Wednesday, November 21, 2007

عقائد كافرة

محمد البرغوثي

لا تكاد تخلو الصحف اليومية هذه الأيام من أخبار متلاحقة عن «إحباط محاولة تسفير عدد من الشباب إلي أوروبا بطرق غير شرعية».. و«القبض علي عصابة من عصابات تهجير الشباب في قوارب الموت».
والملاحظ أن أجهزة الأمن المختصة بإحباط هذه المحاولات ومراقبة الساحل الشمالي المصري، استنفرت كل إمكاناتها بعد حادث غرق قاربين قبل أسبوعين، ونشطت في مراقبة السواحل وتجميع المعلومات عن سماسرة الهجرة غير الشرعية،
والمؤكد أن هذا الاستنفار سينتهي بعد أيام قليلة، دون أن يعالج شيئًا، أو يخفف من هذا النشاط الكثيف الذي تشهده سوق تهريب الشباب المصري إلي إيطاليا وأفريقيا وإسرائيل.
الظاهرة إذن مستمرة، لأن الأسباب المنتجة لها مازالت كما هي، ومازالت القوي الطاردة للشاب من بيته وقريته وبلده، أقوي من كل الأجهزة الأمنية ووسائل الإعلام، التي تحاول إحباط محاولات التهريب، أو توعية الشباب بمخاطر الهجرة غير الشرعية.
واللافت في هذه الظاهرة أنها لم تترك قرية مصرية واحدة إلا دخلتها، وسيطرت تمامًا علي عدد من شبانها لايكاد يجمعهم شيء غير أنهم يحلمون بالسفر إلي أوروبا.. فبعض هؤلاء الشبان من الحاصلين علي مؤهلات عليا، وبعضهم لم يحصل إلا علي الابتدائية، واللافت أيضًا أن هؤلاء الشباب ليسوا جميعًا فقراء، فبعضهم ينتمي لأسر ريفية مستورة تمتلك عددًا من الأفدنة، وبعضهم لا يملك إلا صحته واستعداده للمقامرة بحياته.
ما الذي يدفع هؤلاء جميعًا إلي الاشتراك في حلم واحد؟
لقد قرأت معظم ما نشرته الصحف علي ألسنة الناجين من حادثي غرق القاربين، واستمعت إلي بعض أبناء القري التي استقبلت جثث أبنائها الغرقي، ولم أقتنع أبدأ بأن الفقر أو البطالة هما سبب تفشي هذه الظاهرة الرهيبة في معظم القري المصرية.
نعم، الفقر والبطالة، حاضران، ولا يمكن استبعادهما، ولكنهما يفسران فقط رغبة شاب فقير وعاطل في تجريب هذه المغامرة، التي قد تنتهي بالراحة الأبدية من فقره وبطالته ومهانته، أو قد تنتهي بالوصول إلي شاطئ الحلم الأوروبي.
ولكن الفقر والبطالة لا علاقة لهما بانضمام آلاف الشبان من الأسر المستورة إلي قوافل المغامرين بأرواحهم في قوارب الموت، ومن يتحدث - بعيدًا عن وسائل الإعلام - مع عدد من هؤلاء الشبان سيكتشف علي الفور أنهم ضحايا ثقافة كونية سائدة، أهدرت كل القيم الإنسانية النبيلة، وأشاعت في العالم كله ثقافة بديلة لا قيمة لشيء فيها غير «المال».
«المال» في الثقافة الرأسمالية السائدة هو القيمة والمهابة.. وهو الوطن والعائلة، وهو القوة والسلطة والمعرفة أيضًا، و«المال» هو النسب والحسب وفصيلة الدم، ولا شيء غيره يستحق الاحترام أو يجلب التقدير.. وليس أدل علي ذلك من مذلة العلماء في معاملهم، ووحشة المفكرين في غرفهم الكئيبة، وانهمار الأضواء والوجاهة والعظمة علي كل تافه رقيع.. تمكن في زمن قياسي من جمع الملايين، لا لشيء، إلا لأنه تافه ورقيع!
في الريف والمدن، في الدول النامية والمتخلفة، والدول الناهضة والمتقدمة، أصبحت «صلة المال» أقوي ملايين المرات من «صلة الدم».. وأصبح «قريبنا» الفقير عبئًا لا يمكن احتماله، وتراثًا لا تستوعبه غير المتاحف، وأصبح «الآخر» الثري - حتي لو كان عدوا - ثقافة جديدة ينبغي اكتسابها.
وفي ظل هذه العقيدة «المالية» فقد كل شيء آخر قيمته.. وفقدت الحياة - من دون المال - أهميتها. ولهذا سيستمر الهرب والغرق، إلي أن تغرب شمس هذه العقيدة الكافرة.

No comments: