Friday, November 2, 2007

شهادة علي حاضر‏

مفيد فوزي

أنا من جيل عرف الصعب واجتازه‏,‏ أنا من جيل وقف طويلا وطويلا أمام باب النجاح حتي انفتح‏,‏ حضرت مجالس الكبار ولم انطق احتراما‏,‏ جلست الي عمالقة الفكر وكنت بأذني أنهل قطرات من ثقافاتهم‏,‏ لم أقاطع أحدهم من باب الفذلكة ولم أزايد علي فكرة من أفكارهم‏,‏ كنت أصغي بكل جوارحي ادراكا مني أن المتحدث كبير المقام والعلم‏.‏

أنا من جيل عرف جدول الضرب وتعامل مع المليم والتعريفة واحترم الجنيه‏,‏ فقد كان له حيثية وقدر لي أن أري الجنيه المصري يهان أمام العملات الأجنبية وهو صامت‏,‏ واشتركنا في تعذيبه بالأسواق السوداء حتي دخلت قبضة الدولة ومنحته بعض الاعتبار‏,‏ كان المليونير في زماننا شخصية نتهيب الاقتراب منها ونتهامس عنها‏,‏ رأيت المليونير يتضاءل أمام الثروات التي تكونت في زمن الانفتاح بمسميات طريفة أهمها العصامية‏,‏ بيد أنها في الواقع شطارة وفهلوة وانتهاز فرص‏.‏

أنا من جيل سمع عبدالوهاب وأم كلثوم وعبدالحليم‏,‏ وذاقت الأذن طعم مزيكة السنباطي والقصبجي وزكريا وصدقي‏,‏ وتمايلنا مع الآهات ودمعنا مع أنين الناي المصلطن ولم نعرف‏(‏ الدبدبة‏)‏ بالأقدام اعجابا‏,‏ جلست بالساعات ليلا مع كامل الشناوي‏,‏ كنا نمضي ساعات الليل نسمع منه أجمل ما قاله الشعراء‏,‏ وعشت داخل ردهات صباح الخير قمة الحوارات الأدبية بين الشاعرين أحمد عبدالمعطي حجازي وصلاح عبدالصبور‏,‏ وتحتدم المناقشة حتي يحسمها أحمد بهاء الدين بمنطقه الهادئ‏.‏

أنا من جيل لا يلح ولا يطلب ويتحصن بكبريائه في خندقه ولم يتقن الصوت العالي ولا لف البهتان في سلوفان ملون‏,‏ حفيت أقدامي حتي تنتقل حروف اسمي من بنط‏10‏ أسود الي‏12‏ أسود‏(‏ لغة المطابع القديمة في الصحف قبل الكمبيوتر‏),‏ وحين صار اسمي بالكليشيه علي صدر ما أكتب‏,‏ كاد قلبي تتوقف دقاته من الفرح وشعرت أن هذا التاريخ ميلاد ثان لي‏,‏ كان هذا قبل عناق‏(‏ الصالح بالطالح‏)‏ حيث يظهر اسم ابن يومين ولا التابعي في زمانه‏.‏ وصارت المسألة‏(‏ فضائية لكل مواطن‏),‏ حيث انتشرت هذه الدكاكين بصورة غير مسبوقة‏,‏ وقد يحل الساعي في الفضائية محل المذيع اذا غاب عن موعده أو عطله المحور أو توقف المرور‏.‏

أنا من جيل لم يعرف طريقه الي شاشة تليفزيون قبل‏12‏ سنة قضيتها في الاعداد الذي كان يمثل لي‏(‏ الغدة الفكرية والمعلومات‏),‏ تتسلح بها المذيعة قبل أن تدخل الاستوديو‏,‏ وعرفت طريقي للشاشة بمغامرة ـ أظن أنها محسوبة ـ لرئيس التليفزيون سامية صادق وخلاصتها‏(‏ أن أفضل من يقدم مادة هو من أعدها‏),‏ لم يكن في جيلي محسوبية أو واسطة أو كروت توصية أو غشم غافل وغشيم‏,‏ وقد عشت ـ في الحاضر ـ معد التليفزيون الذي يستجلب الضيوف بالتليفون ويطلقون علي انفسهم‏(‏ رؤساء تحرير‏)!,‏

أنا من جيل البابا كرلس ومن بعده شنودة الثالث‏,‏ لم أعرف شيئا اسمه اقباط المهجر يفسدون علينا أوقاتنا بلا طائل‏,‏ وأغلب الظن كما قابلت بعضا منهم في أوروبا وكندا وأمريكا أنهم‏(‏ مصريون حاقدون‏)‏ ربما أمم عبدالناصر ممتلكاتهم أو حدد ثرواتهم وذلك التشنج المفتعل علي المسيحية نحن قادرون عليه مع قيادة سياسية متفهمة للأوضاع القبطية برمتها‏.‏

أنا من جيل الاستئذان‏,‏ استأذن في التليفون الأرضي الثابت‏,‏ أدق علي باب أي إنسان ولو كنت رئيسه في العمل‏,‏ لا أضع ساقا فوق ساق أمام أساتذتي‏,‏ لا أقول كلمة منفرة أمام امرأة‏,‏ انتمي لزمان‏(‏ أولاد حتتنا‏)‏ نحافظ علي بنات الحتة بدمنا ودموعنا‏,‏ لا أن نتحرش بهن كما الحاضر التعس‏!.‏ أنا من جيل لم يسمع مطلقا عن نجوم الفتاوي وكنت أصغي في زماني للشيخ المستنير أحمد حسن الباقوري ثم الشيخ الشعراوي ثم لعقل الشيخ محمد الغزالي‏,‏ لكن يبدو أن الشعراوي ـ بعد رحيله ـ ترك فراغا‏,‏ ولا أحد يطاول قامة الشعراوي أو الغزالي‏.‏

لماذا كل شئ تقزم؟ لماذا‏(‏ الانفلات‏)‏؟ هل هذا‏(‏ الحراك الاجتماعي أم الجراح الاجتماعي‏)‏؟ لماذا انقلب‏(‏ هرم‏)‏ الاحترام؟ لماذا يتربص جيل الشباب بالريادات ومن يطلق عليهم الحرس القديم؟ هل جزاء‏(‏ التجارب الطاحنة‏)‏ السخرية من أصحابها؟ هل هو‏(‏ قلة التربية والتعليم‏)‏ محور جوهري لهذه السوقية؟ واذا جاءت التكنولوجيا فهل استفدنا من‏(‏ الجوهر‏)‏ قبل‏(‏ المظهر‏)‏؟ نحن بالمناسبة مستهلكون عظام‏.‏

إن جيلي لا يملك إلا مشاعر الحسرة وربما كانت موقفا سلبيا لكن من المهم‏(‏ تطهير‏)‏ المجتمع من الشوائب وإعادة الاعتبار لأدب التعاملات في الحياة‏,‏ والجرأة في مناهج تعليم تنسف المدرسة القديمة التقليدية‏.‏

ومثلما كان مجلس أعلي للطاقة‏,‏ يجدر أن يكون هناك مجلس أعلي للتعليم يجمع كفاءات البلد ويعطيه رئيس مصر وراعيها صفة التنفيذ‏,‏ فالتعليم‏(‏ طاقة‏)‏ غير هدمية أي ليست قابلة للنضوب‏,‏ أنا لا أعادي الجديد ولا أقف موقفا من العلم‏,‏ لكني أدعو لتقاليد توفيت في ظروف غامضة‏!‏

No comments: