حمدين صباحى
ما الخبر المهم في مصر خلال الأسبوع الفائت؟لاتقل لي إنه خطاب الرئيس مبارك في عيد مكتبة الأسكندرية، فما أكثر ما خطب الرئيس وتحدث وصرح وكلها خطب تاريخية كما يراها إعلام الدولة بينما مصر كلها تخرج من التاريخ، ولا تقل اجتماع مجلس الطاقة برئاسة الرئيس بينما أسعار الطاقة في ازدياد وطاقة مصر في انحسار، ولا تقل اجتماع نظيف مع ستة وزراء وثلاثة محافظين وقراراته عن استغلال الأرض حول الطريق الدولي الساحلي في السياحة والصناعة والاستزراع السمكي، لأنهم يجتمعون ويقررون، فإذا أرض مصر ينهبها الفساد ويستولي عليها المحاسيب ويطرد منها الفقراء، لا فلاح ينال فدانا من أرض مستصلحة، ولاصياد يظل في شبر من بحيرة يستولي عليها الحيتان بمباركة وتواطؤ وعجز رئيس حكومة الفساد ووزرائه ومحافظيه، ولاتقل استعدادات حزب الحاكم لمؤتمر العام وترتيبات الوريث الطامح الطامع لمزيد من القوة والهيمنة وإنجاز القفزة قبل الأخيرة نحو كرسي العرش، فالحزب وبرامجه ورئيسه ووريثه في واد والشعب المنهوب المنهوك في واد، وبينهما برزخ ـ من الفقر والفساد والاستبداد ـ لايلتقيان.أنا أقول لك أن أهم حدث في مصر هذا الأسبوع هو إضراب موظفي الضرائب العقارية ،إنهم 55 ألف موظف مطحون ككل الموظفين في الأرض، يطلبون من عشر سنين مطلبا بسيطا عادلا هو مساواتهم بزملائهم في الضرائب العامة وضمهم إلي وزارة المالية بدلا من تبعثرهم وإذلالهم في محليات المحافظين، بعد سنوات من المطالبة وشهور من الإعداد والتحضير والوقفات الاحتجاجية والاعتصامات التحذيرية اجتمعوا أمام وزارة المالية منذ أسبوع في مظاهرة سلمية، كانوا خمسة آلاف من عديد المحافظات وارتجت الأبراج الشاهقة لمبني الوزارة في العباسية علي وقع هتافهم: «يوسف بطرس.. يوسف غالي.. إنزل من برجك العالي» لكن الوزير لم ينزل للموظفين المتظاهرين لأنه لم يكن في برجه العالي هنا، بل في البرج الأعلي هناك في واشنطن، حيث يستجلب الرضا السامي من الإدارة الأمريكية، ويستحصل علي شهادات الصلاحية من سدنة صندوق النقد الدولي.هناك البرج العالي الذي يحج إليه الوزراء والرؤساء والملوك ورجال الأعمال وأدعياء الديمقراطية ومندوبو مبيعات شعارات الحرية وأمراء الحرب وأباطرة الفساد من كل بقاع الأرض يبحثون عن الحماية الأمريكية لعروشهم المنخورة ويستقوون بأنياب الإمبراطورية علي شعوبهم المقهورة.وما أعجب طائفة اللائذين بأمريكا الذين يحتمون بها ويحجون إليها.فهي تضم الطغاة المحليين من الحكام المستبدين، وتضم الدعاة المعارضين الذين يتصايحون بالديمقراطية ضد أتباع أمريكا من الحكام!!لكن موقف أمريكا التي تمد الخيوط إلي الحاكم ومعارضيه في نفس الوقت لايثير العجب، فهي تستخدم الجميع لمصلحتها الإمبراطورية و تحرك الجميع لخدمة سياستها في الهيمنة، وهي قادرة، تبعا لمصالحها علي حرق أي «كارت» تلعب به، حاكما تابعا أو معارضا تابعا لأن «كروت» اللعبة ليس لها أي أهمية أمام مصلحة اللاعب الإمبراطوري!!مايغيب عن طائفة اللائذين بأمريكا هو أن الإمبراطورية علي وشك المغيب وأن برجها العالي يتهاوي في العراق وأفغانستان وأن انهيار برجي نيويورك في أحداث 11 سبتمبر ليس آخر ولا أخطر الانهيارات، وأن أمريكا التي يلوذون بها لاتستطيع حماية نفسها..وهذا حديث طويل جميل نرجو أن نعود إليه لكننا نتركه الآن ونترك اللائذين بأمريكا لنعود إلي اللائذين، بالوطن.في قلب مظاهرة موظفي الضرائب العقارية أمام برج وزارة المالية ارتفع صوت امرأة مصرية صميمة أصيلة ورددت حناجر الخمسة آلاف متظاهر هتافها: «هنوردها خالية» وكان هذا هو الإعلان الجماعي عن إضراب الموظفين عن تحصيل الضرائب.