Sunday, November 4, 2007

تأمين المفاعل النووي من «الفهلوية»

بقلم د.محمود خليل

في مثل هذا الوقت من العام الماضي طرح موضوع إنشاء مفاعل نووي مصري حين دعا الرئيس مبارك إلي إقامة حوار وطني حول تبني خيار الطاقة النووية لتوليد الطاقة.
ومنذ أيام تجددت دعوة الرئيس للمصريين لدخول عصر الطاقة النووية السلمية خلال افتتاحه المرحلة الثانية من توسعات محطة كهرباء شمال القاهرة. ولا خلاف علي أهمية وجدية الدعوة التي أطلقها السيد الرئيس، خصوصاً أننا نشاهد دول العالم من حولنا تتوجه إلي توظيف الطاقة النووية كبديل لمصادر الطاقة التقليدية القابلة للنفاد، خصوصاً البترول، ذلك الزيت الأسود الذي يوشك علي النضوب في العديد من دول العالم ومن بينها مصر.
ولست هنا بصدد مناقشة مدي أهمية وجدية هذه الدعوة، بل أريد فقط التوقف أمامها كمساحة كاشفة لسمات «الفهلوة» في الشخصية المصرية عندما تنسج حواراً حول مثل هذه الموضوعات التي ترتبط بتوجهات قومية جادة وخطيرة.
يظهر أول معالم «الفهلوة» في الشخصية المصرية في أسلوب معالجة وسائل الإعلام الرسمي لهذه الدعوة، وهي معالجة تنطلق من النظر إلي المصريين كمجموعة من «المساطيل» أو فاقدي الذاكرة. لذلك فلا مانع من أن تقوم صحف الدولة بتكرار نفس الكلام الذي نشرته خلال العام الماضي عندما دعا الرئيس إلي إقامة حوار وطني حول دخول مصر إلي العصر النووي.
فنص ما نشرته هذه الصحف فيما سبق عن ترحيب الإدارة الأمريكية والحكومة الفرنسية والحكومة الروسية بقرار الرئيس مبارك خلال العام الماضي تكرر - بالنص - منذ أيام عندما أعاد الرئيس دعوته للدخول في عصر الطاقة النووية.
لكن أني لهذه الصحف أن تتذكر وهي تسير في الحياة بمنطق الشخصية الفهلوية التي علمتها التجرية أن تنسي ما قالته فيما سبق. فلكي تكون «فهلوياً» حقيقياً لابد أن تكون مقتنعاً - في قرارة نفسك - عندما تكرر كلاماً معيناً بأنك تقوله لأول مرة!.
فالإنسان الفهلوي يظل يكذب علي نفسه حتي يصدق كذبه في النهاية. فالدعوة إلي دخول عصر الاستخدامات السلمية - أو حتي العسكرية - للطاقة النووية ليست دعوة جديدة كما يعلم الجميع، بل هي دعوة متكررة وحاضرة في الخطاب السياسي الرسمي في مصر منذ قيام الثورة.
والتكرار هنا لا يرتبط بالأفكار فقط بل بالألفاظ والكلمات التي تستخدم في نقل هذه الأفكار أيضاً. فمنذ منتصف السبعينيات ثار الحديث حول برنامج نووي مصري يرتكز علي إنشاء ٨ محطات نووية من أجل توفير مصادر بديلة للطاقة البترولية بسبب نقص احتياطياتنا من البترول والغاز والتي قيل - حينئذ - إنها لا تكفينا لأكثر من ٣٠ عاماً قادمة، هذا الكلام - الذي مر عليه الآن ٣٢ سنة - قيل بالنص بعد حرب أكتوبر ١٩٧٣ وتكرر بعد ذلك بالحرف - علي لسان السيد جمال مبارك - خلال المؤتمر الرابع للحزب الوطني في الجلسة الخاصة ببدائل الطاقة!.
