدكتور عبيد، أو حكومة الدكتور نظيف كل علي حدة.. ولكن التاريخ سيتحدث عن فترة حكم الرئيس مبارك كفصل واحد من فصول هذا التاريخ، تماما كما نتحدث الآن عن حكم الرئيس السادات وحكم الرئيس عبد الناصر.. وربما لن يتذكر أحد اسم رئيس أي حكومة من هذه الحكومات بعد عدة سنوات. ومعني هذا أن كل هذه المشروعات الفاشلة سيتحمل مسؤوليتها التاريخية الرئيس مبارك أيضا.. فهو الذي يتحمل المسؤولية التاريخية، سواء أعلن ذلك في خطاب عام أم لم يعلن.. فهو الرئيس.. ومانعيشه حاليا هو فترة حكم مبارك.. فهل معني إعلان الرئيس مبارك تحمل المسؤولية التاريخية عن إقامة المحطات النووية السلمية أنه يتبرأ من المشروعات السابقة التي فشلت؟
لو كنت مكان الرئيس مبارك لأمرت بالتحقيق فورا مع كل مسؤول أو مستشار أعطاه النصيحة بالدخول في هذه المشروعات الفاشلة مثل توشكي وشرق التفريعة وخليج السويس.. ولو كنت مكان الرئيس لاستبعدت كل مسؤول أشار عليه بزيارة هذه المواقع مرات ومرات لترسيخ علاقته ومسؤوليته عنها.. فتوشكي لم تنتج «خيارة» تسد جزءاً من الفجوة الغذائية في مصر، رغم الإنفاق ببذخ عليها.. ومشروع تنمية شمال غرب خليج السويس لم يؤد إلي تنمية حقيقية رغم وجاهة الفكرة، فقد باعت حكومة الجنزوري المتر الواحد في هذه المنطقة الاستراتيجية بخمسة جنيهات لكل مستثمر.. وبعد أيام قليلة كان يمكن لكل منهم أن يبيع المتر نفسه بسبعين جنيها، ولكنهم لم يبيعوا فالأسعار تتزايد وتتزايد لدرجة صعوبة تحديد قيمتها الفعلية حاليا، ولم يشعر أحد بأي تأثير في الإنتاج الصناعي من هذا المشروع رغم كل الإهدار الذي تم عليه.. وقد تحول هذا المشروع الحيوي لأحد أهم مشروعات تجارة وتسقيع الأراضي في مصر.
لو كنت مكان الرئيس لأمرت بسحب هذه الأراضي التي لم يستثمرها المستثمرون بسبب سياسات حكومية فاشلة علي مدي ١٠ سنوات، وإعادتها للدولة فورا.. فمن بين مسؤوليات الرئيس التي يحاسبه عليها التاريخ، الموارد التي سيتركها للأجيال القادمة حتي يتمكنوا من تحقيق تنمية. وهذه الأرض من حق هذه الأجيال مادمنا لم ننشئ لهم فيها مشروعات تدر عائداً علي الدولة.
بكل أسف، لقد تأخرت خطوة إنشاء محطات نووية لتوليد الكهرباء في مصر.. وقد بحت أصوات الكتاب والصحفيين والمثقفين والسياسيين المعتدلين سنوات طوالا للمطالبة بهذا المشروع الاستراتيجي.. وبكل أسف، فإننا ضيعنا سنوات وأهدرنا مليارات الجنيهات في مشروعات قيل عنها وقت تدشينها إنها قومية.. فمن سيتحمل المسؤولية التاريخية عنها؟
لا خلاف علي ضرورة إنشاء محطات نووية مصرية لتوليد الكهرباء. بل إن الفكرة تأخرت كثيرا عن موعدها الطبيعي، الذي كان مقررا له الثمانينيات من القرن الماضي. وليس مهما إذا كان الرئيس مبارك يهدف من قراره إلي السعي لمجد شخصي، أو تسجيل فقرة في سجل التاريخ باسمه، فلا مانع أن يأخذ الرئيس حقه في هذا، مادام أنه الذي اتخذ القرار الاستراتيجي، الخاص بإنشاء المحطات النووية لتوليد الكهرباء.
وليس مهما إذا كانت الفكرة قد نشأت من فكر الرئيس شخصيا، أو من فكر أمانة السياسات بالحزب الوطني. وليس مهما إذا كانت الولايات المتحدة هي التي أعطت الضوء الأخضر لمصر، أو أن مصر هي التي اتخذت القرار أولاً، ثم باركتها الولايات المتحدة. وليس مهما مصدر الوقود النووي المستخدم في المحطات النووية المصرية، أو إلي من سيتم تسليمه بعد تشغيله.
المهم فقط أن الفكرة خرجت.. وأنها أعلنت كضرورة استراتيجية لمصر، في ظل أزمة الطاقة العالمية، المتوقعة خلال السنوات المقبلة والتي ستتأثر بها مصر سلبا.. والمهم أيضا أن تكون الفكرة مدروسة دراسة وافية ومحكمة ودقيقة، وألا تكون مجرد مغامرة فاشلة يصفق لها الناس، ثم لايجدون شيئا في أيديهم مثلما حدث في مشروعات توشكي وشرق التفريعة وشمال غرب خليج السويس.
وقد لفت نظري الأسلوب، الذي ألقي به الرئيس مبارك خطابه يوم ٢٩ أكتوبر الماضي بمحطة كهرباء شمال القاهرة.. فقد أعلن بحزم وحسم ووضوح أنه يتحمل مسؤوليته كرئيس للجمهورية عن هذا القرار الاستراتيجي.. وهذا يعني ببساطة أن الرئيس درس وناقش واطلع علي مختلف الآراء ثم اتخذ القرار، الذي يوصف بأنه استراتيجي، والذي نؤيده تماما.. ولكن السؤال: من الذي يتحمل المسؤولية الوطنية والتاريخية عن مشروعات توشكي وشرق التفريعة وخليج السويس؟
لقد أهدرت مصر مليارات لم يكن الحصول عليها سهلا علي الإطلاق.. وتبين أنها أنفقت علي مغامرات غير محسوبة.. رفضها الخبراء وأعلنوا رأيهم القاطع في هذه المشروعات، وفق دراسات علمية.. ولكن القرار كان متخذا، والتراجع كان عيبا من وجهة نظر الحكومة آنذاك.. وأصرت الحكومة علي التنفيذ.. فجاء الفشل المتوقع وأصبح حليفا لهذه المشروعات، التي لم تضف مليما لخزينة الدولة، وبدلا من أن تكون هذه المشروعات دافعة للاقتصاد المصري، أصبحت عبئا علي الميزانيات المتتالية، وتلجأ الحكومات لتدبير العجز عن طريق فرض ضرائب جديدة علي المواطنين، الذين يعانون أصلا من الغلاء ونقص الرواتب والدخول.. أي أن الفشل يدفع ثمنه المواطن وليس المسؤول عن هذا الفشل.
والتاريخ لا يسجل مرحلة حكومة الدكتور الجنزوري أو حكومة الدكتور عبيد، أو حكومة الدكتور نظيف كل علي حدة.. ولكن التاريخ سيتحدث عن فترة حكم الرئيس مبارك كفصل واحد من فصول هذا التاريخ، تماما كما نتحدث الآن عن حكم الرئيس السادات وحكم الرئيس عبد الناصر.. وربما لن يتذكر أحد اسم رئيس أي حكومة من هذه الحكومات بعد عدة سنوات. ومعني هذا أن كل هذه المشروعات الفاشلة سيتحمل مسؤوليتها التاريخية الرئيس مبارك أيضا.. فهو الذي يتحمل المسؤولية التاريخية، سواء أعلن ذلك في خطاب عام أم لم يعلن.. فهو الرئيس.. ومانعيشه حاليا هو فترة حكم مبارك.. فهل معني إعلان الرئيس مبارك تحمل المسؤولية التاريخية عن إقامة المحطات النووية السلمية أنه يتبرأ من المشروعات السابقة التي فشلت؟
لو كنت مكان الرئيس مبارك لأمرت بالتحقيق فورا مع كل مسؤول أو مستشار أعطاه النصيحة بالدخول في هذه المشروعات الفاشلة مثل توشكي وشرق التفريعة وخليج السويس.. ولو كنت مكان الرئيس لاستبعدت كل مسؤول أشار عليه بزيارة هذه المواقع مرات ومرات لترسيخ علاقته ومسؤوليته عنها.. فتوشكي لم تنتج «خيارة» تسد جزءاً من الفجوة الغذائية في مصر، رغم الإنفاق ببذخ عليها.. ومشروع تنمية شمال غرب خليج السويس لم يؤد إلي تنمية حقيقية رغم وجاهة الفكرة، فقد باعت حكومة الجنزوري المتر الواحد في هذه المنطقة الاستراتيجية بخمسة جنيهات لكل مستثمر.. وبعد أيام قليلة كان يمكن لكل منهم أن يبيع المتر نفسه بسبعين جنيها، ولكنهم لم يبيعوا فالأسعار تتزايد وتتزايد لدرجة صعوبة تحديد قيمتها الفعلية حاليا، ولم يشعر أحد بأي تأثير في الإنتاج الصناعي من هذا المشروع رغم كل الإهدار الذي تم عليه.. وقد تحول هذا المشروع الحيوي لأحد أهم مشروعات تجارة وتسقيع الأراضي في مصر.
لو كنت مكان الرئيس لأمرت بسحب هذه الأراضي التي لم يستثمرها المستثمرون بسبب سياسات حكومية فاشلة علي مدي ١٠ سنوات، وإعادتها للدولة فورا.. فمن بين مسؤوليات الرئيس التي يحاسبه عليها التاريخ، الموارد التي سيتركها للأجيال القادمة حتي يتمكنوا من تحقيق تنمية. وهذه الأرض من حق هذه الأجيال مادمنا لم ننشئ لهم فيها مشروعات تدر عائداً علي الدولة.
بكل أسف، لقد تأخرت خطوة إنشاء محطات نووية لتوليد الكهرباء في مصر.. وقد بحت أصوات الكتاب والصحفيين والمثقفين والسياسيين المعتدلين سنوات طوالا للمطالبة بهذا المشروع الاستراتيجي.. وبكل أسف، فإننا ضيعنا سنوات وأهدرنا مليارات الجنيهات في مشروعات قيل عنها وقت تدشينها إنها قومية.. فمن سيتحمل المسؤولية التاريخية عنها؟
Friday, November 16, 2007
أهمية الخروج علي النص والسيناريو
مفيد فوزي
نحن نحيا في زمن متغير لاهث الايقاع, ولسنا سوي دمي في يد العولمة.
نحن نستهلك التكنولوجيا أكثر من أن نشارك في صنعها(28 مليون موبايل)!
العالم من حولنا انطلق كرمح نحو المستقبل ونحن مازلنا نناقش هل كان فاروق ملكا فاسدا أم أفسدوه؟! نحن مغرمون صبابة بالكلام أكثر من العمل, نحن مازلنا ننتمي لجدول الضرب وبعض من جيراننا تجاوزوه وجاوروا الأفق.* رأينا الدنيا علي الشاشات الملونة فارتفع سقف تطلعاتنا الاستهلاكية, كان المتوقع أن نغار علي بلادنا ونحرث الأرض والبحر, لكننا انكمشنا وتسمرنا في مكاننا وعادينا الجديد لأننا نجهله وصرنا نعزف لحن الشكوي بلذة ونوزع بمتعة الاتهامات, ونوجه سهامنا الطائشة للحكم والحكومات.
علي الكراسي مسئولون يحافظون علي مواقعهم, والمثقفون مشغولون بذواتهم وممارسة التنظير بالسيجار الكوبي, والصحفيون يلعبون علي سلم النقابة لعبة التحطيب, ورجال الأعمال ينشئون قنوات فضائية تعبر عنهم وعن مصالحهم والطبقة الوسطي ـ التي أعلنوا وفاتها ـ مغموسة في الرزق ففي البيت أفواه مفتوحة ولا يهمها من الحياة سوي التزامها نحو( الولية والعيال), هؤلاء هم موتور البلد لكنه يشكو الصدأ واعتاد أن يهنج, والمجتمع المدني يسهم ولكن باستحياء, وعواجيز البلد ـ في نادي الجزيرة ـ يمارسون رياضتهم المفضلة الانتقاد والسخرية من الأوضاع, والفلاحون سقطوا سهوا من الاهتمام والصعيد يريد أن يصدق نيات الدولة الطيبة نحوهم.
تسمرنا في مقاعدنا, صرنا أسري القوالب, صار الخروج من القالب مروقا, صار الفكر غير التقليدي شغبا وصاحبه مجنون يهذي, أصبحت القيود غير مرئية ولكنها قائمة تسندها فتوي من هنا وشطحة من هناك, صار الجمود سمتنا والمشكلات تستفحل وكل صاحب رؤية مخبول اذا خرج علي النص والسيناريو مع أن الخروج علي النص والسيناريو هو صمام الأمان من تخلف وجاهلية تعشش في العقول وتعود بنا الي عهود الانحطاط والعالم من حولنا همش التفاهات والنفايات واحترم الماضي وتخلص من عبوديته وصار يحلق في التقدم بجناحيه, تلك الجسارة مطلوبة لمصر البلد العربي الإفريقي, وبدون هذه الجسارة سوف نشحت احترام العالم من علي أرصفة الزمن لنتأمل مشكلاتنا وحلولنا التقليدية ونصل الي قرار انها حلول غير مجدية
عندما ذهب وزير المالية يوسف بطرس ومعه قانون جديد للضرائب يعرضه علي رئيس الدولة لاقراره, خرج علي النص والسيناريو وادرك متغيرات العالم ولم يكن نمطيا, وكان للقانون صدي شعبي ملموس.انها ـ بلغة السياسة ـ مبادرات, والمبادرة خروج علي قضبان التقليدية والأعراف المتخلفة, هل هناك مقاومة لهذه المبادرات والخروج علي النص والسيناريو؟ الاجابة بفم مليان: نعم! هل هناك مصالح لمن يقاومون المبادرات؟ الاجابة بفم مليان: نعم! هل( المشروع القومي) الذي يجمع حوله الناس غائب؟ الإجابة: نعم!
إن من يلقي حجرا في البحيرة ليحرك مياهها الراكدة هو( المواطن) الذي يستحق رتبة( المواطنة), أما من يجلس علي حافة البحيرة متفرجا سلبيا, فهو مواطن في أمة من الغنم.
نحن نحيا في زمن متغير لاهث الايقاع, ولسنا سوي دمي في يد العولمة.
نحن نستهلك التكنولوجيا أكثر من أن نشارك في صنعها(28 مليون موبايل)!
العالم من حولنا انطلق كرمح نحو المستقبل ونحن مازلنا نناقش هل كان فاروق ملكا فاسدا أم أفسدوه؟! نحن مغرمون صبابة بالكلام أكثر من العمل, نحن مازلنا ننتمي لجدول الضرب وبعض من جيراننا تجاوزوه وجاوروا الأفق.* رأينا الدنيا علي الشاشات الملونة فارتفع سقف تطلعاتنا الاستهلاكية, كان المتوقع أن نغار علي بلادنا ونحرث الأرض والبحر, لكننا انكمشنا وتسمرنا في مكاننا وعادينا الجديد لأننا نجهله وصرنا نعزف لحن الشكوي بلذة ونوزع بمتعة الاتهامات, ونوجه سهامنا الطائشة للحكم والحكومات.
علي الكراسي مسئولون يحافظون علي مواقعهم, والمثقفون مشغولون بذواتهم وممارسة التنظير بالسيجار الكوبي, والصحفيون يلعبون علي سلم النقابة لعبة التحطيب, ورجال الأعمال ينشئون قنوات فضائية تعبر عنهم وعن مصالحهم والطبقة الوسطي ـ التي أعلنوا وفاتها ـ مغموسة في الرزق ففي البيت أفواه مفتوحة ولا يهمها من الحياة سوي التزامها نحو( الولية والعيال), هؤلاء هم موتور البلد لكنه يشكو الصدأ واعتاد أن يهنج, والمجتمع المدني يسهم ولكن باستحياء, وعواجيز البلد ـ في نادي الجزيرة ـ يمارسون رياضتهم المفضلة الانتقاد والسخرية من الأوضاع, والفلاحون سقطوا سهوا من الاهتمام والصعيد يريد أن يصدق نيات الدولة الطيبة نحوهم.
تسمرنا في مقاعدنا, صرنا أسري القوالب, صار الخروج من القالب مروقا, صار الفكر غير التقليدي شغبا وصاحبه مجنون يهذي, أصبحت القيود غير مرئية ولكنها قائمة تسندها فتوي من هنا وشطحة من هناك, صار الجمود سمتنا والمشكلات تستفحل وكل صاحب رؤية مخبول اذا خرج علي النص والسيناريو مع أن الخروج علي النص والسيناريو هو صمام الأمان من تخلف وجاهلية تعشش في العقول وتعود بنا الي عهود الانحطاط والعالم من حولنا همش التفاهات والنفايات واحترم الماضي وتخلص من عبوديته وصار يحلق في التقدم بجناحيه, تلك الجسارة مطلوبة لمصر البلد العربي الإفريقي, وبدون هذه الجسارة سوف نشحت احترام العالم من علي أرصفة الزمن لنتأمل مشكلاتنا وحلولنا التقليدية ونصل الي قرار انها حلول غير مجدية
عندما ذهب وزير المالية يوسف بطرس ومعه قانون جديد للضرائب يعرضه علي رئيس الدولة لاقراره, خرج علي النص والسيناريو وادرك متغيرات العالم ولم يكن نمطيا, وكان للقانون صدي شعبي ملموس.انها ـ بلغة السياسة ـ مبادرات, والمبادرة خروج علي قضبان التقليدية والأعراف المتخلفة, هل هناك مقاومة لهذه المبادرات والخروج علي النص والسيناريو؟ الاجابة بفم مليان: نعم! هل هناك مصالح لمن يقاومون المبادرات؟ الاجابة بفم مليان: نعم! هل( المشروع القومي) الذي يجمع حوله الناس غائب؟ الإجابة: نعم!
إن من يلقي حجرا في البحيرة ليحرك مياهها الراكدة هو( المواطن) الذي يستحق رتبة( المواطنة), أما من يجلس علي حافة البحيرة متفرجا سلبيا, فهو مواطن في أمة من الغنم.
Thursday, November 15, 2007
أسوأ مشهد في مصر، ومفتاح فهم طبيعتنا كمصريين
إبراهم عيسى
كيف تعرف مفهوم المواطنة؟
نحن لا نبحث عن المواطنة كمصطلح في قاموس للمصطلحات السياسية، ولكنك تبحث عنه كمصطلح في الحياة اليومية، أن تقف في الطابور فلا يأت من يقول لك أخرج منه، أن ترد عليه أنا مواطن وهذا حقي، إحساسك بأنك شريك في هذا الوطن، ولك قرار ولك صوت ولك حق في هذا الوطن.الحزب الوطني يتاجر دائماً بالحزب الوطني ويرددون المواطنة المواطنة، أي مواطنة يتحدثون عنها، أن أبسط حقوق المواطنة أن أضع صوتي في صندوق الانتخابات يخرج في النهاية صوتي وليس صوتك أنت، أنا أتمكن أساساً من الدخول إلى لجنة الانتخابات، أن نصبح مثل أمريكا لنا ثمن على أساس أننا من دافعي الضرائب.
هل ترى أن المواطن له حقوق لا يستغلها، أم السلطة لا تسمح له باستغلالها، أم أن المعادلة نفسها فيها المعطيين؟
المواطن له حقوق لا يستغلها، وفي نفس الوقت لا يعرف أنها حقوقه، نسى أنها حقوق، أتعرف أبشع ما حدث في مصر هو النموذج الحي في التعايش مع القبح والظلم والمواطنة الناقصة، أن مياه المجاري عندما تطفح أمام بيوتنا كمواطنين، عندما نفشل في إجبار مصلحة الصرف الصحي أو المسئولين لإصلاح العطل، نضع قوالب طوب وأسمنت ونعبر فوقها، وسط نتن الرائحة.هذا هو أسوأ مشهد في مصر، ومفتاح فهم طبيعتنا كمصريين، نقيس على هذه المجاري كل شيء آخر في حياتنا، تعايشنا مع الفساد والاستبداد، نضع طوب ونسير، ولهذا نسينا أن حقنا أن نعيش في حياة بلا مجاري.فالمشكلة أن المواطن المصري لديها حقوق لا يعلمها، وبالتالي لا يمارسها، وإن علمها وحاول ممارستها، تمنعه الدولة عن ممارستها، ولن يمكنه ممارستها إلا إذا انتزعها من الدولة، فهو صراع السؤال هل ستدفع ثمنه؟ هل تريد حقك أركض ورائه، لا يوجد شعب حرر نفسه وهو جالس في البيت.كيف تحرر رومانيا من استبداد تشاوتشيسكو، ذلك المشهد التاريخي، قامت المظاهرة وتوجه الناس إلى القصر الجمهوري، ووقفت الشرطة أمام القصر، تقدمت المظاهرة فجاءت الأوامر بإطلاق النيران، فمات الصف الأول، استمرت المظاهرة، فضربت الشرطة الصف الثاني، فماتوا لكن المظاهرة استمرت، فتركت الشرطة، المسدسات والرصاص، فدخل الشعب القصر وسحلوا تشاوتشيسكو، فالسؤال هل أنت لديك مواطنين متمسكين بحقهم لحد الشهادة والتضحية، الإجابة لا، وربنا يستر وما يحصلش كده.
إذن أنت ترى أن التغيير لن يأت إلا عن طريق الثورة أو إنقلاب؟
الوضع الذي وضعتنا فيه ثورة يوليو يجعلنا نسجد لله لكي لا تحدث ثورات أخرى، أما الانقلاب فأنها مصيبة سوداء أن يطلب شخص حقه بالانقلاب، لأنه تغيير إلى أسوأ، أما المظاهرات فأنها أشياء تجسد المواطنة، تظاهر سلمي، واستجابة الحكومة لغضب المواطن الذي يريد سحب الثقة منها، فتقيم انتخابات مبكرة، وإذا صوت الشعب ضدها تسقط الحكومة وتأتي أخرى يختبرها الشعب، إلى أن يستقر على حكومته المفضلة.
ولكن هل سيمكن للمواطنين التظاهر في ظل قانون الطوارئ؟
هذا هو السؤال الكوني مثل "البيضة هي الأولى أم الدجاجة؟" النظام سيسمح بحرية، أم ستفرض أنت حريتك على النظام، نحن نفعل بعض الوقت، ويفعل بنا بعض الوقت، وهذا هو الضغط والضغط المتبادل، الحراك، والجدل التاريخي، ووسط هذا قد تدخل عوامل أخرى غير موضوعة في الاعتبار مثل عوامل الطبيعة، تسقط الأمطار فتفرق مظاهرة، أو يمرض الرئيس، أو يموت وزير، أو يسقط مواطن بأزمة قلبية أثناء مظاهرة فتنقلب ثورة.هناك ظرف تاريخي يحدث ونحن نمهد له، وهناك مناخ معبأ بالبنزين في مصر، والسؤال هو من أين ستأتي الشرارة التي ستشعل ذلك البنزين، وليس هل هناك شرارة أم لا، السؤال من أين سيحدث، وأخشى أن يكن من خلال الفتنة الطائفية، مصر معبأة بالغاز، تلك السحابة السوداء أراها كالغاز التي قد تشتعل في أي لحظة، وهذا ما لا أتمناه، أن يخرج الغوغاء، لأن مصر لا يوجد فيها تنظيم حزبي واضح مثل وفد ما قبل الثورة، ولا يوجد فيها زعيم سياسي، هناك حالة من النقمة والغضب.أنه شيء شبيه بما كان في أحداث 17 و18 يناير 1981، أو أحداث الأمن المركزي، فوضى تشبه ما حدث في بغداد عقب سقوطها بثلاثة أيام، والدليل الأكيد على ذلك ما حدث في نهائي بطولة الأمم الأفريقية الماضية، لماذا خرج الشباب في شارع الهرم ليحرق السيارات عندما فازت مصر؟ هل هذا تعبير عن الفرح؟ لماذا نرى العنف عند فوز الأهلي على الزمالك أو العكس؟ هذا دليل على أننا نعيش في مجتمع غاضب جداً.
القضاة والدور الذي لعبوه في الحياة السياسية مؤخرا بالإضافة إلى ظهور كليبات التعذيب في الأقسام نقطتان مطلوب منك التعليق عليما؟
الحقيقة أننا حملنا القضاة ما لا يطيقون، وحملناهم فعل ما نريده، والمفروض أنهم يفعلون ما يريدون، فالقضاة ليسوا رجال سياسة، هم موظفون محترمون لديهم ضمير ووعي وعلم، وتعاملنا معهم مثلما تعاملوا مع علي بطل فيلم "عودة الابن الضال" أرادوه أن يفعل لهم كل ما يريدون، حتى جننوا علي، ونحن فعلنا الشيء نفسه، القضاة ضمير علينا الحفاظ عليه، فهم ليسوا رجال سياسة، ولا زعماء تغيير.وأرى أن الصحافة الخاصة لعبت دوراً في تسليط الضوء على هذا الضمير، على الأقل لكي نكشف زيف من ضد هذا الضمير، لنعرف أن فيهم أسماء عظيمة ولامعة قد يصبح لهم شأناً أكبر فيما بعد، مثلاً أنا لا أجد أي غضاضة في ترشيح المستشار هشام بسطويسي لرئاسة الجمهورية يوماً ما، أو زكريا عبد العزيز ومحمود مكي لرئاسة مصر، لأن القضاة والصحافة الخاصة وحركة كفاية لعبوا دوراً كبيراً في قصة كشف عار الدولة.وبالنسبة للتعذيب فهذا كاشف أننا لدينا منهج حكم لإهانة المواطن المصري، وكشفه جاء من خلال التطور، التكنولوجيا خلقت أدلة للتعذيب، فنحن كنا نتحدث عنه طوال الوقت، فبعدما ملكنا الدليل وملكنا من خلال التكنولوجيا أيضاً طريقة نشرها كشف التعذيب، وكأنه شيء جديد، وهو ليس بالجديد، فالنظام المصري يعيش بالتعذيب، وليس السياسي فقط، وإنما الجنائي.لم يعد مقصوراً الأمر على سجناء الرأي من شيوعيين أو إخوان، وإنما اكتشفنا أن من يدخل السجن عرضة للتعذيب، والمصريون يعرفون ذلك طوال عمرهم، فالناس تفتخر دائماً "عمري ما دخلت القسم"، وعندما يتشاجر شخصان لا يبلغون للبعد فقط عن التعذيب.
www.filbalad.com
كيف تعرف مفهوم المواطنة؟
نحن لا نبحث عن المواطنة كمصطلح في قاموس للمصطلحات السياسية، ولكنك تبحث عنه كمصطلح في الحياة اليومية، أن تقف في الطابور فلا يأت من يقول لك أخرج منه، أن ترد عليه أنا مواطن وهذا حقي، إحساسك بأنك شريك في هذا الوطن، ولك قرار ولك صوت ولك حق في هذا الوطن.الحزب الوطني يتاجر دائماً بالحزب الوطني ويرددون المواطنة المواطنة، أي مواطنة يتحدثون عنها، أن أبسط حقوق المواطنة أن أضع صوتي في صندوق الانتخابات يخرج في النهاية صوتي وليس صوتك أنت، أنا أتمكن أساساً من الدخول إلى لجنة الانتخابات، أن نصبح مثل أمريكا لنا ثمن على أساس أننا من دافعي الضرائب.
هل ترى أن المواطن له حقوق لا يستغلها، أم السلطة لا تسمح له باستغلالها، أم أن المعادلة نفسها فيها المعطيين؟
المواطن له حقوق لا يستغلها، وفي نفس الوقت لا يعرف أنها حقوقه، نسى أنها حقوق، أتعرف أبشع ما حدث في مصر هو النموذج الحي في التعايش مع القبح والظلم والمواطنة الناقصة، أن مياه المجاري عندما تطفح أمام بيوتنا كمواطنين، عندما نفشل في إجبار مصلحة الصرف الصحي أو المسئولين لإصلاح العطل، نضع قوالب طوب وأسمنت ونعبر فوقها، وسط نتن الرائحة.هذا هو أسوأ مشهد في مصر، ومفتاح فهم طبيعتنا كمصريين، نقيس على هذه المجاري كل شيء آخر في حياتنا، تعايشنا مع الفساد والاستبداد، نضع طوب ونسير، ولهذا نسينا أن حقنا أن نعيش في حياة بلا مجاري.فالمشكلة أن المواطن المصري لديها حقوق لا يعلمها، وبالتالي لا يمارسها، وإن علمها وحاول ممارستها، تمنعه الدولة عن ممارستها، ولن يمكنه ممارستها إلا إذا انتزعها من الدولة، فهو صراع السؤال هل ستدفع ثمنه؟ هل تريد حقك أركض ورائه، لا يوجد شعب حرر نفسه وهو جالس في البيت.كيف تحرر رومانيا من استبداد تشاوتشيسكو، ذلك المشهد التاريخي، قامت المظاهرة وتوجه الناس إلى القصر الجمهوري، ووقفت الشرطة أمام القصر، تقدمت المظاهرة فجاءت الأوامر بإطلاق النيران، فمات الصف الأول، استمرت المظاهرة، فضربت الشرطة الصف الثاني، فماتوا لكن المظاهرة استمرت، فتركت الشرطة، المسدسات والرصاص، فدخل الشعب القصر وسحلوا تشاوتشيسكو، فالسؤال هل أنت لديك مواطنين متمسكين بحقهم لحد الشهادة والتضحية، الإجابة لا، وربنا يستر وما يحصلش كده.
إذن أنت ترى أن التغيير لن يأت إلا عن طريق الثورة أو إنقلاب؟
الوضع الذي وضعتنا فيه ثورة يوليو يجعلنا نسجد لله لكي لا تحدث ثورات أخرى، أما الانقلاب فأنها مصيبة سوداء أن يطلب شخص حقه بالانقلاب، لأنه تغيير إلى أسوأ، أما المظاهرات فأنها أشياء تجسد المواطنة، تظاهر سلمي، واستجابة الحكومة لغضب المواطن الذي يريد سحب الثقة منها، فتقيم انتخابات مبكرة، وإذا صوت الشعب ضدها تسقط الحكومة وتأتي أخرى يختبرها الشعب، إلى أن يستقر على حكومته المفضلة.
ولكن هل سيمكن للمواطنين التظاهر في ظل قانون الطوارئ؟
هذا هو السؤال الكوني مثل "البيضة هي الأولى أم الدجاجة؟" النظام سيسمح بحرية، أم ستفرض أنت حريتك على النظام، نحن نفعل بعض الوقت، ويفعل بنا بعض الوقت، وهذا هو الضغط والضغط المتبادل، الحراك، والجدل التاريخي، ووسط هذا قد تدخل عوامل أخرى غير موضوعة في الاعتبار مثل عوامل الطبيعة، تسقط الأمطار فتفرق مظاهرة، أو يمرض الرئيس، أو يموت وزير، أو يسقط مواطن بأزمة قلبية أثناء مظاهرة فتنقلب ثورة.هناك ظرف تاريخي يحدث ونحن نمهد له، وهناك مناخ معبأ بالبنزين في مصر، والسؤال هو من أين ستأتي الشرارة التي ستشعل ذلك البنزين، وليس هل هناك شرارة أم لا، السؤال من أين سيحدث، وأخشى أن يكن من خلال الفتنة الطائفية، مصر معبأة بالغاز، تلك السحابة السوداء أراها كالغاز التي قد تشتعل في أي لحظة، وهذا ما لا أتمناه، أن يخرج الغوغاء، لأن مصر لا يوجد فيها تنظيم حزبي واضح مثل وفد ما قبل الثورة، ولا يوجد فيها زعيم سياسي، هناك حالة من النقمة والغضب.أنه شيء شبيه بما كان في أحداث 17 و18 يناير 1981، أو أحداث الأمن المركزي، فوضى تشبه ما حدث في بغداد عقب سقوطها بثلاثة أيام، والدليل الأكيد على ذلك ما حدث في نهائي بطولة الأمم الأفريقية الماضية، لماذا خرج الشباب في شارع الهرم ليحرق السيارات عندما فازت مصر؟ هل هذا تعبير عن الفرح؟ لماذا نرى العنف عند فوز الأهلي على الزمالك أو العكس؟ هذا دليل على أننا نعيش في مجتمع غاضب جداً.
القضاة والدور الذي لعبوه في الحياة السياسية مؤخرا بالإضافة إلى ظهور كليبات التعذيب في الأقسام نقطتان مطلوب منك التعليق عليما؟
الحقيقة أننا حملنا القضاة ما لا يطيقون، وحملناهم فعل ما نريده، والمفروض أنهم يفعلون ما يريدون، فالقضاة ليسوا رجال سياسة، هم موظفون محترمون لديهم ضمير ووعي وعلم، وتعاملنا معهم مثلما تعاملوا مع علي بطل فيلم "عودة الابن الضال" أرادوه أن يفعل لهم كل ما يريدون، حتى جننوا علي، ونحن فعلنا الشيء نفسه، القضاة ضمير علينا الحفاظ عليه، فهم ليسوا رجال سياسة، ولا زعماء تغيير.وأرى أن الصحافة الخاصة لعبت دوراً في تسليط الضوء على هذا الضمير، على الأقل لكي نكشف زيف من ضد هذا الضمير، لنعرف أن فيهم أسماء عظيمة ولامعة قد يصبح لهم شأناً أكبر فيما بعد، مثلاً أنا لا أجد أي غضاضة في ترشيح المستشار هشام بسطويسي لرئاسة الجمهورية يوماً ما، أو زكريا عبد العزيز ومحمود مكي لرئاسة مصر، لأن القضاة والصحافة الخاصة وحركة كفاية لعبوا دوراً كبيراً في قصة كشف عار الدولة.وبالنسبة للتعذيب فهذا كاشف أننا لدينا منهج حكم لإهانة المواطن المصري، وكشفه جاء من خلال التطور، التكنولوجيا خلقت أدلة للتعذيب، فنحن كنا نتحدث عنه طوال الوقت، فبعدما ملكنا الدليل وملكنا من خلال التكنولوجيا أيضاً طريقة نشرها كشف التعذيب، وكأنه شيء جديد، وهو ليس بالجديد، فالنظام المصري يعيش بالتعذيب، وليس السياسي فقط، وإنما الجنائي.لم يعد مقصوراً الأمر على سجناء الرأي من شيوعيين أو إخوان، وإنما اكتشفنا أن من يدخل السجن عرضة للتعذيب، والمصريون يعرفون ذلك طوال عمرهم، فالناس تفتخر دائماً "عمري ما دخلت القسم"، وعندما يتشاجر شخصان لا يبلغون للبعد فقط عن التعذيب.
www.filbalad.com
إلى متى سنبقى «بلهاء» هكذا؟
توماس فريدمان
اقرأ هذين الرقمين والتاريخين ثم أبكي على ما كان يمكن فعله: كان سعر نفط سلة أوبك يوم 11 سبتمبر 2001 يساوي 25.50 دولار للبرميل الواحد، وفي يوم 13 نوفمبر 2007 وصل إلى حوالي 90 دولارا للبرميل الواحد.
بعد هجمات 11 سبتمبر طالب بعضنا بفرض «ضريبة المواطنة» التي تساوي دولارا واحدا على كل برميل لتقليص ما يتحول من ثروات للبلدان التي تمول بشكل غير مباشر أيديولوجيات التعصب وعدم التسامح والتي شاركت في قتل الأميركيين ومن أجل تحفيز روح الابتكار في مجال كفاءة الطاقة لدى المُصنِّعين الأميركيين.
لكن كانت لجورج بوش وديك تشيني فكرة أفضل. والديمقراطيون اتبعوا خطاهما. فكلهم سيجعلون السوق تعمل من دون تدخل للحكومة كي تعيد صياغتها مثلما تفعل أوبك.
ولم يقم أي سيناتور بتبني الفكرة، بل فضل الجميع تجنب أية ضريبة وظلوا موافقين على تسرب ثروتنا صوب روسيا وفنزويلا وإيران.
يقول فيل فرلجر اقتصادي الطاقة: «فكروا بهذا الأمر: كان بإمكاننا تبديل نظام الضريبة الحالي بضريبة الغازولين. وكان ممكنا أن يستفيد أبناء الطبقة المتوسطة أكثر ويكسبوا رواتب صافية أكبر حتى مع دفعهم أكثر على الغازولين. وكان ممكنا بناء أساس لنمو اقتصادي مستقبلي من خلال ادخار مبالغ أكبر داخليا وعدم دفعها على النفط، وما كنا لنواجه الآن كسادا اقتصاديا».
وطالما أن ضريبة أعلى على الغاز لا تشجع على استهلاك النفط فإن اقتصادي جامعة هارفارد ومستشار بوش السابق غريغوري مانكيو يجادل بأن «سعر النفط سينخفض في أسواق العالم. ونتيجة لذلك فإن أسعار النفط في الولايات المتحدة سترتفع بنسبة أقل من الزيادة الناجمة عن الضريبة».
لكن المستهلكين الأميركيين كانوا سيعرفون أنه مع ضريبة أعلى على الغازولين قائمة دائما فإن أسعار الوقود لن تعود إلى الأيام السابقة، حسبما يرى فرلجر، لذلك سيكون لديهم حافز أقوى للتحول نحو السيارات ذات الكفاءة العالية في استهلاك الوقود، وكان بإمكان ديترويت أن تصنع سيارات أكثر تعمل على الوقود المهجن كي تتمكن من البقاء. وكان ذلك سيضع ديترويت متقدمة بخمس سنوات عما هي عليه الآن. قال فرلجر: «يسمى ذلك ببرنامج أميركا تفوز، بدلا من أن تفوز دول النفط.
نحن لا نستطيع الاستمرار في البقاء بلهاء بهذا الشكل. إذا كنت تكره الحرب في العراق فإن عليك أن تطلب فرض ضريبة على الغازولين كي تتمكن من المجادلة بأن بإمكاننا الانسحاب من هناك من دون البقاء معتمدين على منطقة أصبحت أقل استقرارا مما كانت عليه قبل الحرب. وإذا كنت تريد التفاوض مع إيران لا قصفها، فذلك يعني أنك تريد ضريبة الغازولين التي ستعطينا دفعة قوية عن طريق المساعدة في تقليص ما ندفعه من ريع لعلماء الدين الإيرانيين».
وإذا كنت محافظا وتؤمن بأن حرب العراق كانت ضرورية لفرض الإصلاح في الشرق الأوسط فإنك تعرف أن الحرب فشلت في تحقيق هذا الأمر ونحن بحاجة إلى «الخطة ب» للهدف نفسه.
وإذا كنت تريد رؤية أميركا مزدهرة عن طريق تحولها إلى أكثر البلدان انتاجية في مجال الطاقة على مستوى العالم فهذا يعني أنك تريد ضريبة الغازولين التي ستحث روح الابتكار الأميركية لتحقيق كفاءة طاقة عالية.
أضاع الرئيس بوش فرصة تاريخية بوضع أميركا ضمن مسار طاقة مختلف جدا عما هو عليه بعد هجمات 11 سبتمبر، لكن مع وجود عدد ضئيل جدا من الديمقراطيين أو الجمهوريين على استعداد كي ينقلوا الحقيقة كاملة للناس في هذا المجال، فقد يكون بوش هو الرئيس الذي نستحقه. انني ارفض تصديق ذلك، لكنني بدأت اتشكك في نفسي.
*خدمة «نيويورك تايمز»
اقرأ هذين الرقمين والتاريخين ثم أبكي على ما كان يمكن فعله: كان سعر نفط سلة أوبك يوم 11 سبتمبر 2001 يساوي 25.50 دولار للبرميل الواحد، وفي يوم 13 نوفمبر 2007 وصل إلى حوالي 90 دولارا للبرميل الواحد.
بعد هجمات 11 سبتمبر طالب بعضنا بفرض «ضريبة المواطنة» التي تساوي دولارا واحدا على كل برميل لتقليص ما يتحول من ثروات للبلدان التي تمول بشكل غير مباشر أيديولوجيات التعصب وعدم التسامح والتي شاركت في قتل الأميركيين ومن أجل تحفيز روح الابتكار في مجال كفاءة الطاقة لدى المُصنِّعين الأميركيين.
لكن كانت لجورج بوش وديك تشيني فكرة أفضل. والديمقراطيون اتبعوا خطاهما. فكلهم سيجعلون السوق تعمل من دون تدخل للحكومة كي تعيد صياغتها مثلما تفعل أوبك.
ولم يقم أي سيناتور بتبني الفكرة، بل فضل الجميع تجنب أية ضريبة وظلوا موافقين على تسرب ثروتنا صوب روسيا وفنزويلا وإيران.
يقول فيل فرلجر اقتصادي الطاقة: «فكروا بهذا الأمر: كان بإمكاننا تبديل نظام الضريبة الحالي بضريبة الغازولين. وكان ممكنا أن يستفيد أبناء الطبقة المتوسطة أكثر ويكسبوا رواتب صافية أكبر حتى مع دفعهم أكثر على الغازولين. وكان ممكنا بناء أساس لنمو اقتصادي مستقبلي من خلال ادخار مبالغ أكبر داخليا وعدم دفعها على النفط، وما كنا لنواجه الآن كسادا اقتصاديا».
وطالما أن ضريبة أعلى على الغاز لا تشجع على استهلاك النفط فإن اقتصادي جامعة هارفارد ومستشار بوش السابق غريغوري مانكيو يجادل بأن «سعر النفط سينخفض في أسواق العالم. ونتيجة لذلك فإن أسعار النفط في الولايات المتحدة سترتفع بنسبة أقل من الزيادة الناجمة عن الضريبة».
لكن المستهلكين الأميركيين كانوا سيعرفون أنه مع ضريبة أعلى على الغازولين قائمة دائما فإن أسعار الوقود لن تعود إلى الأيام السابقة، حسبما يرى فرلجر، لذلك سيكون لديهم حافز أقوى للتحول نحو السيارات ذات الكفاءة العالية في استهلاك الوقود، وكان بإمكان ديترويت أن تصنع سيارات أكثر تعمل على الوقود المهجن كي تتمكن من البقاء. وكان ذلك سيضع ديترويت متقدمة بخمس سنوات عما هي عليه الآن. قال فرلجر: «يسمى ذلك ببرنامج أميركا تفوز، بدلا من أن تفوز دول النفط.
نحن لا نستطيع الاستمرار في البقاء بلهاء بهذا الشكل. إذا كنت تكره الحرب في العراق فإن عليك أن تطلب فرض ضريبة على الغازولين كي تتمكن من المجادلة بأن بإمكاننا الانسحاب من هناك من دون البقاء معتمدين على منطقة أصبحت أقل استقرارا مما كانت عليه قبل الحرب. وإذا كنت تريد التفاوض مع إيران لا قصفها، فذلك يعني أنك تريد ضريبة الغازولين التي ستعطينا دفعة قوية عن طريق المساعدة في تقليص ما ندفعه من ريع لعلماء الدين الإيرانيين».
وإذا كنت محافظا وتؤمن بأن حرب العراق كانت ضرورية لفرض الإصلاح في الشرق الأوسط فإنك تعرف أن الحرب فشلت في تحقيق هذا الأمر ونحن بحاجة إلى «الخطة ب» للهدف نفسه.
وإذا كنت تريد رؤية أميركا مزدهرة عن طريق تحولها إلى أكثر البلدان انتاجية في مجال الطاقة على مستوى العالم فهذا يعني أنك تريد ضريبة الغازولين التي ستحث روح الابتكار الأميركية لتحقيق كفاءة طاقة عالية.
أضاع الرئيس بوش فرصة تاريخية بوضع أميركا ضمن مسار طاقة مختلف جدا عما هو عليه بعد هجمات 11 سبتمبر، لكن مع وجود عدد ضئيل جدا من الديمقراطيين أو الجمهوريين على استعداد كي ينقلوا الحقيقة كاملة للناس في هذا المجال، فقد يكون بوش هو الرئيس الذي نستحقه. انني ارفض تصديق ذلك، لكنني بدأت اتشكك في نفسي.
*خدمة «نيويورك تايمز»
وطن.. إيجار قديم
محمد البرغوثي
أعتقد أن الاجتماع الوزاري، الذي عقده الدكتور أحمد نظيف يوم الأحد الماضي الموافق ١١ نوفمبر الجاري، هو أخطر اجتماع في تاريخ وزارة هذا الرجل، بل هو، بتوصياته وقراراته، أخطر حدث سياسي واقتصادي واجتماعي في تاريخ مصر المعاصر.
في هذا الاجتماع الوزاري - الذي لم ينتبه إليه أحد - طالب الدكتور نظيف الوزارات المعنية باتخاذ جميع الإجراءات التنفيذية اللازمة، لاستخدام نظام «حق الانتفاع» والتوسع في تطبيقه بالمجالات الاقتصادية المختلفة، بما يحقق مصلحة العملية الاقتصادية.
والسطور السابقة هي نص مقدمة البيان الذي أصدره مجلس الوزراء.. أما التفاصيل، التي أوردها البيان في شرح «مصلحة العملية الاقتصادية»، فهي مذهلة وكارثية.
تقول التفاصيل إن رئيس الوزراء أشار إلي إمكان تطبيق «حق الانتفاع» في طرح الأصول المملوكة للدولة لمشاركة القطاع الخاص، ضمن برنامج تدوير الأصول الذي تنفذه وزارة الاستثمار.
ثم تضيف التفاصيل أن المستشار ممدوح مرعي، وزير العدل، والدكتور محمود محيي الدين، وزير الاستثمار، أكدا، بما لا يدع مجالاً لأي شك، أن تأجير الأصول المملوكة للدولة، من مصانع وأراض، لرجال الأعمال بنظام حق الانتفاع، ليس في حاجة إلي تعديلات تشريعية جديدة لإقرار هذا الحق، وأن التشريعات الحالية تسمح بحق الانتفاع،
وليس هناك أي معوقات قانونية أو تشريعية تحول دون تنفيذه، وأكد وزير العدل أن عمليات القيد والتسجيل لهذا الحق في الشهر العقاري متاحة، وليس هناك ما يحول دون ذلك. ولكي تكتمل المصيبة، اصطحب الدكتور نظيف، إلي الاجتماع، محافظ البنك المركزي، لكي يطمئن الحاضرين إلي أن البعد القانوني يجعل حق الانتفاع قابلاً للتمويل، وقابلا لحق الرهن والائتمان، وأن الجهاز المصرفي كله يعترف بهذا الحق، وبإمكان استخدامه في التمويل.
ما الذي يعنيه هذا الكلام الضخم؟ إنه يعني، ببساطة، منح الأصول المملوكة للدولة، مثل المصانع والشركات والأراضي، لحفنة من رجال الأعمال، بنظام حق الانتفاع لمدد تبدأ من ٢٥ سنة قابلة للتجديد، وهو يعني أيضاً أن رجال الأعمال الذين يحكمون مصر الآن، انتبهوا إلي أن بيع وشراء الأصول - في إطار الخصخصة - لم يعد مجدياً،
وأن الأفضل لأي رجل أعمال أن يدخل علي أضخم مصنع في البلد ويأخذه من بابه بإيجار زهيد لمدة ٢٥ سنة قابلة للتجديد، بدلاً من أن يدفع مئات الملايين لامتلاكه، ويعرض نفسه لمخاطر تقلب الأحوال السياسية والاجتماعية، التي قد تنتهي باسترداد أصول الدولة التي سرقها رجال الأعمال.
لقد كانت المشكلة الوحيدة في حيازة الأصول الاقتصادية بنظام حق الانتفاع، هي أن هذه الحيازة لا تعطي لصاحبها الحق في رهنها للبنوك ضماناً للقروض، كما أنها لا تعطي لصاحبها الحق في تأجيرها من الباطن تأجيراً قانونياً يعترف به الشهر العقاري.
والمعروف أن رجال الأعمال، الذين يحكمون مصر الآن، حاولوا أكثر من مرة سن تشريعات جديدة تسمح بحق الانتفاع، وتعطي لأصحابه الحق في الاقتراض من البنوك بضمان «الانتفاع»، كما تعطيهم الحق في رهنها وتأجيرها والتصرف فيها لبعض الوقت أو كله، ولكنهم انتبهوا مؤخراً إلي أن محاولة سن تشريعات جديدة ستفتح العيون المغلقة وتكشف المستور، فعادوا خطوتين إلي الخلف.. ثم، في غفلة من الجميع، قفزوا قفزة واسعة نحو نهب ما تبقي من ثروات البلد.
إن هذه القفزة الواسعة نحو مرحلة جديدة من النهب، هي أقل القفزات تكلفة بالنسبة لرجال الأعمال.. فها هو وزير العدل، ومعه محافظ البنك المركزي، يقران بحق هؤلاء المنتفعين - أي المستأجرين - في الاستحواذ علي الأصول الاقتصادية لربع قرن قابل للتجديد، دون أن يدفعوا قرشاً واحداً، وها هما يؤكدان لرجال الأعمال أن هذا الاستحواذ ليس في حاجة إلي تشريع جديد، وأن البنوك كلها علي استعداد للتمويل والإقراض أيضاً!
بالله عليكم.. هل هناك ما هو أخطر من ذلك علي حاضر ومستقبل هذا الوطن؟ وهل سيأتي يوم قريب جداً، نترحم فيه علي الخصخصة بكل مساوئها وفسادها وانحطاطها؟ نعم، سنفعل، فالحضيض ليس له قاع.
أعتقد أن الاجتماع الوزاري، الذي عقده الدكتور أحمد نظيف يوم الأحد الماضي الموافق ١١ نوفمبر الجاري، هو أخطر اجتماع في تاريخ وزارة هذا الرجل، بل هو، بتوصياته وقراراته، أخطر حدث سياسي واقتصادي واجتماعي في تاريخ مصر المعاصر.
في هذا الاجتماع الوزاري - الذي لم ينتبه إليه أحد - طالب الدكتور نظيف الوزارات المعنية باتخاذ جميع الإجراءات التنفيذية اللازمة، لاستخدام نظام «حق الانتفاع» والتوسع في تطبيقه بالمجالات الاقتصادية المختلفة، بما يحقق مصلحة العملية الاقتصادية.
والسطور السابقة هي نص مقدمة البيان الذي أصدره مجلس الوزراء.. أما التفاصيل، التي أوردها البيان في شرح «مصلحة العملية الاقتصادية»، فهي مذهلة وكارثية.
تقول التفاصيل إن رئيس الوزراء أشار إلي إمكان تطبيق «حق الانتفاع» في طرح الأصول المملوكة للدولة لمشاركة القطاع الخاص، ضمن برنامج تدوير الأصول الذي تنفذه وزارة الاستثمار.
ثم تضيف التفاصيل أن المستشار ممدوح مرعي، وزير العدل، والدكتور محمود محيي الدين، وزير الاستثمار، أكدا، بما لا يدع مجالاً لأي شك، أن تأجير الأصول المملوكة للدولة، من مصانع وأراض، لرجال الأعمال بنظام حق الانتفاع، ليس في حاجة إلي تعديلات تشريعية جديدة لإقرار هذا الحق، وأن التشريعات الحالية تسمح بحق الانتفاع،
وليس هناك أي معوقات قانونية أو تشريعية تحول دون تنفيذه، وأكد وزير العدل أن عمليات القيد والتسجيل لهذا الحق في الشهر العقاري متاحة، وليس هناك ما يحول دون ذلك. ولكي تكتمل المصيبة، اصطحب الدكتور نظيف، إلي الاجتماع، محافظ البنك المركزي، لكي يطمئن الحاضرين إلي أن البعد القانوني يجعل حق الانتفاع قابلاً للتمويل، وقابلا لحق الرهن والائتمان، وأن الجهاز المصرفي كله يعترف بهذا الحق، وبإمكان استخدامه في التمويل.
ما الذي يعنيه هذا الكلام الضخم؟ إنه يعني، ببساطة، منح الأصول المملوكة للدولة، مثل المصانع والشركات والأراضي، لحفنة من رجال الأعمال، بنظام حق الانتفاع لمدد تبدأ من ٢٥ سنة قابلة للتجديد، وهو يعني أيضاً أن رجال الأعمال الذين يحكمون مصر الآن، انتبهوا إلي أن بيع وشراء الأصول - في إطار الخصخصة - لم يعد مجدياً،
وأن الأفضل لأي رجل أعمال أن يدخل علي أضخم مصنع في البلد ويأخذه من بابه بإيجار زهيد لمدة ٢٥ سنة قابلة للتجديد، بدلاً من أن يدفع مئات الملايين لامتلاكه، ويعرض نفسه لمخاطر تقلب الأحوال السياسية والاجتماعية، التي قد تنتهي باسترداد أصول الدولة التي سرقها رجال الأعمال.
لقد كانت المشكلة الوحيدة في حيازة الأصول الاقتصادية بنظام حق الانتفاع، هي أن هذه الحيازة لا تعطي لصاحبها الحق في رهنها للبنوك ضماناً للقروض، كما أنها لا تعطي لصاحبها الحق في تأجيرها من الباطن تأجيراً قانونياً يعترف به الشهر العقاري.
والمعروف أن رجال الأعمال، الذين يحكمون مصر الآن، حاولوا أكثر من مرة سن تشريعات جديدة تسمح بحق الانتفاع، وتعطي لأصحابه الحق في الاقتراض من البنوك بضمان «الانتفاع»، كما تعطيهم الحق في رهنها وتأجيرها والتصرف فيها لبعض الوقت أو كله، ولكنهم انتبهوا مؤخراً إلي أن محاولة سن تشريعات جديدة ستفتح العيون المغلقة وتكشف المستور، فعادوا خطوتين إلي الخلف.. ثم، في غفلة من الجميع، قفزوا قفزة واسعة نحو نهب ما تبقي من ثروات البلد.
إن هذه القفزة الواسعة نحو مرحلة جديدة من النهب، هي أقل القفزات تكلفة بالنسبة لرجال الأعمال.. فها هو وزير العدل، ومعه محافظ البنك المركزي، يقران بحق هؤلاء المنتفعين - أي المستأجرين - في الاستحواذ علي الأصول الاقتصادية لربع قرن قابل للتجديد، دون أن يدفعوا قرشاً واحداً، وها هما يؤكدان لرجال الأعمال أن هذا الاستحواذ ليس في حاجة إلي تشريع جديد، وأن البنوك كلها علي استعداد للتمويل والإقراض أيضاً!
بالله عليكم.. هل هناك ما هو أخطر من ذلك علي حاضر ومستقبل هذا الوطن؟ وهل سيأتي يوم قريب جداً، نترحم فيه علي الخصخصة بكل مساوئها وفسادها وانحطاطها؟ نعم، سنفعل، فالحضيض ليس له قاع.
جرائم رجال الشرطة
ابراهيم السايح
لن تتوقف جرائم رجال الشرطة طالما استمر مبارك ونظامه وحزبه يحكمون البلاد. الضابط الذي شارك في تزوير انتخابات الرئاسة لن يصدق أن الرئيس الناجح بالتزوير غير راض عن تعذيب الناس، والضابط الذي شارك في تزوير انتخابات مجلس الشعب لا يمكن أن يحترم البرلمان، أو القانون، أو المعارضة، أو الصحافة.الرأس في مصر فاسد تماما، وطبيعي أن ينتقل هذا الفساد إلي كل الأجزاء والأركان والأجهزة.النظام المصري لا يتعامل مع رجل الشرطة تعاملا آدميا كريما، ولكنه يمارس عليه نفس ما يمارسه علي الناس من إذلال واستبداد وإهانة، ورجل الشرطة يخضع لقوانين شبه عسكرية ولا يملك ترف التأفف أو المعارضة، وليس أمامه سوي تفريغ شحنات الكبت والقرف والإحباط في أي مواطن تسوقه الأقدار إلي قسم أو مركز أو نقطة شرطة.في بعض إدارات الشرطة يفرضون علي الضابط عددا معينا من القضايا أو المخالفات التي يتعين عليه ضبطها كل يوم، وإلا تعرض للجزاء الإداري أو المالي، ويقوم الضابط بممارسة ضغوط لا إنسانية علي الأمناء أو الأفراد أو المرشدين لاستيفاء حصته المقررة ولو تعسفيا علي حساب الأبرياء.النظام المصري يضع رجال الشرطة في مواجهة المواطنين، علي طريقة «يا قاتل يا مقتول»، بحيث يفقد الضابط وظيفته أو امتيازاته لو لجأ إلي أي قدر من التسامح أو المعاملة القانونية الكريمة مع المواطنين خاصة في قطاعات المباحث الجنائية ومباحث أمن الدولة والحرس الجامعي، الضابط في هذه الإدارات السيادية يشبه جندي الأمن المركزي، حيث يفقد وظيفته أو امتيازاته لو تلكأ لحظة واحدة في تنفيذ الأوامر أو حاول التفكير في صحة وجدوي هذه الأوامر.والأخطر والأسوأ من تعذيب المواطنين أن قطاعا كبيرا من رجال الشرطة لا يحترم الوظيفة أو القانون ويلجأ لارتكاب نفس الجرائم التي يتقاضي راتبه لمنعها وضبطها.ففي قطاع المخدرات ضباط يتقاضون رشاوي منتظمة من التجار، وفي قطاع الآداب ضباط متورطون في علاقات شخصية وعلاقات عمل مع شبكات الدعارة، وفي قطاع الأموال العامة ضباط يمارسون كل الأنشطة التي يكافحونها، وكذلك الحال في جرائم السرقة والنشل والتهريب والرشوة والقتل «إلخ.. إلخ»، حيث تم بالفعل اكتشاف رجال شرطة يرتكبون كل هذه الجرائم.لابد من الاعتراف بعدم وجود منطلقات أخلاقية أو وطنية أو قانونية تحكم الاداء العام في هيئة الشرطة، ففي ظل الاستبداد والتزوير واللاشرعية وانهيار المجتمع المدني صارت الشرطة سلاحا بلا عقل أو ضمير يهوي به الحاكم علي رأس من يشاء في أي وقت وأي مكان دون الحاجة لأسباب أو مبررات أو قوانين، ولن تتوقف جرائم الشرطة بتحويل بعض مرتكبيها للمحاكمة، فعصابات المخدرات تتوسع وتنتشر وتزدهر رغم المئات الذين يدخلون السجن كل عام بالتنسيق بين الحكومة وزعيم العصابة.
لن تتوقف جرائم رجال الشرطة طالما استمر مبارك ونظامه وحزبه يحكمون البلاد. الضابط الذي شارك في تزوير انتخابات الرئاسة لن يصدق أن الرئيس الناجح بالتزوير غير راض عن تعذيب الناس، والضابط الذي شارك في تزوير انتخابات مجلس الشعب لا يمكن أن يحترم البرلمان، أو القانون، أو المعارضة، أو الصحافة.الرأس في مصر فاسد تماما، وطبيعي أن ينتقل هذا الفساد إلي كل الأجزاء والأركان والأجهزة.النظام المصري لا يتعامل مع رجل الشرطة تعاملا آدميا كريما، ولكنه يمارس عليه نفس ما يمارسه علي الناس من إذلال واستبداد وإهانة، ورجل الشرطة يخضع لقوانين شبه عسكرية ولا يملك ترف التأفف أو المعارضة، وليس أمامه سوي تفريغ شحنات الكبت والقرف والإحباط في أي مواطن تسوقه الأقدار إلي قسم أو مركز أو نقطة شرطة.في بعض إدارات الشرطة يفرضون علي الضابط عددا معينا من القضايا أو المخالفات التي يتعين عليه ضبطها كل يوم، وإلا تعرض للجزاء الإداري أو المالي، ويقوم الضابط بممارسة ضغوط لا إنسانية علي الأمناء أو الأفراد أو المرشدين لاستيفاء حصته المقررة ولو تعسفيا علي حساب الأبرياء.النظام المصري يضع رجال الشرطة في مواجهة المواطنين، علي طريقة «يا قاتل يا مقتول»، بحيث يفقد الضابط وظيفته أو امتيازاته لو لجأ إلي أي قدر من التسامح أو المعاملة القانونية الكريمة مع المواطنين خاصة في قطاعات المباحث الجنائية ومباحث أمن الدولة والحرس الجامعي، الضابط في هذه الإدارات السيادية يشبه جندي الأمن المركزي، حيث يفقد وظيفته أو امتيازاته لو تلكأ لحظة واحدة في تنفيذ الأوامر أو حاول التفكير في صحة وجدوي هذه الأوامر.والأخطر والأسوأ من تعذيب المواطنين أن قطاعا كبيرا من رجال الشرطة لا يحترم الوظيفة أو القانون ويلجأ لارتكاب نفس الجرائم التي يتقاضي راتبه لمنعها وضبطها.ففي قطاع المخدرات ضباط يتقاضون رشاوي منتظمة من التجار، وفي قطاع الآداب ضباط متورطون في علاقات شخصية وعلاقات عمل مع شبكات الدعارة، وفي قطاع الأموال العامة ضباط يمارسون كل الأنشطة التي يكافحونها، وكذلك الحال في جرائم السرقة والنشل والتهريب والرشوة والقتل «إلخ.. إلخ»، حيث تم بالفعل اكتشاف رجال شرطة يرتكبون كل هذه الجرائم.لابد من الاعتراف بعدم وجود منطلقات أخلاقية أو وطنية أو قانونية تحكم الاداء العام في هيئة الشرطة، ففي ظل الاستبداد والتزوير واللاشرعية وانهيار المجتمع المدني صارت الشرطة سلاحا بلا عقل أو ضمير يهوي به الحاكم علي رأس من يشاء في أي وقت وأي مكان دون الحاجة لأسباب أو مبررات أو قوانين، ولن تتوقف جرائم الشرطة بتحويل بعض مرتكبيها للمحاكمة، فعصابات المخدرات تتوسع وتنتشر وتزدهر رغم المئات الذين يدخلون السجن كل عام بالتنسيق بين الحكومة وزعيم العصابة.
اللي اختشوا ماتوا
حازم الببلاوي
هذا أحد الأمثال الشعبية الشائعة، وهو يشير إلي الإحساس العام بأن سلوك الناس في الوقت الحاضر، أصبح لا يعبأ كثيرا بالقيود الأخلاقية في مراعاة الآخرين أو في الوفاء والمروءة والصدق ورد الجميل، وغير ذلك من الخصال النبيلة في التعامل في الحياة، فهناك انطباع شائع بأن ما يحرك الناس في تصرفاتهم الآن، هو «المصلحة الذاتية والآنية»، بصرف النظر عن مفهوم الواجب تجاه الآخرين.
فـ«الواجب» الوحيد السائد الآن، هو «نفسي»، و«نفسي فقط» وهناك أيضا انطباع آخر مكمل، وهو أن الماضي كان أفضل من الحاضر، فهو عصر الأخلاق والمبادئ، أما الحاضر فقد غلبت عليه المصالح المادية وتراجعت القيم الروحية، فالماضي عند الكثيرين هو زمان الأعمال الخيرية ومراعاة حقوق الغير، وهذا كله تغير في العصر الحديث، حيث غلبت الماديات وتراجعت القيم المعنوية.
.. ولكن من أين جاء هذا المثل الشعبي؟
يبدو أن أصل هذا المثل هو أن حريقا قام في أحد الحمامات العمومية في الإسكندرية، مما أدي بالكثيرين من الزبائن إلي الهرب من الحريق والخروج من الحمام إلي الشوارع، مهرولين لإنقاذ حياتهم، وقد اضطر عدد منهم- رجالا ونساء- إلي الخروج إلي الشوارع عرايا، ولكن يبدو أن هناك عددا آخر من الزبائن فاجأهم الحريق وهم عرايا، داخل الحمام،
فاستكثروا الخروج إلي الشوارع عرايا خجلا وحياءً، حتي لو كان الثمن هو حياتهم، وبالفعل مات في هذا الحريق عدد من الزبائن، الذين غلب عليهم الحياء، وهم قلة بطبيعة الأحوال، ومن هنا جاء المثل: اللي اختشوا ماتوا!
وليس غرضي من هذا المقال مناقشة السلوك الاجتماعي للأفراد، وهل صحيح أنهم أصبحوا أكثر مادية وأقل حياء ومراعاة لشعور الآخرين؟ فهذا بحث اجتماعي يتطلب مواصفات ومؤهلات خاصة فيمن يتعرض له، لا أدعي أنني أملكها، ولكن السبب من استدعاء هذا المثل هو أمر آخر تماماً عنَّ لي أثناء مشاهدة صور المظاهرات في باكستان من خلال التليفزيون، وهي صور لم تلبث أن استدعت في ذهني هذا المثل الشعبي،
فقد جاء الرئيس مشرّف إلي الحكم لإعادة الأمن والاستقرار لبلده، وما نراه الآن شيء مختلف تماما، فإذا بنا نري مشاهد تبين تواجدا كثيفا لرجال الأمن المزودين بالعصا والهراوات، وهم يضربون المتظاهرين بقسوة وبلا هوادة والجميع- شبابا وشيوخا ونساءً- يصرخون، للمطالبة بحكم القانون وإعادة القضاة المفصولين وإلغاء حكم الطوارئ..
ومن أطراف- أو بالأحري- من أبشع ما رأيت، شرطيات من النساء، وهن يضربن المتظاهرات من النساء بقسوة وشراسة لا تقل عن عنف الرجال، ولكن يبدو أن الحكومة لا تنسي- وهي تنكل بالمتظاهرين والمتظاهرات- أن تحترم التقاليد الإسلامية فحرصت علي أن يكون ضرب المتظاهرات علي أيدي نساء مثلهن.
وماذا يطالب المتظاهرون؟ ببساطة احترام الدستور والقانون، وينص الدستور علي عدم جواز الجمع بين قيادة الجيش ورئاسة الدولة. كان مشرف قد وعد بأنه بمجرد انتخابه- في المرة السابقة- سوف يتخلي عن قيادة الجيش ولكنه لم يفعل، وبعد تقدمه للانتخابات في المرة الأخيرة،
تقدمت المعارضة برفع دعوي بعدم دستورية انتخابه، لأنه لم يتخل عن قيادة الجيش، فماذا فعل؟ فصل ثمانية عشر من القضاة بينهم رئيس المحكمة العليا، وكل هذا باسم أمن البلاد والمصالح العليا.. أليس الذين اختشوا ماتوا فعلا؟
وليس المثال الباكستاني فريدا في حاله، فانظر حولك تجد المشهد كله يتكرر بصور مختلفة، ولكن علي نحو يجعل من المثل الشعبي المشار إليه تلخيصا للحياة السياسية في معظم بلداننا العربية والإسلامية.
عرفت الجزائر فترة شديدة من الاضطراب والفوضي بعد إلغاء الانتخابات التي جرت في بداية التسعينيات، حين بدا أن الإسلاميين يحققون فوزا انتخابيا، ومن يومها وقع البلد في آتون الفوضي والقتل والاضطراب، وجاء انتخاب الرئيس بوتفليقة مؤذنا بسياسة جديدة للوفاق والتصالح،
وبالفعل حقق نجاحا نسبيا في استقرار الحياة السياسية، وجاء ارتفاع أسعار البترول، فأعطي لهذه الإصلاحات السياسية سندا اقتصاديا، حيث امتلأت الخزانة الجزائرية وسددت الديون الخارجية، وانتعش الاقتصاد، ولكن الدستور الجزائري ينص علي أن مدة الرئاسة لا تزيد علي فترتين، وقاربت الفترة الثانية لرئاسة بوتفليقة علي الانتهاء، وهنا ارتفعت الأصوات للمطالبة بتعديل الدستور، بإجازة الترشيح للرئيس بوتفليقة لمدة ثالثة، وهذا ما أعلنه رئيس الوزراء..
والأمر يتوقف حاليا علي الرأي النهائي للرئيس بوتفليقة نفسه، وكأن تعديل الدستور رهن برغبة فرد- مهما كان وزنه- وليس وليد حاجة المجتمع وبطبيعة الأحوال، فإن القانون الجزائري- شأن معظم الدساتير العربية- يضع من القيود والعقبات أمام الترشيح بما يجعل هذا المنصب غير متاح - عمليا- لأي سياسي ما لم ترض عنه الأجهزة الحكومية، ومن هنا نقرأ في الصحف أيضا، أن بن بيتور- رئيس الوزراء السابق- يعلن أنه سوف يرشح نفسه في الانتخابات المقبلة إذا لم يرشح الرئيس بوتفليقة نفسه.
وكان بن بيتور قد فشل في الانتخابات السابقة في الحصول علي توقيع ٧٥ ألف مواطن لتزكيته كما يتطلب القانون، وبالتالي لم يرد اسمه في قائمة المرشحين، ولعل المرء يتساءل: بالله.. من يستطيع أن يحصل علي توقيع وتوكيل رسمي من ٧٥ ألف مواطن، ما لم تكن الدولة وأجهزتها وراءه؟
وبطيبعة الأحوال، فإن هذا الحديث يذكرنا بما أثير في مصر عن انتخابات الرئاسة حول تعديل الدستور، في صدد شروط انتخابات رئيس الجمهورية، وما يتردد من أحاديث عن التوريث. والطريف في الأمر أن هذه الممارسات لا تتم بأوامر سيادية، بل إنها تمر عادة عبر القنوات الدستورية والقانونية، وبما يوفر لها نوعا من الشكلية الشرعية علي ما يتخذ من إجراءات، استنادا إلي المقولة الشهيرة للرئيس السادات: «كله بالقانون».
وفي كل هذه المشاهد في باكستان أو الجزائر أو مصر، نجد أنها تتسم باسم الاستقرار والأمن حينا، وباسم الديمقراطية حينا آخر، وباسم المصلحة الوطنية حينا ثالثا، ولا يملك الإنسان إزائها إلا أن يتساءل: صحيح اللي اختشوا ماتوا؟!
ولكن هل ما يحدث أمام أعيننا الآن جديد لم تعرفه الأجيال السابقة، أم أن الأمر استمرار لممارسات قديمة وعميقة الجذور؟! الحقيقة أن الجديد ليس في طبيعة الحكم، وإنما في تطلعات المحكومين، وهو أننا نطالب بشيء لم يكن معروفا ولا مطلوبا عند أسلافنا، لأن تطلعاتنا تغيرت وآمالنا توسعت.
إذا نظرنا إلي الأوضاع السياسية وأمور الحكم في مصر مثلا، فليس من السهل القول إن نظام الحكم الآن أسوأ مما كان عليه في الماضي، وإن كان ليس أفضل بطبيعة الأحوال، فيمكن القول بشيء من التعميم، إن نظام الحكم الذي وضعه عبدالناصر مع قيام الثورة لم يتغير في أسلوبه بشكل كبير، وإن كانت التوجهات قد اختلفت أيديولوجيا.
هناك تحول إلي اقتصاد السوق وميل إلي الغرب بعد زوال المعسكر الشرقي، ولكن نظام وأسلوب الحكم ظل في جوهره واحدا.
فالنظام يدور بشكل رئيسي حول شخص الرئيس ومؤسسة الرئاسة، في حين أن الحكومة والوزارات هي مجرد أجهزة تنفيذية، مع إعطاء دور قوي وخفي لأجهزة الأمن، والاستناد إلي «صفوة» موالية لمؤسسة الرئاسة، كانت تتكون أساسا من الضباط الأحرار،
وبدأت تتسع لغيرهم الآن، خاصة من رجال الأعمال.. وإلي جوار هذه القوي السياسية المؤثرة، هناك غطاء سياسي أو تظاهرة احتفالية للموافقة والمباركة وإعطاء مظهر شعبي، بدءا من هيئة التحرير ومرورا بالاتحاد القومي، فالاتحاد الاشتراكي، قبل أن تتحول هذه المنظمات إلي منابر وأحزاب سياسية تدور حول حزب الأغلبية.
وكما لم يحدث تغير جوهري في نظام الحكم في مصر، فإن الأوضاع في باكستان أو الجزائر ليست بمختلفة كثيرا، فالحكم العسكري ليس جديدا علي الباكستان، فبعد فترة قصيرة، بعد الحصول علي الاستقلال، اعتلي السلطة الجنرال أيوب لفترة طويلة، وبعد حياة مدنية قصيرة،
جاء الجنرال ضياء الحق ليستكمل الحكم العسكري. وحتي الحكم المدني في ظل نواز شريف أو بي نظير بوتو فقد كان أقرب إلي الحكم الإقطاعي منه إلي الحكم الديمقراطي الصحيح، وليست الجزائر مختلفة كثيرا، فبعد الاستقلال بسنوات قليلة تولي السلطة بومدين في حكم عسكري وخلفه قواد عسكريون وهكذا فليس هناك جديد حقا، فالحكم الشخصي الديكتاتوري ليس أمرا مستجدا علي هذه الدول. ومع ذلك فهناك قلق وتملل..
فما الجديد؟ الجديد هو أن تطلعات الشعوب إلي الديمقراطية قد زادت بشكل واضح مع العولمة وثورة المعلومات، وليس الأمر فقط متعلقا بتغير في التطلعات والآمال، ولكن العالم تغير كذلك. الاستبداد لم يعد مجرد جريمة في حق الشعب وإنما كاد يصبح جريمة في حق الإنسانية.. فما تراه الشعوب علي شاشات التليفزيون،
وما تقرأه في الجرائد، خاصة علي شبكات الإنترنت، فتح الأذهان وأطلق العنان إلي تطلعات جديدة للحرية والديمقراطية، ليس الأمر فقط «أن الذين اختشوا ماتوا»، ولكن الجديد هو أن الشعوب استيقظت و«العيال كبرت» واكتشفوا أن الحكام عرايا.. ورغم أنهم قد كانوا هكذا دائما، فإن الأجيال الجديدة لم تعد تتقبل ما كانت تتقبله الأجيال السابقة.
«اللي اختشوا ماتوا» حقا، ولكن أيضا «العيال كبرت».
والله أعلم
هذا أحد الأمثال الشعبية الشائعة، وهو يشير إلي الإحساس العام بأن سلوك الناس في الوقت الحاضر، أصبح لا يعبأ كثيرا بالقيود الأخلاقية في مراعاة الآخرين أو في الوفاء والمروءة والصدق ورد الجميل، وغير ذلك من الخصال النبيلة في التعامل في الحياة، فهناك انطباع شائع بأن ما يحرك الناس في تصرفاتهم الآن، هو «المصلحة الذاتية والآنية»، بصرف النظر عن مفهوم الواجب تجاه الآخرين.
فـ«الواجب» الوحيد السائد الآن، هو «نفسي»، و«نفسي فقط» وهناك أيضا انطباع آخر مكمل، وهو أن الماضي كان أفضل من الحاضر، فهو عصر الأخلاق والمبادئ، أما الحاضر فقد غلبت عليه المصالح المادية وتراجعت القيم الروحية، فالماضي عند الكثيرين هو زمان الأعمال الخيرية ومراعاة حقوق الغير، وهذا كله تغير في العصر الحديث، حيث غلبت الماديات وتراجعت القيم المعنوية.
.. ولكن من أين جاء هذا المثل الشعبي؟
يبدو أن أصل هذا المثل هو أن حريقا قام في أحد الحمامات العمومية في الإسكندرية، مما أدي بالكثيرين من الزبائن إلي الهرب من الحريق والخروج من الحمام إلي الشوارع، مهرولين لإنقاذ حياتهم، وقد اضطر عدد منهم- رجالا ونساء- إلي الخروج إلي الشوارع عرايا، ولكن يبدو أن هناك عددا آخر من الزبائن فاجأهم الحريق وهم عرايا، داخل الحمام،
فاستكثروا الخروج إلي الشوارع عرايا خجلا وحياءً، حتي لو كان الثمن هو حياتهم، وبالفعل مات في هذا الحريق عدد من الزبائن، الذين غلب عليهم الحياء، وهم قلة بطبيعة الأحوال، ومن هنا جاء المثل: اللي اختشوا ماتوا!
وليس غرضي من هذا المقال مناقشة السلوك الاجتماعي للأفراد، وهل صحيح أنهم أصبحوا أكثر مادية وأقل حياء ومراعاة لشعور الآخرين؟ فهذا بحث اجتماعي يتطلب مواصفات ومؤهلات خاصة فيمن يتعرض له، لا أدعي أنني أملكها، ولكن السبب من استدعاء هذا المثل هو أمر آخر تماماً عنَّ لي أثناء مشاهدة صور المظاهرات في باكستان من خلال التليفزيون، وهي صور لم تلبث أن استدعت في ذهني هذا المثل الشعبي،
فقد جاء الرئيس مشرّف إلي الحكم لإعادة الأمن والاستقرار لبلده، وما نراه الآن شيء مختلف تماما، فإذا بنا نري مشاهد تبين تواجدا كثيفا لرجال الأمن المزودين بالعصا والهراوات، وهم يضربون المتظاهرين بقسوة وبلا هوادة والجميع- شبابا وشيوخا ونساءً- يصرخون، للمطالبة بحكم القانون وإعادة القضاة المفصولين وإلغاء حكم الطوارئ..
ومن أطراف- أو بالأحري- من أبشع ما رأيت، شرطيات من النساء، وهن يضربن المتظاهرات من النساء بقسوة وشراسة لا تقل عن عنف الرجال، ولكن يبدو أن الحكومة لا تنسي- وهي تنكل بالمتظاهرين والمتظاهرات- أن تحترم التقاليد الإسلامية فحرصت علي أن يكون ضرب المتظاهرات علي أيدي نساء مثلهن.
وماذا يطالب المتظاهرون؟ ببساطة احترام الدستور والقانون، وينص الدستور علي عدم جواز الجمع بين قيادة الجيش ورئاسة الدولة. كان مشرف قد وعد بأنه بمجرد انتخابه- في المرة السابقة- سوف يتخلي عن قيادة الجيش ولكنه لم يفعل، وبعد تقدمه للانتخابات في المرة الأخيرة،
تقدمت المعارضة برفع دعوي بعدم دستورية انتخابه، لأنه لم يتخل عن قيادة الجيش، فماذا فعل؟ فصل ثمانية عشر من القضاة بينهم رئيس المحكمة العليا، وكل هذا باسم أمن البلاد والمصالح العليا.. أليس الذين اختشوا ماتوا فعلا؟
وليس المثال الباكستاني فريدا في حاله، فانظر حولك تجد المشهد كله يتكرر بصور مختلفة، ولكن علي نحو يجعل من المثل الشعبي المشار إليه تلخيصا للحياة السياسية في معظم بلداننا العربية والإسلامية.
عرفت الجزائر فترة شديدة من الاضطراب والفوضي بعد إلغاء الانتخابات التي جرت في بداية التسعينيات، حين بدا أن الإسلاميين يحققون فوزا انتخابيا، ومن يومها وقع البلد في آتون الفوضي والقتل والاضطراب، وجاء انتخاب الرئيس بوتفليقة مؤذنا بسياسة جديدة للوفاق والتصالح،
وبالفعل حقق نجاحا نسبيا في استقرار الحياة السياسية، وجاء ارتفاع أسعار البترول، فأعطي لهذه الإصلاحات السياسية سندا اقتصاديا، حيث امتلأت الخزانة الجزائرية وسددت الديون الخارجية، وانتعش الاقتصاد، ولكن الدستور الجزائري ينص علي أن مدة الرئاسة لا تزيد علي فترتين، وقاربت الفترة الثانية لرئاسة بوتفليقة علي الانتهاء، وهنا ارتفعت الأصوات للمطالبة بتعديل الدستور، بإجازة الترشيح للرئيس بوتفليقة لمدة ثالثة، وهذا ما أعلنه رئيس الوزراء..
والأمر يتوقف حاليا علي الرأي النهائي للرئيس بوتفليقة نفسه، وكأن تعديل الدستور رهن برغبة فرد- مهما كان وزنه- وليس وليد حاجة المجتمع وبطبيعة الأحوال، فإن القانون الجزائري- شأن معظم الدساتير العربية- يضع من القيود والعقبات أمام الترشيح بما يجعل هذا المنصب غير متاح - عمليا- لأي سياسي ما لم ترض عنه الأجهزة الحكومية، ومن هنا نقرأ في الصحف أيضا، أن بن بيتور- رئيس الوزراء السابق- يعلن أنه سوف يرشح نفسه في الانتخابات المقبلة إذا لم يرشح الرئيس بوتفليقة نفسه.
وكان بن بيتور قد فشل في الانتخابات السابقة في الحصول علي توقيع ٧٥ ألف مواطن لتزكيته كما يتطلب القانون، وبالتالي لم يرد اسمه في قائمة المرشحين، ولعل المرء يتساءل: بالله.. من يستطيع أن يحصل علي توقيع وتوكيل رسمي من ٧٥ ألف مواطن، ما لم تكن الدولة وأجهزتها وراءه؟
وبطيبعة الأحوال، فإن هذا الحديث يذكرنا بما أثير في مصر عن انتخابات الرئاسة حول تعديل الدستور، في صدد شروط انتخابات رئيس الجمهورية، وما يتردد من أحاديث عن التوريث. والطريف في الأمر أن هذه الممارسات لا تتم بأوامر سيادية، بل إنها تمر عادة عبر القنوات الدستورية والقانونية، وبما يوفر لها نوعا من الشكلية الشرعية علي ما يتخذ من إجراءات، استنادا إلي المقولة الشهيرة للرئيس السادات: «كله بالقانون».
وفي كل هذه المشاهد في باكستان أو الجزائر أو مصر، نجد أنها تتسم باسم الاستقرار والأمن حينا، وباسم الديمقراطية حينا آخر، وباسم المصلحة الوطنية حينا ثالثا، ولا يملك الإنسان إزائها إلا أن يتساءل: صحيح اللي اختشوا ماتوا؟!
ولكن هل ما يحدث أمام أعيننا الآن جديد لم تعرفه الأجيال السابقة، أم أن الأمر استمرار لممارسات قديمة وعميقة الجذور؟! الحقيقة أن الجديد ليس في طبيعة الحكم، وإنما في تطلعات المحكومين، وهو أننا نطالب بشيء لم يكن معروفا ولا مطلوبا عند أسلافنا، لأن تطلعاتنا تغيرت وآمالنا توسعت.
إذا نظرنا إلي الأوضاع السياسية وأمور الحكم في مصر مثلا، فليس من السهل القول إن نظام الحكم الآن أسوأ مما كان عليه في الماضي، وإن كان ليس أفضل بطبيعة الأحوال، فيمكن القول بشيء من التعميم، إن نظام الحكم الذي وضعه عبدالناصر مع قيام الثورة لم يتغير في أسلوبه بشكل كبير، وإن كانت التوجهات قد اختلفت أيديولوجيا.
هناك تحول إلي اقتصاد السوق وميل إلي الغرب بعد زوال المعسكر الشرقي، ولكن نظام وأسلوب الحكم ظل في جوهره واحدا.
فالنظام يدور بشكل رئيسي حول شخص الرئيس ومؤسسة الرئاسة، في حين أن الحكومة والوزارات هي مجرد أجهزة تنفيذية، مع إعطاء دور قوي وخفي لأجهزة الأمن، والاستناد إلي «صفوة» موالية لمؤسسة الرئاسة، كانت تتكون أساسا من الضباط الأحرار،
وبدأت تتسع لغيرهم الآن، خاصة من رجال الأعمال.. وإلي جوار هذه القوي السياسية المؤثرة، هناك غطاء سياسي أو تظاهرة احتفالية للموافقة والمباركة وإعطاء مظهر شعبي، بدءا من هيئة التحرير ومرورا بالاتحاد القومي، فالاتحاد الاشتراكي، قبل أن تتحول هذه المنظمات إلي منابر وأحزاب سياسية تدور حول حزب الأغلبية.
وكما لم يحدث تغير جوهري في نظام الحكم في مصر، فإن الأوضاع في باكستان أو الجزائر ليست بمختلفة كثيرا، فالحكم العسكري ليس جديدا علي الباكستان، فبعد فترة قصيرة، بعد الحصول علي الاستقلال، اعتلي السلطة الجنرال أيوب لفترة طويلة، وبعد حياة مدنية قصيرة،
جاء الجنرال ضياء الحق ليستكمل الحكم العسكري. وحتي الحكم المدني في ظل نواز شريف أو بي نظير بوتو فقد كان أقرب إلي الحكم الإقطاعي منه إلي الحكم الديمقراطي الصحيح، وليست الجزائر مختلفة كثيرا، فبعد الاستقلال بسنوات قليلة تولي السلطة بومدين في حكم عسكري وخلفه قواد عسكريون وهكذا فليس هناك جديد حقا، فالحكم الشخصي الديكتاتوري ليس أمرا مستجدا علي هذه الدول. ومع ذلك فهناك قلق وتملل..
فما الجديد؟ الجديد هو أن تطلعات الشعوب إلي الديمقراطية قد زادت بشكل واضح مع العولمة وثورة المعلومات، وليس الأمر فقط متعلقا بتغير في التطلعات والآمال، ولكن العالم تغير كذلك. الاستبداد لم يعد مجرد جريمة في حق الشعب وإنما كاد يصبح جريمة في حق الإنسانية.. فما تراه الشعوب علي شاشات التليفزيون،
وما تقرأه في الجرائد، خاصة علي شبكات الإنترنت، فتح الأذهان وأطلق العنان إلي تطلعات جديدة للحرية والديمقراطية، ليس الأمر فقط «أن الذين اختشوا ماتوا»، ولكن الجديد هو أن الشعوب استيقظت و«العيال كبرت» واكتشفوا أن الحكام عرايا.. ورغم أنهم قد كانوا هكذا دائما، فإن الأجيال الجديدة لم تعد تتقبل ما كانت تتقبله الأجيال السابقة.
«اللي اختشوا ماتوا» حقا، ولكن أيضا «العيال كبرت».
والله أعلم
Subscribe to:
Posts (Atom)