محمود سلطان
كان مثيرا للدهشة، ما كُشف عنه يوم أمس الأول، أن كل "راكب" من المصريين الذين كانوا على متن القاربين اللذين غرقا أمام الشواطئ الإيطالية، دفع للمهربين 25 ألف جنيه مصري نظير تهريبه إلى الشاطئ فقط ، ثم يتركه لحاله وهو سوف يدبر أمره!الرقم كبير! ويثير كثيرا من اللبس، ومثله من التساؤلات، فإذا كان الشباب الذي دفع 25 ألف جنيه للمهرب ـ وذلك طبعا غير ما سيكون في جيبه لزوم المصاريف ريثما يجد عملا في بلد مثل إيطاليا مستوى المعيشة فيه عال جدا ـ "فقيرا" و"خالي شغل" ولا "يجد لقمة العيش"، فإن ذلك يعني أن فقراء مصر وعاطليهم هم في الحقيقة "أغنياء" ويملكون عشرات الآلاف من الجنيهات التي تجعلهم يدفعون 25 ألف جنيه لمهرب، لينقلهم فقط إلى الشواطئ الإيطالية، وليس لتشغيلهم!رغم أن المبلغ ـ وكما بات متواترا بين الناس الآن ـ يكفي لـ"رشوة" مسئول نظير الحصول على عمل في بعض الجهات التي تشتهر بالتميز في الرواتب في البلد ، ويكفيه مئونة المغامرة عبر البحار والمحيطات و"الشحططة" في بلاد يجهلها وبين عباد لا يعرفهم.. إلا أن الشباب فضلوا أن يدفعوها لمهرب أملا في العمل خارج مصر! .صحيح أنه لا يعرف أحد كيف دبر الشباب مثل هذا المبلغ الكبير، فوراء كل حكاية "مأساة" و"حدوتة" قد تكون مؤلمة أو مدهشة أو مثيرة للقرف، غير أن الذي يظل ماثلا لنا هو أن هذا "المبلغ" ـ أيا كانت طريقة تدبيره ـ يعني أن المسألة عند البعض ليست فقط مسألة بطالة، بقدر أنها ربما تكون قضية أحلام كبيرة تفوق قدرة الواقع في مصر على احتوائها.وإذا كان الأمر على نحو ما أزعم، فإن ذلك لا يعني إدانة الشباب وتبرئة الدولة، بل إن الدولة مدانة في الحالتين، إذ باتت محض جهاز لا دور له إلا إهدار طاقة وأحلام شبابه، حتى باتت العيون والقلوب ـ سواء للفقراء أو للأغنياء ـ معلقة بالخارج ، باعتباره الوحيد القادر على احتضان أحلامهم ورعايتها حتى تنضج وتثمر ، بما يفيد المحاضن التي استقبلتهم وليس البلد الذي طردهم.المغامرة في حد ذاتها، ومخاطرها واحتمالات الهلاك والغرق في عرض البحر، بالغة الدلالة على إرادة حديدية ولا يملكها إلا شخصية استحوذت عليها أحلام كبيرة بشكل يضعها أمام خيارين ، أحدهما الموت المحقق، فلا تكترث إلا لصوت الحلم بما يحمله لها من وعود بحياة يرى أنه يملك كل مقومات تحقيقها، وأنه يبحث فقط عن الأرض التي تستقبله وتفهمه وتعرف قيمته وتقدره وتترك لملكاته حرية الحركة بلا قيود إدارية أو أفساد ورشوة وفلاتر أمنية وتصنيف الناس إلى أولاد ناس وأولاد البطة السوداء. الموضوع كبير ويحتاج إلى مراجعة جادة، وليس إلى مثل هذا "الاستسهال" الذي تعامل به وزير الخارجية ، عندما اكتفى بإدانة الشباب "المستغفل" و"المهربين" المجرمين ، وطلع الدولة منها مثل الشعرة من العجين.
Saturday, November 3, 2007
Subscribe to:
Post Comments (Atom)
No comments:
Post a Comment