وفي عام ١٩٦٠ ألقي الرئيس عبد الناصر خطاباً مدوياً أعلن فيه ضرورة أن تلحق مصر بالبرنامج النووي الإسرائيلي، وهو البرنامج الذي بدأ عشية الإعلان عن قيام دولة إسرائيل عام ١٩٤٨، ووعد بتحقيق هذا الإنجاز حتي لو اقتطعت الحكومة المصرية لقمة الخبز من أفواه بنيها، والآن وبعد مرور ما يقرب من ٤٧ عاماً علي هذا الخطاب ذهب الرئيس عبد الناصر وذهبت حقبة الستينيات وامتلكت إسرائيل أكثر من ٢٠٠ قنبلة نووية، لكن الفكرة «المحنطة» المتعلقة بإنشاء برنامج نووي مصري - حتي ولو تم حرمان الشعب المصري من لقمة العيش - ما زالت تتمتع بنفس الدرجة من البريق والفاعلية.
والدليل علي ذلك أن الإعلان عن بدء برنامج بناء عدد من المحطات النووية لتوليد الكهرباء يوم الاثنين الماضي اقترن بمطالبة الحكومة رسمياً بإعادة النظر في هيكل أسعار الطاقة بالقطاعين الصناعي والمنزلي. معني ذلك أنه من المتوقع أن تشهد الأيام القليلة القادمة ارتفاعاً في أسعار الكهرباء بالمصانع والمنازل وكذلك في أسعار أنابيب البوتاجاز والبنزين وخلافه.
وعند هذا الحد تكون الحكومة المصرية قد «طفحت» المصريين مسألة زيادة أسعار هذه السلع بالطريقة «الفهلوية» المعتادة من خلال تمرير قرار مؤلم عبر مظاهرة كلامية حول موضوع براق.
وسيكون الناس مخطئين أشد الخطأ إذا ضجروا أو تبرموا من زيادة الأسعار ولم يحتملوا وطأتها وآثارها، وليس مستبعداً أن تصف الحكومة من يرفض ذلك بالخيانة العظمي لأنه يعطل مسيرة البلد الهادفة إلي إنشاء برنامج نووي ندخل به العصر.
فلماذا لا نجوع ولا تحرمنا حكومات الثورة المتعاقبة من اللقمة - بإشعال نار الأسعار - من أجل أن تنشئ مفاعلاً نووياً ورقياً. ولست أقصد بهذا الوصف أن أتهم برنامج ( ٢٠٠٧ ) بعدم الجدية، فأنا لا أفتش عن النيات، لكنني أشير إلي الواقع الذي يؤكد أن مشروع إنشاء مفاعلات نووية مصرية ما زال مجرد حبر علي ورق منذ الخمسينيات وحتي اليوم.
لقد بادر بعض مسؤولينا إلي السخرية من سؤال البعض عن إمكانية أن تمتلك مصر برنامجاً نووياً شبيها بالبرنامج الإيراني يعطيها القدرة علي إنتاج سلاح نووي إذا أرادت ذلك، خصوصاً أن عدوها الأول - إسرائيل - يمتلك ترسانة نووية مدججة، وتساءل بعضهم - ضاحكاً - في هذا السياق: كيف نتجه إلي ذلك وننسي أن لدينا جائعين نريد أن نطعمهم، ومرضي نبغي علاجهم، وأطفالاً نسعي إلي تعليمهم، وبطالة نريد أن نتخلص منها؟!
كلام جميل يعطي دليلاً لا يخطئ علي منهج «الفهلوة» الذي يعتمد عليه هؤلاء المسؤولون من خلال التعمية والتغطية علي موضوع مهم بالحديث المفعم بالشجن عن حال الفقراء المصريين الذين لا يجدون القوت والعلاج والمدارس والعمل وتجتهد الحكومة «الطيبة» في توفيرها لهم.
وأنا أذكر هؤلاء الظرفاء من مسؤولينا بالحكمة العربية التي تقول «إذا كنت كذوباً فكن ذكوراً».

No comments: