د.محمود خليل
ليس ثم من مفر.. ليس ثم من جديد.. كلمات صرخ بها الشاعر الراحل «أمل دنقل» في الستينيات علي لسان «سبارتكوس» محرر العبيد، ليعلن من خلالها أن شيئاً لا يتغير في الواقع الذي نعيش فيه.ذلك الواقع الذي يعيد إنتاج نفسه في صور متكررة تثير الملل والإحباط.
هذه الحالة من الملل والإحباط يعكسها حديث أي شخص يحكي لك عن شعوره نحو الواقع الذي يحياه. وليس سراً أن نقول إن السبب المباشر لتلك الحالة من الشعور بالإحباط يتمثل في غياب المفاجآت، فحياة المصريين ـ منذ سنين طويلة ـ أصبحت خالية من المفاجآت، فالأحداث متكررة، والكلام واحد لا يتغير، وكل ما يحدث متوقع، وفي النهاية لا جديد في أي شيء.
والمشكلة الأساسية أن هذا الشعور بالإحباط يؤدي إلي شعور مواز باللامبالاة وعدم الاكتراث، وهو شعور كارثي يؤدي بالإنسان في النهاية إلي تحطيم حياته، وتحطيم الحياة من حوله أيضاً.
الناس سئمت تلك التصريحات الوردية، التي يلقي بها المسؤولون إليهم مع مطلع كل صباح، حول ما تم إنجازه من أجل تحسين الأحوال المعيشية ونجاحات الحكومة في إيجاد فرص عمل وزيادة معدل النمو في الدخل الفردي والدخل القومي.
والناس تسأل: كله نجاح نجاح، ألا يوجد أي فشل أو خطأ في سياسة أو قرار أو أداء شخص؟.
إن أحداً لا يمكن أن يتخيل أن يخرج علينا مسؤول ـ ذات صباح ـ ويفاجيء الناس بتصريح يعلن فيه فشل الحكومة، أو إخفاقها في تحقيق هدف معين من أهداف برنامج الحزب الوطني، أو البرنامج الانتخابي للرئيس علي سبيل المثال.
ومن يستعرض تصريحات السادة، رموز الحزب الوطني، في مؤتمرهم العام الأخير يدرك هذا الأمر بسهولة، فحديثهم في مجمله يشف ويرف بلغة الإنجاز، التي تشير إلي الانفتاح الذي يشهده المناخ السياسي، والاستقرار الذي تتمتع به علاقاتنا الخارجية، والنمو الذي يطفح به واقعنا الاقتصادي. فدائماً لا توجد أخطاء وإنما حديث دائم ـ بلا مفاجآت ـ عن النجاح والإنجاز وتخطي الصعاب والحواجر.
وكلام المعارضين هو الآخر لا توجد فيه مفاجآت، فليس من الممكن أن نتوقع ـ علي سبيل المثال ـ أن يخرج علينا أحد كوادر المعارضة في مصر ليعلن أن الحكومة ككل، أو أن مسؤولاً حكومياً معيناً، كان علي حق في قرار اتخذه، أو سياسة انتهجها كانت محل انتقاد هذا الكادر المعارض أو ذاك، وبالتالي فهو يعترف بخطئه في التقدير.
ذلك لا يمكن أن يحدث، وهو أمر طبيعي، فالحكومة التي دأبت علي تعويد الناس علي الاستماع، منصتين إلي لحن النجاح الذي يعزفه مسؤولوها ليل نهار، هي التي تخلق المعارضة التي لا تبصر في الواقع غير الأخطاء وجوانب الفشل والإخفاق، وتحرص علي إطراب الناس بلحن الفشل عند حديثها عن الحكومة ومسؤوليها ورموزه!.
حتي عندما نهبط من سماء الرموز الحكومية والمعارضة إلي دنيا البسطاء العاديين فإن شيئاً في الواقع لا يتغير. ذلك ما تلمحه في أداء وعادات وسلوكيات العديد من الناس.
فالشباب يسمع كل يوم عن غرق من يحاولون التسلل إلي دول أوروبا عبر البحر، ومع ذلك فإن الكثيرين لا يتوبون عن تكرار المحاولة التي تفشل في كل مرة وتنتهي بمأساة يلقي فيها العشرات حتفهم غرقاً في عرض البحر كما حدث مؤخراً.
إنهم يهربون من واقع أصابه العطن، حتي ولو كان بالغرق في عرض بحر متلاطم الأمواج يبتلعهم جوفه بلا رحمة. من الصعب جداً أن نتوقع أن يتوب هذا الشباب عما في رأسه ويتغير ويسعي إلي تغيير الواقع داخل وطنه مهما كلفه ذلك، وهو الذي استرخص حياته في سبيل تحقيق وهم الهجرة.
والأصعب منه أن تلتفت الحكومة إلي الظاهرة وتعترف بأن هذا الشباب الذي يموت ذنبه في رقبتها ورقبة «اللي خلفوها»، وأنها عاجزة عن تقديم حلول لمشاكله وترحل وتترك الفرصة لمن يملك حلاً حقيقياً لمشكلاته.
امتلأت حياتنا السياسية بالأحزاب، وازدحمت حياتنا الإعلامية بمئات الفضائيات، وشوارعنا بملايين السيارات، ومدننا بعشرات المدارس والجامعات، لكن المواطن يدرك أن هذه الحالة من الزحام لا تعكس أي قدر من التنوع المرتبط بالتغيير، فكل الأحزاب تتشابه، وكذا الفضائيات، ونمط التعليم في المدارس والجامعات.
ومهما إدعي أي مسؤول أنه يقدم جديداً أو متميزاً فإن أحداً لا يصدقه فيكفي أن يعلن للناس مضمون ما يريده أو يفكر فيه، حتي يخرج الجميع ألسنتهم له صائحين في نفس واحد «قديمة»!.
والناس معذورة، لأنها لا تبصر فيما حولها جديداً في الأشخاص، أو السياسات، أو الأفكار أو القرارات أو التصريحات أو حتي الجرائم والكوارث التي تبتلي بها وذلك سر إحباطها، فكل شيء يتكرر ويعيد إنتاج نفسه عشرات المرات. وكأن حياتنا تحولت إلي معمل كبير للاستنساخ.
ويعالج الكثيرون حالة الإحباط تلك بالاستهلاك. والمصريون في هذا المقام مدارس مختلفة، فهناك من يدفعه الإحباط إلي المزيد من الأكل، وهناك من يدفعه إلي مزيد من الجنس، أو مزيد من التدخين، أو مزيد من الصرف، أو مزيد من النوم، أو مزيد من الكلام والرغي البطال.
المهم أن يفعل أي شيء قبل أن يقتله اللاشيء علي رأي الراحل العظيم نجيب محفوظ في روايته «ثرثرة فوق النيل». ومع ارتباط الإحباط بمزيد من الرغبة في الاستهلاك تسوء الأوضاع أكثر وأكثر علي المستوي الفردي والاجتماعي، دون أن يأبه أو يكترث أحد.
فالاقتصاد مهزوز والحالة الصحية متردية والناس لا تنتج وعدد السكان يزيد. وهكذا تجني الحكومة سوء عملها الناتج عن إبقاء الأوضاع علي ما هي عليه وعدم تغيير مسؤوليها، حتي ولو كانوا قيادات الهيئة العليا بالحزب الوطني. ويدفع الشعب ثمن إصراره علي عدم تغيير أوضاعه الذاتية والواقع المحيط به واجتهاده في التناغم معه أو الهروب القاتل منه.
Sunday, November 11, 2007
Subscribe to:
Post Comments (Atom)
No comments:
Post a Comment