د.طارق الغزالى حرب
منذ ما يقرب من عشرين عاماً، والشعب المصري يطالع ويسمع يومياً تعبيرات ضخمة كبيرة وتنويهات عن خطط وعن برامج ودراسات في جميع أوجه الحياة علي أرض المحروسة.. في السياسة والاقتصاد والتعليم والصحة والنقل والمواصلات والإسكان وغيرها.. واعتمدت الحكومات المتعاقبة طوال السنين علي حالة التوهان وفقدان الذاكرة والسلبية التي أصابت الغالبية العظمي من جماهير الشعب المصري في العقود الأخيرة..
فصارت تكرر الكلام عن البرامج الطموحة والمستقبلية كل عدة سنوات حول نفس الموضوعات تقريباً ولا يلمس معظم الناس شيئاً حقيقياً علي أرض الواقع.. بل علي العكس ربما زادت أمورهم تدهوراً وانحداراً في مناح كثيرة يأتي علي رأسها التعليم بجميع أنواعه، ومعظم الخدمات وأساسيات الحياة الإنسانية السليمة كمياه الشرب والصرف الصحي والسكن والعلاج ووسائل النقل، وحظيت بالتأكيد قلة قليلة من أفراد هذا الشعب بمستوي من المعيشة والخدمات لا يقل عما تتمتع به مجتمعات الأغنياء في الغرب والشرق..
وكنت دائماً أسأل نفسي: تري ما سر عدم تنفيذ هذه الوعود البراقة والآمال العريضة التي ظل وزراؤنا المتعاقبون يشنفون بها آذاننا سنوات وسنوات ولم نر أثراً لها علي أرض الواقع، إلي أن حدث ما حدث في الأيام القليلة الماضية، ورأينا الصحف تنشر في صفحاتها الأولي بشري انتهاء حكومتنا السنية من دراساتها لإنشاء عاصمة جديدة لمصر.. تلك الأخبار التي استقبلها جميع أفراد الشعب، غنيهم وفقيرهم بقدر كبير من السعادة والارتياح، لأن الجميع يعيش يومياً حياة قاسية يندر أن يكون لها مثيل علي وجه الأرض في تلك العاصمة التي صارت بالفعل قاهرة للصحة والنظافة والجمال بل للعقل والنفس البشرية، استبشر الجميع خيراً ورأي البعض أنها ربما تكون نقطة البداية لمشروع قومي كبير يخلص الملايين من أبناء هذا الشعب المنكوبين من جحيم العيش علي أرض المحروسة..
ولكن لم تكد تمر ٤٨ ساعة حتي فاجأ الرئيس الجميع بكلمات صادقة، وجدت فيها التفسير لسؤالي، والتعبير الحقيقي عن كل ما كنا نسمعه طوال عقود مضت..
لقد قال الرئيس عما نقلته الصحف عن السيد صفوت الشريف رئيس مجلس الشوري وعما وصل إليه من دراسات أتمتها الحكومة، إنه «مجرد دردشة وكلام»!! لم أجد أصدق من هذا التعبير في وصف الوعود ومعسول الكلام الذي يتصدر عناوين صحفنا القومية وإعلامنا الحكومي مراراً وتكراراً.. لقد نقلت الصحف الحكومية منذ أسابيع قليلة أحاديث عن أحلام فئة ما في قمة السلطة حول عزمهم علي أن تكون القاهرة عاصمة الشرق وأفريقيا قبل منتصف هذا القرن..
ثم فوجئنا بأن هناك فئة أخري في قمة السلطة أيضاً تتحدث عن عاصمة جديدة!!، وأخيراً انجلت الحقيقة ناصعة بأن كله «دردشة وكلام»!! تحدثوا عن مشروع قومي للتعليم وعن أن التسعينيات ستكون «عقداً للتعليم»، وعن الإتاحة والجودة وعن.. وعن.. وليته ظل حال التعليم كما هو، بل يزداد سوءاً وانحداراً، وصرنا نجد الحاصل علي الشهادة ولا يجيد كتابة اسمه والذين يتخرجون ولا يعرفون شيئاً، وانحدرت اللغة العربية إلي الحضيض، واحتل المدرسون الخصوصيون البيوت في المدن والقري وصارت المدارس حجراً وبشراً أكذوبة كبري نخادع بها أنفسنا.. فأدركت بعد كلمات الرئيس أن ما كنا نسمعه طوال عشرين عاماً مضت لم يكن أكثر من «دردشة وكلام»!!
إن الأمثلة كثيرة وأكثر من أن تعد وتحصي، ولكني اخترت مجال التعليم كمثال، لأنه أساس البلوي وسرها!!، أخشي ما أخشاه أن يكون الحديث الذي ذاع صيته منذ عام مضي عن دخول عصر الطاقة النووية هو من قبيل هذه الدردشة، وأن يكون كذلك الحديث عن قانون جديد للتأمين الصحي يغطي أبناء الوطن كلهم، غنيهم وفقيرهم.. لأن بصراحة شديدة هذه المشروعات الكبيرة تحتاج لتمويل ضخم، ولجهد وتضحيات، لا يقدر عليها النظام الحالي.. فطموحاته مازالت - وبعد أكثر من نصف قرن من قيام ثورة يوليو - لا تزيد علي تحقيق العدالة الاجتماعية ومكافحة الفقر والجهل والمرض!! بالله عليكم ألم تكن هذه هي طموحاتنا في السنوات السابقة للثورة بالإضافة إلي تحقيق الاستقلال التام.. يا إلهي.. أكثر من نصف قرن ومازالت طموحاتنا وآمالنا عند الحد الأدني!! ليرحمنا الله..
Saturday, November 24, 2007
Subscribe to:
Post Comments (Atom)
No comments:
Post a Comment