مفيد فوزي
أنا من جيل عرف الصعب واجتازه, أنا من جيل وقف طويلا وطويلا أمام باب النجاح حتي انفتح, حضرت مجالس الكبار ولم انطق احتراما, جلست الي عمالقة الفكر وكنت بأذني أنهل قطرات من ثقافاتهم, لم أقاطع أحدهم من باب الفذلكة ولم أزايد علي فكرة من أفكارهم, كنت أصغي بكل جوارحي ادراكا مني أن المتحدث كبير المقام والعلم.
أنا من جيل عرف جدول الضرب وتعامل مع المليم والتعريفة واحترم الجنيه, فقد كان له حيثية وقدر لي أن أري الجنيه المصري يهان أمام العملات الأجنبية وهو صامت, واشتركنا في تعذيبه بالأسواق السوداء حتي دخلت قبضة الدولة ومنحته بعض الاعتبار, كان المليونير في زماننا شخصية نتهيب الاقتراب منها ونتهامس عنها, رأيت المليونير يتضاءل أمام الثروات التي تكونت في زمن الانفتاح بمسميات طريفة أهمها العصامية, بيد أنها في الواقع شطارة وفهلوة وانتهاز فرص.
أنا من جيل سمع عبدالوهاب وأم كلثوم وعبدالحليم, وذاقت الأذن طعم مزيكة السنباطي والقصبجي وزكريا وصدقي, وتمايلنا مع الآهات ودمعنا مع أنين الناي المصلطن ولم نعرف( الدبدبة) بالأقدام اعجابا, جلست بالساعات ليلا مع كامل الشناوي, كنا نمضي ساعات الليل نسمع منه أجمل ما قاله الشعراء, وعشت داخل ردهات صباح الخير قمة الحوارات الأدبية بين الشاعرين أحمد عبدالمعطي حجازي وصلاح عبدالصبور, وتحتدم المناقشة حتي يحسمها أحمد بهاء الدين بمنطقه الهادئ.
أنا من جيل لا يلح ولا يطلب ويتحصن بكبريائه في خندقه ولم يتقن الصوت العالي ولا لف البهتان في سلوفان ملون, حفيت أقدامي حتي تنتقل حروف اسمي من بنط10 أسود الي12 أسود( لغة المطابع القديمة في الصحف قبل الكمبيوتر), وحين صار اسمي بالكليشيه علي صدر ما أكتب, كاد قلبي تتوقف دقاته من الفرح وشعرت أن هذا التاريخ ميلاد ثان لي, كان هذا قبل عناق( الصالح بالطالح) حيث يظهر اسم ابن يومين ولا التابعي في زمانه. وصارت المسألة( فضائية لكل مواطن), حيث انتشرت هذه الدكاكين بصورة غير مسبوقة, وقد يحل الساعي في الفضائية محل المذيع اذا غاب عن موعده أو عطله المحور أو توقف المرور.
أنا من جيل لم يعرف طريقه الي شاشة تليفزيون قبل12 سنة قضيتها في الاعداد الذي كان يمثل لي( الغدة الفكرية والمعلومات), تتسلح بها المذيعة قبل أن تدخل الاستوديو, وعرفت طريقي للشاشة بمغامرة ـ أظن أنها محسوبة ـ لرئيس التليفزيون سامية صادق وخلاصتها( أن أفضل من يقدم مادة هو من أعدها), لم يكن في جيلي محسوبية أو واسطة أو كروت توصية أو غشم غافل وغشيم, وقد عشت ـ في الحاضر ـ معد التليفزيون الذي يستجلب الضيوف بالتليفون ويطلقون علي انفسهم( رؤساء تحرير)!,
أنا من جيل البابا كرلس ومن بعده شنودة الثالث, لم أعرف شيئا اسمه اقباط المهجر يفسدون علينا أوقاتنا بلا طائل, وأغلب الظن كما قابلت بعضا منهم في أوروبا وكندا وأمريكا أنهم( مصريون حاقدون) ربما أمم عبدالناصر ممتلكاتهم أو حدد ثرواتهم وذلك التشنج المفتعل علي المسيحية نحن قادرون عليه مع قيادة سياسية متفهمة للأوضاع القبطية برمتها.
أنا من جيل الاستئذان, استأذن في التليفون الأرضي الثابت, أدق علي باب أي إنسان ولو كنت رئيسه في العمل, لا أضع ساقا فوق ساق أمام أساتذتي, لا أقول كلمة منفرة أمام امرأة, انتمي لزمان( أولاد حتتنا) نحافظ علي بنات الحتة بدمنا ودموعنا, لا أن نتحرش بهن كما الحاضر التعس!. أنا من جيل لم يسمع مطلقا عن نجوم الفتاوي وكنت أصغي في زماني للشيخ المستنير أحمد حسن الباقوري ثم الشيخ الشعراوي ثم لعقل الشيخ محمد الغزالي, لكن يبدو أن الشعراوي ـ بعد رحيله ـ ترك فراغا, ولا أحد يطاول قامة الشعراوي أو الغزالي.
لماذا كل شئ تقزم؟ لماذا( الانفلات)؟ هل هذا( الحراك الاجتماعي أم الجراح الاجتماعي)؟ لماذا انقلب( هرم) الاحترام؟ لماذا يتربص جيل الشباب بالريادات ومن يطلق عليهم الحرس القديم؟ هل جزاء( التجارب الطاحنة) السخرية من أصحابها؟ هل هو( قلة التربية والتعليم) محور جوهري لهذه السوقية؟ واذا جاءت التكنولوجيا فهل استفدنا من( الجوهر) قبل( المظهر)؟ نحن بالمناسبة مستهلكون عظام.
إن جيلي لا يملك إلا مشاعر الحسرة وربما كانت موقفا سلبيا لكن من المهم( تطهير) المجتمع من الشوائب وإعادة الاعتبار لأدب التعاملات في الحياة, والجرأة في مناهج تعليم تنسف المدرسة القديمة التقليدية.
ومثلما كان مجلس أعلي للطاقة, يجدر أن يكون هناك مجلس أعلي للتعليم يجمع كفاءات البلد ويعطيه رئيس مصر وراعيها صفة التنفيذ, فالتعليم( طاقة) غير هدمية أي ليست قابلة للنضوب, أنا لا أعادي الجديد ولا أقف موقفا من العلم, لكني أدعو لتقاليد توفيت في ظروف غامضة!
Friday, November 2, 2007
Subscribe to:
Post Comments (Atom)
No comments:
Post a Comment