والمقصود هو حوافظ التوريد التي يسجل فيها صراف الضرائب العقارية أرقام القسائم والمبالغ التي قام بتحصيلها.. و التي يقوم بتوريدها للبنك في نهاية كل يوم عمل عن ضرائب المباني والملاهي، وفي نهاية كل عشرة أيام عمل عن ضرائب الأطيان.الإضراب هو الحل..وتوريدالحوافظ خالية هو سلاح المطالبين بحقوقهم، ومادامت الحصيلة لاتنفعهم بل تدخل جيوب رؤسائهم وهم محرومون فلماذا يحصلون؟مظاهرة الضرائب العقارية تحولت إلي مسيرة سلمية نادرة الحدوث في شوارع القاهرة ولعلها الأطول والأهم منذ مظاهرات 20 مارس 2003ضد الغزو الأمريكي للعراق. فقد تحرك المتظاهرون حاملين اللافتات من مقر الوزارة في العباسية إلي مقر مجلس الوزراء في القصر العيني سيرا علي الأقدام. وهناك لم يقابلهم نظيف ولم يتحدث إليهم مسئول ولم يستمع إليهم إلا موظف مثلهم من الموظفين في الأرض في ديوان رئاسة مجلس الوزراء.كان أحد قادتهم واضحاً وجارحاً حين قال لزملائه المتظاهرين: «أحمد نظيف لايقابل أمثالكم. ومن تكونوا حتي يقابلكم؟ هل أنتم حرامية بنوك؟ هل أنتم مستثمرون أجانب؟ هل أنتم حيتان فساد؟ هل أنتم مناديب من السفارة الأمريكية أو مبعوثون من صناديق التمويل الدولية؟ أنتم مجرد موظفين مصريين مطحونين؟ فكيف يقابلكم رئيس وزراء مصر»؟ وانفضت المظاهرة ليبدأ الإضراب.البطل الحقيقي لأحداث الأسبوع هم هؤلاءالموظفون الذين خلعوا ثوب الخضوع وطلبوا حقهم بأعلي صوت وأنجح طريقة: التظاهر والإضراب.وفي قلب هؤلاء الشرفاء البسطاء يبزغ نجم كمال أبو عيطة الشريف البسيط النبيل الجميل الذي قاد المظاهرة والهتاف والمسيرة السلمية وأدار باقتدار وإيمان بقضيته وثقة في زملائه ويقين في النصر، هذه الملحمةالنقابية.كمال أبو عيطة القلب الطيب والفطرة النقية والإرادة الفولاذية لم يكن كعادته طوال ثلاثين عاما يهتف ضد أمريكا والصهيونية والتطبيع ومباحث أمن الدولة والحاكم والحكومة بل كان يجسد نموذجا نادرا للوعي السياسي العميق عندما يلتحم بمطلب نقابي بسيط، لا يخلط في الشعارات بين السياسي والاجتماعي ولا يفصل في الممارسة بينهما، كان كمال أبو عيطة بتواضع القائد الحق يكتفي بأن يردد خلف إحدي زميلاته: «هنوردها خالية».
الصوت العالي لمظاهرة واعتصام الموظفين لايعادله في الأهمية والدلالة إلا صمت القبورالذي خيم علي غيطان الفلاحين، إنه مأتم القطن الذي يوزع الحسرة علي البيوت الفقيرة في ربوع مصر.إنها جريمة الحكومة ضد القطن والفلاح وضد مصر!متوسط إنتاج الفدان هذا العام سبعة قناطير وتكاليف الفدان حوالي 4000 جنيه وإيجاره في المتوسط 3000 جنيه أخري. ولكي يخرج الفلاح من الموسم الذي يستمر تسعة أشهر بدون ربح وبدون خسا رة فإن سعر القنطار ينبغي أن يكون ألف جنيه، حتي لايتعرض الفلاح للموت وخراب الديار، السعر الآن 600 جنيه!! وهذا هو الموت للقطن وخراب الديار للفلاح. لماذا يصمت الفلاحون؟ لماذا يبتلعون حسرتهم و ألسنتهم؟ لماذا لم نشهد حركة فلاحية مصرية مؤثرة منذ الانتفاضة الكبري للفلاحين ضد قانون العلاقة بين المالك والمستأجر عام 1997 والتي كانت أوسع وأكبرانتفاضة طبقية في مصر طوال القرن العشرين؟هل السبب هو حرمانهم من حق تكوين نقابات للفلاحين؟ هو تبعية التعاونيات الزراعية لأجهزة الدولة وتواطؤها ضد مصالح الفلاحين؟إذا كان موظفو الضرائب العقارية «هيوردوها خالية» فإن الفلاحين - أيضا- «هيوردوها خالية» أي أنهم سيمتنعون عن زراعة القطن وفي الموسم المقبل ستكون مصر التي اشتهرت في الدنيا كلها بالقطن خالية من القطن.الامتناع عن التحصيل والامتناع عن الزراعة، يعني الإضراب، يعني العصيان، يعني طريق المقاومة ضد حكومة الفساد وهو الطريق المفتوح للمصريين حتي يأتي يوم يهتفون فيه جميعا عن مصر «هنوردها خالية» أي خالية من هذا الحكم.
Thursday, November 1, 2007
Subscribe to:
Post Comments (Atom)
No comments:
Post a Comment