خالد صلاح
لا أري مكراً أكثر براعة من هذا التقرير، الذي نشرته صحيفة «يديعوت أحرونوت» الإسرائيلية، ونقلته عنها وكالات الأنباء، حول الأرباح الطاغية التي حققتها الدول العربية، المصدرة للنفط خلال الأعوام الخمسة الماضية. «يديعوت» زعمت أن شعب إسرائيل عليه أن يشعر بالرعب، لأن ١١ دولة عربية وإسلامية ربحت خلال أقل من خمسة أعوام ما يزيد علي ٤ آلاف مليار دولار أمريكي، وأن الدول العربية النفطية جنت ٧٠٠ مليار دولار فقط خلال العام الحالي من عوائد النفط، بعد القفزات المتتالية في السعر العالمي، في حين أن إجمالي الناتج القومي في إسرائيل لا يتجاوز ١٧٠ مليار دولار.
* تسألني الآن: وما المكر إذن في هذه المعلومات؟
- أولا: لم يغب عن الصحيفة أن تلوح لرجال الأعمال الإسرائيليين بالإغراءات، التي تشكلها هذه الثروات، حال نجاح الدولة العبرية في الوصول إلي سلام مع الفلسطينيين، مقابل التطبيع الاقتصادي والسياسي مع العرب. «يديعوت» بدت وكأنها تقول لشعبها هلموا إلي هذه الأموال في المملكة السعودية والإمارات والكويت وقطر، وذهبت إلي حد وصف متطرفي المستوطنات في الضفة الغربية بأنهم الأعداء الحقيقيون لدولة إسرائيل، لأنهم يحرمون تل أبيب من نصيب في هذه الكعكة النفطية المتخمة بالدولارات.
ثانياً: توقيت نشر هذه المعلومات في «يديعوت» يسبق المؤتمر الدولي للسلام، المزمع عقده في الولايات المتحدة، وهنا تبدو الإشارة مزدوجة، فالصحيفة تريد أن تقول للعرب أيضا هلموا إلي المؤتمر علي أن نتفاوض بما تملكونه من أوراق، ولا أوراق لدي العرب أهم من هذه الأموال. وعبر إشارات لا تخفي علي أذكياء القصور العربية، حددت «يديعوت» بدقة الوضع التفاوضي للمؤتمر، فإسرائيل لن تمنح أرضا مقابل السلام، لكنها قد تمنح الأرض مقابل نصيب في كعكة هذه المليارات العربية الطائلة.. الأرض مقابل الدولارات، والمستوطنات مقابل الاستثمار والتطبيع، وكل لبيب بالإشارة يفهم!
التوقيت ماكر، والسياق الذي كتبت فيه الصحيفة هذه المعلومات أكثر دهاء، أما الجانب الساذج الوحيد في هذه الرؤية فهو أن قادة إسرائيل وصحافتها وإعلامها ومثقفيها، يظنون أنهم قد ينتفعون بهذه الأموال في استثمارات مشتركة صناعيا وزراعيا ضمن أحلام الشرق الأوسط الجديد، الذي تخيله شيمون بيريز، وخطيئتهم هنا أنهم يظنون أن عوائد النفط تذهب للاستثمارات وتتوجه مباشرة لمشروعات صناعية وزراعية يمكن أن تتقاسمها معهم إسرائيل، لكن الحقيقة أن عوائد النفط لها مآرب أخري، أهمها:
قيمة الطائرات الخاصة، التي يشتريها الأمراء والمشايخ والأثرياء في الخليج، وثمن سيارات الرولزرويس والجاجوار لأبناء الأمراء، وفواتير الألماس للأميرات الحسناوات، وشحنات العطور الفرنسية، وأجور الخادمات الفلبينيات، وخبيرات المساج البلغاريات، وخسائر أندية القمار في شرق آسيا، وثمن القصور علي سواحل جنوب المتوسط في إيطاليا وإسبانيا وربوع بالمادي مايوركا.
هذه النفقات الأساسية ينبغي خصمها أولا من عوائد النفط، قبل أن تقوم إسرائيل بإجراء حساباتها التطبيعية، ثم تخصم أيضا ثمن السلاح الذي تشتريه بلدان الخليج من أمريكا وبريطانيا، لتدافع عن الوجود الأمريكي والبريطاني في المنطقة، وتخصم ثمن معدات التعذيب وآلات القمع في دوائر الأمن وأقسام الشرطة، وقيمة إنشاء ناطحات سحاب عملاقة لا يسكنها أحد في إمارات صحراوية، وإقامة مهرجانات سينما في بلاد ليس فيها دار عرض واحدة، ولاتزال بعض قبائلها تري أن السينما حرام، وصناعها يستحقون الرجم، ثم قيم الرشاوي والعطايا التي توزع علي الصحف العربية في لندن أو في الأقطار العربية، ثم تكلفة إقامة محطات فضائية، تابعة للأمراء والمشايخ، لترويج الفن السعودي في العالم، وشراء الفنانين المصريين واحتكارهم تحت الهيمنة السعودية.
ليس مهما كم يكسب العرب من النفط، ولكن: أين تذهب أموال النفط، هل إسرائيل تغرق في السذاجة، أم أنها تعرف قوائم السلع وتعتزم احتكار كل هذه الخدمات في سبيل السلام، ونحو صياغة مختلفة للشرق الأوسط الجديد؟
Wednesday, November 7, 2007
Subscribe to:
Post Comments (Atom)
No comments:
Post a Comment